الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التشريح السياسي.. الحدود والمفاهيم

12 أغسطس 2014 00:00
في مجال العلوم السياسية، يميز المختصون الأنجلوساكسونيون بين السياسي (polity): أي السلطة السياسية، الحكومة داخل المجال السياسي العام، ومجموعة من الميكانيزمات التي تبلور وحدة وديمومة الحقل الاجتماعي، ولعالم الاجتماع الأميركي تالكوت بارسونز (TalcottParssons) تعريف شامل لذلك: «كل شأن يعتبر سياسياً عندما يهتم بتنظيم وتعبئة الموارد الضرورية لإنجاز أهداف المجموعة البشرية». أما (politics) أي السياسة: فهي الحياة السياسية، حلبة الصراع التي يتبارز داخلها الفاعلون السياسيون. أما policyأي سياسة: فهو الفعل السياسي، وخطة الطريق الدالة على وجود السلطة السياسية التي تخلق مجموعة من القرارات والعمليات المحسوسة ذات الصبغة العامة أو القطاعية. فرجل السياسة يهتم بتنظيم وتعبئة الموارد الضرورية لإنجاز أهداف المجموعة البشرية، بمعنى أنه يؤدي الأمانة السياسية والتاريخية التي اؤتمن عليها وهي حشد الأفراد وتنظيمهم التنظيم الأمثل في مجموعات مهيكلة قائمة على القيم السياسية المثلى ومبنية على حب الأوطان ونسيان الأنا السياسية أو المصالح الضيقة أو النرجسية المقيتة. ومن هنا يخلق مجموعة من القرارات والعمليات المحسوسة ذات الصبغة العامة أو القطاعية عندما يصل إلى سدة الحكم. . . وبهذه الطريقة يمكن للقائد السياسي أن يجمع الموارد المالية والبشرية بطريقة مشروعة، وأن تكون للسلطة السياسية مشروعية قائمة محوطة بهالة من الاحترام والتقدير لأنها تمثل الجماعة السياسية التي تجعل مصلحة الوطن فوق مصلحة الطائفة وكل دواعي التشرذم والصراع. . . وإذا دخلت هذه الفيروسات الأخيرة إلى الحقل السياسي فإن البناء سيكون خاطئاً وقد يتهاوى سريعاً كما تهوي أوراق الخريف، ولنا في تجربة العراق وليبيا حالياً، أفضل مثال. . . حيث نرى مليشيات مسلحة تدافع عن مصالح مجموعات سياسية ليس باسم مصلحة الوطن العليا ولكن باسم المصلحة الضيقة، وتحت دعاوى طائفيات معينة ما أنزل الله بها من سلطان. . فهذه المخلوقات العجيبة التي تعيث في الأرض الفساد المبين تبعد دولها قروناً إلى الوراء وتكون منظومة تبشر بميلاد نظام سياسي خطير بعيد عن فكرة الإجماع والتعاقد وبعيد كل البعد عن مجتمع المواطنين، مجتمع الحرية المدنية والحق الطبيعي. وإذا كان الفكر السياسي الحديث قد جعل من الحرية أكبر ركيزة للمجتمع المدني -مجتمع المواطنين- فهو لم ينظر إطلاقاً إلى الدولة كمصادِر أو مقيد لتلك الحرية بل من حيث هي تنظيم يحقق نوعاً من التنازل عن الحقوق الفردية لتأسيس حق عام، هو الطريق الوحيد لرعاية تلك الحقوق الفردية. . . فكيف يمكن تصور هذا وذاك إن لم توجد الحرية أصلاً داخل المجال الاجتماعي وكيف يمكن للدول أن تحافظ على الأقل على قشرتها الحامية للمؤسسات والأفراد؟ لقد تابعت حروباً وأزمات في تاريخ الأمم المعاصرة ابتداء من سبعينيات القرن الماضي فما رأيت في كتب التاريخ ولا تحت سطورها ما قد يدفع أقواماً، مهما كان جهلهم ومقتهم وسوؤهم، لتخريب مطارات مدنهم وحرق طائراتهم. . . يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي إخوانهم، والبيوت هنا هي كل مكونات الدولة التي عليها قوام ومصالح البلاد والعباد. أحس بأن هناك طلاقاً بائناً (وصعب أن يكون طلاقاً رجعياً) بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي في دول كليبيا والعراق، بدخول مجموعات عسكرية تقاتل، ومجموعات إرهابية ليست لها صلة لا بالإسلام ولا بالعقل وتقاتل هي أيضاً. فأين يمكن تمثل الهيمنة والسيطرة الحقيقيتين كما عند المفكر الإيطالي الشهير أنتونيو غرامشي؟ فالسيطرة الضرورية الصائبة هي التي تملك السلطة السياسية باستعمال أدوات مادية عليها إجماع الخاص والعام وعليها مدار العلوم السياسية الحقيقية. كما أن الهيمنة هي تحقيق تعميم نظام من الأفكار والقيم والتصورات التي تنشرها المدرسة والصحافة والحزب والنقابة والجمعيات بناء على مسلَّمات متفق عليها في الديمقراطيات العالمية، ولا تمنع من تكييفات داخلية باختلاف الأحوال والخصوصيات الثقافية، كما هو شأن التجربة الهندية مثلاً. . . ووظيفة هذه الممارسة الإيديولوجية هي إعادة إنتاج شروط السيطرة السياسية. . . فأدوات العنف المادي الصحيحة في تلك الدول غير موجودة، وحتى لو كان فيها مثقال ذرة من الخير فإنها لا تكفي لتأمين السيطرة بل يحتاج الأمر إلى تحقيق وظيفة الهيمنة بتشغيل مُحكم للأجهزة الإيديولوجية ذات الأصول السلمية والآمنة والخالية من الشوائب اللاديمقراطية من أجل إعادة إنتاج شروط السيطرة. . . ولا أظن أن أمثال «داعش» يمكن أن تتمثل ذلك فهي مؤذنة بخراب شامل وتدمير للأجهزة الإدارية والأجهزة الأمنية والمؤسسات السياسية والأجهزة الإيديولوجية، أي كل السلطة وكل حقل الدولة ومكوناتها التي يحتاج إليها المواطن. ورجل السياسة يتبارز مع أمثاله في حلبة الصراع، مع الفاعلين السياسيين الآخرين ليس بالأيدي والشعارات الرنانة والسب والقذف والشعبوية الزائفة ولكن بالبرامج السياسية لتصل المجموعات السياسية إلى سدة الحكم. . . ومنذ ثلاث سنوات ونحن ننبه عين القريحة من سِنة وخطورة الشعبوية في دول التغييرات السياسية، فكتبنا في هذه الصحيفة الغراء مثلاً: «عار على المعارضة إن هي اكتفت فقط بعملية التغليط وإفساد العملية السياسية، وعار على المؤسسة الحكومية إن اكتفت بتبخيس عمل المعارضة والارتماء في أحضان الشعبوية الزائفة، فإن ذلك تزوير للتمثيل الاجتماعي وتشويه للديمقراطية». . وهذا المخاض ولد الآن دماراً ومخلوقات كعناصر «داعش» لم يفهم معظم الناس في أي عالم نشأوا، وكيف تكونوا في رمشة عين في مجموعات مسلحة زاحفة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©