الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«الرمال العربية».. رحلة استكشاف في صورة العربي بعيداً عن السياسة

«الرمال العربية».. رحلة استكشاف في صورة العربي بعيداً عن السياسة
24 يوليو 2013 02:37
جهاد هديب (دبي)- من غير الممكن لكتاب «رمال العرب» أن يندرج في نطاق أدب الرحلات بوصفه جنسا أدبيا صافيا، بل يفيض الكتاب عن حدود هذا النوع ويتجاوزه إلى السيرة الذاتية الأدبية وأدب الرحلات وإلى ما يمكن أن نسميه، بقَدْر من التجاوز، أدب الاستكشاف. لقد صدر الكتاب في أولى طبعاته باللغة الانجليزية العام 1955عن دار النشر الانجليزية «لونج مان وجرين وشركاؤه المحدودة» ثم صدر في العام 1977 عن دار النشر ذائعة الصيت عالميا «بنجوين» ليحقق لصاحبه مجدا أدبيا مرموقا في «الأدب الجغرافي» البريطاني، هو الذي لم يكن ليكتب هذا الكتاب لولا العديد من النصائح التي تقدّم بها إليه أصدقاء من السلك العسكري البريطاني وأعضاء الجمعيات الملكية الجغرافية البريطانية المعنية بالرحلات الاستكشافية والأدب الجغرافي على نحو صميمي. والسؤال الذي يمكن لقارئ، إحدى ترجمات «الرمال العربية» إلى العربية، حيث صدر في غير طبعة كان آخرها هذا الكتاب الصادر عن دار الورّاق للنشر البغدادية – البيروتية، إذ صدرت منه طبعتان حتى الآن، .. السؤال الذي يمكن لقارئ أن يطرحه، يقينا، سوف ينصبّ على هذه الحميمية والدفء اللذين يبثهما الكلام على قارئه. ولعل مصدر هذه الحميمية والدفء يتمثل في أمرين: الأول منهما تقني محض، أي أنه يتعلق بتقنية الكتابة. فالكاتب هنا يتذكر رحلة استغرقت وقتا طويلا من عمره الشخصي بدأت مع لحظة ميلاده لعائلة آرستقراطية انجليزية العام 1910 عندما كان والده سفيرا للتاج البريطاني في أثيوبيا، وامتدت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، أي أنه وُلد ونشأ وعاش كإنجليزي لا يتذكر حيوات الآخرين من العرب، تحديدا، فحسب بل حياته هو أيضا، أي أن «الرمال العربية» بقدر ما أنه كتاب في الاستكشاف فإنه أيضا المدونة الشخصية لولفريد ثيسيغر نفسه. ويرتبط هذا التذكر بخيط رفيع مع آخر هو ظهور الكثير من الشخصيات الرئيسية أو الثانوية ثم اختفاؤها ما يجعل الكتاب أقرب إلى العمل الروائي، أو بالأحرى أقرب إلى العمل الروائي – السينمائي بنسخته الانجليزية أو الأميركية، فيجد المتورط في القراءة نفسه وقد أخذ يتخيّل حياة الكاتب تماما كما لو أنها شريط سينمائي كلاسيكي يعود إلى حقبة الأربعينيات من القرن الماضي. لكنه تخيّل يمليه سرد الكاتب على القارئ. أما الأمر الثاني، فيتمثل في أن الكتاب ليس استشراقيا، إنما نتاج خبرات إنسانية في العيش المباشر والاحتكاك اليومي مع جماعة بشرية تعيش في ظرف بيئي يتسم بالشظف والقسوة؛ فتركت هذه البيئة أثرها الجلي في ثقافة الناس وتصوراتهم وفكرتهم عن أنفسهم وعن «الآخر» وبالتالي على أمزجتهم وحساسياتهم تجاه ما يحيط بهم من كائنات حيّة وجامدة متعينة في هذا المحيط. لا يشعر المرء، أثناء ما يقلّب صفحات «الرمال العربية»، وقد أهداه صاحبه إلى دليليه، بن قبينة وبن غبيشة، في رحلته في شبه الجزيرة العربية اللذين منحاه اسما عربيا يتنقل به في القفار وبين الرمال وقد وفّرا له قَدْرا كبيرا من الطمأنينة على نفسه وماله، أن ولفريد ثيسيغر لا يتعالى على أي من عادة من عادات البدو أو يأنف من سلوك، شخصي أو جمعي مرتبط بثقافة شخصية أو جمعية. ففي جانب كبير من حديثه عن الصحراء العربية وناسها احترام واضح للثقافة الفطرية التي انطبع عليها البدوي العربي وكذلك لمعارفه اليومية التي اكتسبها بخبرات متراكمة من السابقين عليه. أضف إلى ذلك فهمه العميق لما تركته هذه الثقافة على نفسية البدوي العربي وكذلك الطبيعة التي انعكست عليه بقسوتها وصراحتها ووضوحها وحدّتها والأماكن الخطرة فيها تلك التي لا يطأها إلا مَنْ يعرفها تمام المعرفة. هكذا، فإن البيئة بكل ما تنطوي عليه من عناصر، حيّة وجامدة، تبدو برّية في «الرمال العربية» وكذلك الإنسان، إذ يصوّره المؤلف صديقا لبيئته، إذا أن وراء التوصيف الذي يقدمه ثيسيغر لقارئه تأمل من نوع ما في ذكرياته مع الناس والمكان اللذين ألفهما الرجل أثناء تجواله طيلة الفترة التي استغرقتها رحلته. لكن ما الذي يقصده ولفريد ثيسيغر من هذا العنوان: «الرمال العربية»، هل المعنى ينحو باتجاه السياسة بالمعنى الاجرائي لهذه الكلمة؟ أي هل كان «لورنس عرب» آخر وقد وصل إلى نتيجة أخرى مخالفة؟ بالمقابل، بالتأكيد لم يكن يقصد رمالا متحركة ولا الإشارة لرياح تحركها وتنقلها من مكان إلى آخر وفقا لمزاج ما للطبيعة ذاتها لم يُقدَّر للرجل إدراكه، وهذا كله من جهة. ومن جهة أخرى ورغم ارتباط ثيسيغر بالمشروع الكولونيالي لبلاده في المنطقة وفي مرحلة زمنية شديدة الخطورة تتمثل بالتنقيب عن النفط، فإننا لا نجد في الكتاب إشارة أو معلومة تفيد بتوظيفها في هذا السياق، إنما على العكس تماما فهو لا يتوانى عن توجيه نقده اللاذع، فيقول عن أولئك المنقبين عن البترول: «سيأتون بنتائج أهم من التي أتيت أنا بها، لكنهم، لن يعرفوا روح البلاد وعظمة العرب، ولو ذهب أحدهم الآن إلى هناك، بحثا عن الحياة التي عشتها فلن يجدها، لأن الفنيين قد ذهبوا قبله منقبين عن البترول؛ والصحراء التي سافرت إليها تركت عجلات الشاحنات فيها آثارا بغيضة، واتسخت ببقايا البضائع المستوردة من أوروبا وأميركا». أيضا وصل ثيسيغر إلى الجزيرة العربية وقد بدأ الناس يتفتح وعيهم الجمعي على حضور ثقيل للآخر في تلك المرحلة السياسية الصعبة ليس على شبه الجزيرة وحدها بل على كل المنطقة العربية بأكملها، وعرف أهلها وناسها كما عرف شيوخها الذين أمّنوا له الحماية الشخصية في تنقلاته، ومن خلال علاقته بهم تعرّف على الكثير من طبيعة العلاقة التي تحكم العرب بأنفسهم وكذلك التقلبات السياسية والاجتماعية في أوساطهم التي ردّها ثيسيغر إلى منظومة العلاقات الاجتماعية التي تحكم الحكّام بعائلاتهم. ما يخلص إليه المرء من الكتاب أن «الرمال العربية» هي العرب أنفسهم، بمعنى أن الكتاب هو بحث أنثروبولوجي في الشخصية العربية في واحدة من تلك اللحظات التاريخية التي بدأ يتشكل فيها وعي جديد لدى العرب بأنفسهم وبالعالم المحيط بهم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©