الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الوثوقية والإرهاب

الوثوقية والإرهاب
22 يوليو 2015 22:15
للإرهاب، من حيث هو الاستعمال الأقصى لأدوات العنف التكنولوجي، عدة مظاهر وأبعاد. فهو حدث بالمعنى القوي للكلمة أي وقائع تدميرية ودموية مفجعة مصحوبة عادة بصخب إعلامي وارتجاج في السياسة وقلق لدى الرأي العام... لكن له جذور نفسية بعيدة وعميقة، إذا ما غضضنا الطرف، موقتا ومنهجيا عن السياقات والتحريضات السياسية ومناخ العصر، هذه الجذور النفسية الفردية البعيدة ذات بعدين: بعد وجداني عاطفي ووجه إدراكي أو اعتقادي، ونحن نعرف أن البنية المعتقدية لأي شخص هي بنية مركبة تتضافر في تشكيلها تأثيرات الوسط والمحيط والتجارب الشخصية وغيرها. أما البعد العقلي بالمعنى المنطقي والفلسفي فهو مطمور تحت ركام الانفعالات والعواطف والمعتقدات واليقينيات، بل هو أداة في يدها ومسخر لخدمتها. السمة الأساسية لبنية المعتقدات هي كثافتها وصلابتها وقدرتها على استقبال كل ما يتلقاه الشخص من معلومات وآراء ومشاهدات في قالب جامد، حيث يشكل منها كتلة من اليقينيات التي لا يداخلها الشك أبدا. هذه البنية اليقينية أو الدوغمائية الصلبة هي مبدئيا في تعارض مع مقومات الفكر الحديث، لأن هذا الفكر اقترن منذ البداية بالشك والحذر المنهجي. والعلامة الرمزية لذلك هي موقف الشك المنهجي الذي اتخذه ديكارت حيث طرح جانبا كل المعتقدات والملقنات وبدأ يفحصها ويفرزها واحدة واحدة. فالفكر الكوني الحديث ارتبط منذ بداياته بالجرأة على الاستخدام الأقصى للعقل، وبالنقد العقلي للموروث. بل إن فكرة «المنهج» هي ذاتها فكرة حديثة لأن خلفيتها الفلسفية هي أن الحقيقة في أي ميدان من ميادين المعرفة لا تقوم على الآراء والمعتقدات المتلقّاة والمتوارثة بل على «طريقة» الملاحظة والتجريب والافتراضات التفسيرية. فالمنهج هو الطريق إلى تأسيس معرفة منظمة ومستقلة عن الموروثات والمتلقيات وعن التسليم القبلي، أي معرفة هي أساس ذاتها أو تستمد مشروعيتها من ذاتها لا من ترسانة المعارف والمعطيات والآراء السابقة. البنية الوثوقية (Dogmatism) كانت محط العديد من الدراسات المنطقية والسيكولوجية ومن أبرز هذه الدراسات البحث العميق الذي نذر السيكولوجي الأميركي روكيش حياته لدراستها واستخراج بنيتها، وكذا الباحث الفرنسي (؟؟؟؟؟؟) واللذان يرجع فضل التعريف بهما إلى المفكر المغاربي المعروف محمد أركون. هنا.. أعرض في إيجاز لبنية «الفكر» الوثوقي كبنية صلبة وكجذر سيكولوجي معرفي عميق للتطرف النظري والعملي (الإرهاب). = السمة الأساسية «للفكر» الدغمائي أو الوثوقي (وبالتالي للشخص الدغمائي الوثوقي) هو التصلب أو التخشب أو التشيؤ الفكري. = الطيف الدلالي للتصلب الذهني يشمل المركزية المطلقة للمعتقد، والتمسك بالحرفية والمعنى الأولي، ورفض التأويل باعتبار أن هناك معنى ومدلولاً واحداً ووحيداً مباشراً للنص المركزي ويحصر القيمة التفسيرية والتوجيهية على سلالة (رمزية أو فقهية أو عائلية...) بعينها، وعلى طقوس أدائية بعينها... في هذا الأفق الدلالي تذوب الفوارق وتنبذ الاختلافات والنتوءات إما باستدماجها أو برميها «خارج» النسق. = يؤدي النسق المعتقدي في هذه الحالة أدوارا ووظائف نفسية واجتماعية وعقدية لا حصر لها. فهو حصن ثقافي دفاعي وهجومي، وهو حامي وراعي الهوية النقية، والصفاء الروحي، والتراص الداخلي بل إن الجماعة لتكاد تتماهى مع هذا النص الذي يصبح أيقونة ورمزا بديلا يغذي ويدعم النرجسية الجماعية والفردية. لكن للنسق دلالات أخرى خاصة فهو حامل لا فقط للتقدير الذاتي، بل أيضا للحلم ولليوتوبيا أي الحلم بالمدينة الفاضلة الأخروية والدنيوية من خلال عملية إضفاء طابع يوتوبي Utopisationعلى المعتقد المشترك، عبر تقوية البعد التبريري والتسويقي والتبسيطي، بل السحري أحيانا (Mytisation)، والخلاصي (Eschatologisation)... هكذا يتحول النسق المعتقدي إلى أداة متعددة الوظائف فهو ينتج ذاته باستمرار عبر الأفراد والجماعات والأجيال وعبر وحدات القيم الفرعية (Doxêmes) كما يخلق لنفسه رعاية وحماية وبطانة أورثوذوكسية ويضمن عملية تلقين ونقل الوحدات الدلالية في كل الاتجاهات وعبر كل المستويات (اللغة- الخيال- السلوك- التصورات...) وخاصة للأجيال الناشئة. ففي حال انفتاحه وازدهاره تزدهر وتتيسر سيولته و تداوله عبر قنوات الثقافة والسلوك، وفي حال انسداده يطور أدواته الدفاعية والهجومية حماية للنواة المعتقدية ويتخذ بالتدريج سمات إيديولوجية (Ideologisation) تسهر على الحماية والتوجيه والتغذية التصورية والتأطير السلوكي بحيث ينضبط الأفراد للنسق. = آليات هذه البنية الوثوقية تتعلق بالأفراد كما تتعلق بالجماعات وبالبنيات الثقافية، وبالثقافة عامة، حيث تستشري ثقافة أو ذهنية دوغمائية تغلب فيها أدوار الدفاع عن الذات والعقيدة على مهام التفكير والبحث والتجديد. فقد تكون ثقافة ما متفتحة وقادرة على مواجهة ومحاورة الآخر المختلف بسبب قوتها وقدرتها على الفهم والاستيعاب كما كان الأمر بالنسبة للثقافة العربية في مرحلة ازدهارها، وقد تتحول الثقافة إلى بنية مغلقة، تكرارية واجترارية تغلب فيها الآليات الدفاعية على آليات الاستيعاب والتطور كما هو الحال اليوم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©