الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل تغيّرالثّورات ذائقة الجمهور الفنية؟

هل تغيّرالثّورات ذائقة الجمهور الفنية؟
27 يوليو 2011 19:20
لعبت الثورات على مستوى العالم بما فيه العالم العربي دورا مهما في تغيير نمط الحياة الاجتماعي، بل والعمل على تكريس أنواع من الفنون التي تتناسب ورياح التغيير، ومن ذلك فن الموسيقى الذي يعتبر فنا ولغة عالمية تستطيع اختراق الحدود دون قيد أو شرط، وربما تكون الثورة الفرنسية واحدة من أهم النماذج التطبيقية في هذا المجال الحيوي. في سنة 1790 كانت الثورة الفرنسية قد بدأت بالفعل، ولم تكن هذه الثورة بدويها مجرد حادث سياسي عظيم الشأن، بل كانت حادثا اجتماعيا وحضاريا فذّا، ذا آثار بعيدة في الحياة والحضارة والفن والعادات الاجتماعية، فقد حصلت جموع الشعب المعروفة بالطبقة الثالثة والتي كانت حتى ذلك الوقت محرومة من ممكنات الحياة على حقوق جديدة لم تحصل عليها من قبل. نستطيع القول إن الثورة الفرنسية بكل حمولاتها نجحت في تغيير الجو الروحي تغييرا بعيد الأثر، وقد انعكس ذلك على بيئة الفنون وفي موطن نشأتها، وظهر أثر هذه الأفكار الديمقراطية النامية حتى قبيل الثورة، في الأدب والمسرح والموسيقى والأوبرا، ولم يكن الحدث انفجارا مفاجئا، فقد نما التّبرم الذي أدّى إليه في فرنسا على مهل زهاء خمسين سنة أو يزيد. وفي البلدان الأخرى ازداد التعلق بالمبادئ الديمقراطية، حتى أصبحت مثلا أعلى في نظر الشعب الفرنسي، وكانت بريطانيا هي قلعة الحرية، وقبل اندلاع الثورة الفرنسية ببضع سنوات ظهرت الولايات المتحدة الأميركية إلى الوجود، واعتنقت المثل العليا الديمقراطية. وفي النمسا وفي عهد الموسقيين الكبيرين موتسارت وهايدن، بدأ عهد جديد بعد أن اصدر الإمبراطور جوزيف الثاني مراسيمه التي أعطت الحرية الكاملة للمواطنين، وبدأ نظام (الماسونيين) الأحرار يؤثر بالفعل في حضارتي النمسا وألمانيا تأثيرا إنسانيا، وكان الفنان العظيم موتسارت من أولئك الماسونيين الأحرار، ويمكن لنا أن ندرك مدى تعلقه بروح الإبداع بالرجوع إلى الكثير من رسائله، والى نخبة من أفضل مؤلفاته مثل: “الناي السحري”، و”المارش الجنائزي” بوجه خاص. امتيازات النبلاء في سياق متصل كان الكاتب الفرنسي الشهير (بومارشيه) وأحدا من زعماء الثورة الفرنسية الروحيين، واستخدمت روايته الشهيرة “زواج فيجارو”، التي سخرت من بعض امتيازات طبقة النبلاء البالية، نصّا لأوبرا من أجمل وأروع أوبرات موتسارت، وساهم كل من (فولتير) و(جان جاك روسو) إلى أبعد حدّ في تغيير الاتجاه العقلي تجاه مبادئ الحرية، إلا أن هذا الفن في البلدان الأخرى وعلى الأخص في ألمانيا والنمسا، قد تأثر بهذه الانتفاضة التي أحدثتها الثورة الفرنسية لبعض الوقت، أكثر من تأثر الفن الفرنسي بها. ربما بدا هذا غريبا وبخاصة للجيل الجديد، وان كان من السهل تفسيره، فلقد عمّ القلق فرنسا وتزعزت الأحوال فيها، نتيجة للاضطراب الذي ساد الدولة في فترات مختلفة، كذلك تأثير سنوات الحرب التي انقضت في حملات نابليون العسكرية فأدّى هذا ضمنا إلى ذبول الحركة الفنية التي تحتاج عادة إلى أجواء السكينة والهدوء والرخاء. على خلفية ذلك لم يظهر في فرنسا موسيقي عظيم واحد خلال فترة الثورة، وكان أعظم شخصية مشهورة بعد وفاة (جلوك) هو (لويجي كيروبيني) وهو فنان إيطالي عاش في باريس أكثر من 60 سنة، دون أن يحاول إتقان التحدث باللغة الفرنسية. في الفترة ما بين 1790 إلى 1800 كان الفنان الايطالي (كيروبيني) هو الموسيقي الوحيد ذا المكانة في فرنسا، فقد رحل موتسارت سنة 1790، وكان هايدن قد ارتقى وشيكا قمة المجد والشهرة في لندن وفيينا، ولم يكن (بيتهوفن) قد عرف إلا معرفة ضئيلة، وكان أكبر موسيقي صادف نجاحا في الموسيقى الخفيفة في باريس بين أعوام 1770 و1800 هو الفنان المرهف الحس (جرتري) مؤلف أوبرا “ريتشارد قلب الأسد” ذائعة الصيت، وعدد لا حصر له من “الأوبرا كوميك”، والأوبريتات الأخرى، ولم يكن هذا الفنان فرنسيا كذلك، بل كان بلجيكيا، ولم يبلغ (آتيين نيقولا ميهول) الموسيقي الفرنسي الوحيد الذي كان ذا مكانة مرموقة في هذا العهد، النضوج في فنّه إلا بعد أمد طويل، فقد كتب لحنه الشهير “يوسف في مصر” سنة 1807، وحتى بداية القرن التاسع عشر، والى سنة 1820 لم يكن للمؤلفين الموسيقيين الفرنسيين حضور أثناء فترة حكم نابليون باستثناء اثنين هما: (لويجي كيروبيني) و(جاسبارو سبونتيني) وكلاهما إيطالي. عقل جديد ولنحاول هنا أن ننظر عن كثب كيف أثّر الجو العقلي والإنساني الجديد في عد الثورة الفرنسية على فن وانجاز (كيروبيني) الذي عدّ في ذلك الوقت والى ما بعد ذلك في القرن التاسع عشر، في أكثر الدول فنانا عظيم الشأن، فقد قدّر فنّه إلى ابعد حدّ (بيتهوفن) نفسه المشهور بتعنته، كما تأثر به تأثرا ملحوظا، لكننا اليوم ومن أسف لم نعد نستمع إلا فيما ندر إلى أي مؤلف من مؤلفات (كيروبيني) بما في ذلك الافتتاحيات الفذة التي ظلت تتوج برامج الحفلات السيمفونية زهاء ما يقرب مائة عام. على أنه ما من شك في أنه سيجيء اليوم الذي يعاد فيه اكتشاف هذه المؤلفات تماما على نحو ما حدث لمؤلفات محمد عبد الوهاب الوطنية، وأغنيات كوكب الشرق أم كلثوم ذات الصلة بروح الثورة وتعطش الجماهير لنبرة القومية والتحرر التي وجدت لها طريقا سالكة بفعل ثورة 25 يناير في مصر، حيث أصبحت هي العنوان الرئيس لذائقة قطاع كبير من الناس على مستوى الوطن العربي. وإذا عدنا قليلا إلى (كيروبيني) سنجد أنه فنان يستحق التقدير، وله عملين أوبريتيين هما: “اليومان” و”ميديه” ولهما أهمية خاصة بوصفهما من الانجازات ذات القيمة الدرامية والموسيقية الرائعة. ما قاله (يوهان برامز) حول المؤلفين السابقين جدير بالاهتمام، فأوبرا “ميديه” هي من روائع الموسيقى الكلاسيكية على مستوى الاستخدام الدرامي في التوزيع، وكذلك فإن هذه الأوبرا بوصفها تعكس في الموسيقى الأسلوب الكلاسيكي في العمارة والتصوير والأدب خلال سنوات الثورة وعصر نابليون، فإنها من المؤلفات القيمة التي حرصت على إتباع أسلوب الأوبرا البطولي، الذي جاء به (جلوك) قبل ذلك بنحو عشرين عاما، وهي لا تعد مجرد محاكاة، فقد نظر (كيروبيني) إلى أفكار (جلوك) نظرة الفنان الحر المستقل، وقام بتكييف هذه الأفكار وإعدادها بحيث تتلاءم مع كل من حاجاته وذوق العصر الجديد الذي تغيّر. بذلك سارت موسيقى (كيروبيني) على نهج أسلوب (جلوك) الرائع الجاد، إلا أنها قد كشفت عن خصائص عاطفية أكثر رقّة وعذوبة، كما كشفت عن وفرة من الألوان النغمية المستمدة من أسلوب وطريقة موتسارت، وما تميز به من لطف وخصوبة ووفرة في الألوان والنغمات والمساحات. اللحن العظيم الذي قدّمه “كيروبيني” بعنوان “اليومان” عبّر بإخلاص عن الروح الثورية، كما أنه كان من أكثر أوبراته الشعبية نجاحا وتأثيرا، إلا أنها تختلف تماما من ناحيتي الاتجاه والأسلوب عن الأوبرات الشعبية السلسة التي تتبع طريقة (جرتري)، كما تختلف كذلك عن الاوبريتات الألمانية التي ألفها (يوهان آدم هيللر) والتي افتتن بها الناس إلى أبعد حدّ في ذلك الوقت، وتعد أوبرات (جرتري) و(هيللر) من أواخر المقطوعات التي انحدرت من عصر الروكوكو الذي ولّى وانقضى منذ أمد بعيد، وبدت هذه الأوبرات في سحرها ـ وان كان بها روعة مصطنعة بعض الشيء ـ وفي جوها الهادئ الوديع الباستورالي، مقطوعات منمقة أكثر منها أشياء واقعية. بعد الثورة تغيرت النظرة إلى عامة الشعب، عما كانت عليه فيما مضى، في المجتمع وفي الفن على حد سواء، فلم يعد أحد من الناس ينظر إليهم نظرة عابثة، غير جادة، فيها تباسط، بل أصبحت هذه النظرة جادة في طابعها، وازداد تقدير عاداتهم التي يتميزون بها، كما تم الاعتراف بأساليبهم في التفكير والحديث والعمل، وانعكست في موضوع أوبرا “اليومان” ظاهرة من الظواهر التي ظهرت في عهد الثورة. فلقد أصبح (الهلع) نتيجة للتجارب المروعة التي صادفها الناس من المظاهر البيّنة في حياة الناس، ففي مثل هذه السنوات التي تكثر فيها إراقة الدماء بفعل الثورة والحروب يصبح الموت عن طريق العنف من الأشياء المألوفة، وقد أدّى هذا فيما بعد إلى اختيار موضوعات التعبير الفني من الموضوعات التي تدور حول كيفية الاستمتاع بالحياة والنظر إليها بمنظور جديد، كذلك موضوعات ذات صلة بمتعة الخلاص من العذاب والآلام، وظهرت في الموسيقى نتيجة للرغبة في التحرر من الخوف، ومن ذلك يمكن القول إن تدفق الفرح والزهو في النفوس قد ساهم في إشاعة نوع جديد من الموسيقى أطلق عليه اصطلاحا بـ (درامات الخلاص) في أدب وفكر تلك الأيام التي ما زال تأثيرها ممتدا في الروح الإبداعية الخلاقة حتى وقتنا هذا. إذا انتقلنا إلى (بيتهوفن) سنجد أن أوبرا “فيديليو” تنتمي إلى نوع دراما الخلاص، فقد كانت ملامح الفرح العارم التي ظهرت في موسيقى وتوزيعات بيتهوفن من بين أهم مميزاتها، ومن الأمثلة الدالة على ذلك: افتتاحيات ليونورا وخاتمتا السيمفونيتين الخامسة والسابعة، وأنشودة الفرح في السيمفونية التاسعة. تنافس العواصم لقد تجّلت الصلة الوثيقة بين موسيقى (كيروبيني) وروح عصره الفنية في عدة مظاهر أخرى كذلك، فان صفاء هذه الموسيقى الأخاذ ومعالمها الواضحة قد جعلها قريبة الشّبه من لوحات المصور العظيم (آنجر) والاختلاف الوحيد بين الاثنين هو إقرار الجميع بأن آنجر فنان موهوب في أسلوبه الذي يتميز به، كما أن جميع هواة الفن يقدرونه ويعترفون بأنه قد استطاع أن يعبر أعظم تعبير مركز عن الأفكار التي سادت التصوير في عصر نابليون. أما (كيروبيني) فبرغم براعته كفنان، وبرغم تمكنه، فانه لم يقدر إلى الآن تقديرا يتناسب مع مميزات فنه العالية، ونحن نقرأ في سيرة بيتهوفن التي كتبها الناقد الموسيقي (تاير) أن بيتهوفن قد اعتقد أن نصوص رواية كيروبيني “اليومان” ورواية سبونتيني “الكاهنة العذراء” هما أفضل نصوص للأوبرا ظهرت إلى حيز الوجود. سبق القول إن العبقرية الموسيقية الخلاقة في فرنسا قد اتصفت في السنوات ما بين 1790، وقرابة 1810 بشدة العقم، وبرغم هذا فقد عادت الأوضاع التي أعقبت الثورة الفرنسية، بأعظم أثر على الموسيقى، فقد استعادت باريس سنة 1800 مكانتها البارزة بوصفها حاضرة من حواضر الموسيقى العالمية، واستطاعت أن تحافظ على هذه المكانة أكثر من قرن. وبذا أصبحت عاصمة النور التي حظيت بهذا اللقب بعد تفوقها في مجالات الثقافة والفكر والإبداع والفن.. أصبحت منافسة خطيرة ومهمة لايطاليا وغيرها من البلدان التي كانت حتى هذا الوقت هي الدولة الرائدة للموسيقى. وتوطدت إلى جانب (الجراند أوبرا) أقدام (الأوبرا كوميك الفرنسية) في باريس، فأصبح لها مسرحا خاصا بها، وأصبحت منظمة (كونشرتو الروح) منظمة رئيسية قادرة على تقديم حفلات موسيقية ممتازة بكل المقاييس من حيث الأوبرات والسيمفونيات والجمهور والمواضيع والأفكار الإنسانية المطروحة. لقد تم إنشاء صرح (الكونسرفتوار) الذي سرعان ما أصبح أفضل مدرسة متقدمة للموسيقى في العالم، وبفضل الجهود التي بذلتها حكومة الثورة ازدادت عناية جموع الشعب بفن الموسيقى الذي لم يكن من قبل يعنيها هذا الفن على الإطلاق. حوالي سنة 1800 كانت العاصمة النمساوية فيينا هي المركز الوحيد الذي يمكن مقارنته بباريس، ففيها قضى هايدن سنواته الأخيرة في دعة، وكان بيتهوفن في هذا الوقت قد بدأ يشق طريقه في حياته الفنية المجيدة، على أنه لا يصح القول بأن هايدن أو موتسارت قد مثّلا معتقدات العهد الجديد الذي جاء به في أعقاب الثورة الفرنسية. وحينما نريد أن نختصر كل ذلك بكلمة واحدة جامعة نقول: القرن التاسع عشر، ويؤشر هذا التركيز أو التلخيص الجامع إلى معنى مهم هو (التغيير) الذي طرأ على الروح الإنسانية وعلى أسلوب الحياة وغاياتها والنقلة التي حدثت في هذا الجانب للظاهرة الاجتماعية. وفي الموسيقى فإن أول من يمثل القرن التاسع عشر أفضل تمثيل وأعظمه هو (لودفيج فان بيتهوفن)، وهو من الناحية الروحية ابن الثورة الفرنسية، فهو عندما كان شابا يافعا، أي عندما كان تلميذا لهايدن في مدينة فيينا، كان على وعي تام بقدراته الفنية، وأظهر عدم احترام للأوضاع القائمة، كما تميز بكبريائه واعتداده بذاته، مما أدّى إلى انزعاج (هايدن) المتواضع الذي أسمى بيتهوفن الصغير بالمغولي الكبير وبالباشا التركي، وسرعان ما رحبت به العائلات الارستقراطية الكبيرة في فيينا، وأصبح معززا لديها، إلا أن الشاب بيتهوفن مختلف في ذلك عن هايدن وموتسارت لم يرض أن يعدّه هؤلاء الأسياد ذوو الحسب والنسب خادما عندهم، فقد اعتبر نفسه من الناحية الروحية ندا لهم، كما اعتبر نفسه من الناحية الروحية بحكم عبقريته أعلى منزلة منهم، وهو أول موسيقي استطاع أن يحافظ على مثل هذه النزعة التحررية كما استطاع بفضل تمسكه بهذه النزعة ووقوفه في وجه العادات القديمة الراسخة أن يرفع من شأن المنزلة الاجتماعية للموسيقيين الألمان، لا في زمانه فحسب، بل بعد ذلك أيضا. وزاد بيتهوفن من جلال فن الموسيقى ورفعه إلى منزلة لم يحلم بها من قبل على الإطلاق، ومنذ ذلك الوقت بدأت الموسيقى تظهر بمظهر جديد. موسيقى شعبوية فيما مضى كانت الموسيقى خاضعة خضوعا يكاد يكون تاما لرعاية طبقة النبلاء وحدهم، أما في القرن التاسع عشر، فلم تعد مهمة الموسيقى مقصورة بصفة رئيسية على الترفيه عن عائلات الأمراء وسكان القصور، وأصبحت الموسيقى في رعاية الطبقة المتوسطة، التي كانت قد نهضت اجتماعيا وثقافيا بفضل الثورة الفرنسية، واستطاعت هذه الطبقة أن تبلغ بها مستوى لا يقل عن مستواها السابق. في ألمانيا تعد الحركة الرومانتيكية برمتها من نتائج هذا الاتجاه البورجوازي الجديد، وكان بيتهوفن حتى في شبابه ديموقراطيا متحمسا مقتنعا بالنظام الجمهوري. وفي الواقع انه كان أول موسيقي ألماني ذا معتقدات ومثل وغايات سياسية قوية، فلم يكن هايدن وموتسارت يكترثان كثيرا بالشؤون السياسية، أما بيتهوفن فقد تحمّس لشعار الثورة الفرنسية (الحرية والإخاء والمساواة)، كما أنه افتتن وأعجب اعجابا فائقا بنابليون إلى حد أن شعوره بخيبة الأمل لتخلي نابليون عن مثل الديمقراطية، يعدّ من أعنف صدمات حياته. لقد أهدى بيتهوفن أحد مؤلفاته التي تتميز بروعتها وشدة تأثيرها سيمفونية “أرويكا” إلى نابليون، وعندما وصلت الأنباء إلى فيينا بأن نابليون قد نصب نفسه إمبراطورا على فرنسا، مزّق بيتهوفن في ثورة غضب عنيف الإهداء الذي كتبه على الصفحة الأولى من صفحات مدونة “أرويكا” وداسه تحت إقدامه، إلا أن بيتهوفن كان نابليون في فنّه، ويرجع هذا إلى عظمته وتأثيره، فنحن نستطيع أن نلمح عنده عدة ملامح تذكرنا بنابليون قد بدت في أسلوبه السيمفوني الرائع وجرأة تصوراته الفنية واتساع خياله وثقته التي لا تتزعزع في نفسه، ولذا فإننا نشعر بميل إلى الاعتقاد بأن الإبداع الموسيقي الذي تجلى في موسيقى بيتهوفن ما كان ليتحقق إلى حد ما بغير اقتداء بمثل حي مثل نابليبون. وتتمثل في كلمات: (الحرية والإخاء والمساواة) المبادئ الرئيسية لاستاطيقية بيتهوفن، أو بمعنى أصح المثل الأخلاقية الكامنة وراء استاطيقيته، وبدت الصلة التي تربط المثل الأخلاقية بالعقيدة عند بيتهوفن في صورة جديدة، وقبل ذلك ظهرت وحدة بين الفن والدين والسياسة عند فنانين من أمثال: (بالسترينا) و(باخ)، إلا أن ظهور المثل الإنسانية العليا في الفن لم يكن مستطاعا إلا بعد أن قبل المثقفون في البلدان الأخرى مبادئ الثورة الفرنسية في صورة واضحة، ويعد بيتهوفن في الموسيقى هو أول نصير لهذه الدعوة الجديدة في الفن. هل نستطيع أن نسقط بعض أجواء ومناخات الثورة الفرنسية على الثورات العربية المعاصرة؟ نعم نستطيع قول إن ذلك ممكنا، فعلى سبيل المثال فان الثورة الجديدة في مصر 25 يناير، أسفرت عن تغيير جذري في التوجه السينمائي والموسيقي، بل في مجالات الثقافة والفكر والفنون الأخرى كالمسرح والدراما التلفزيونية، فبدون شك ومع انطلاق هذا الحدث الخطير في حياة الأمة أن رياح التغيير قد أطلقت شرارتها نحو ثورة أخرى جديدة في مجالات الكلمة والإبداع، حيث عقد العزم في الوسط الثقافي على الإطاحة بكل ما هو مسفّ وهابط، إلى الحد الذي وصلت فيه الدعوات إلى تصميم خريطة جديدة للعاملين في حقل الإبداع، بما يتناسب وطموحات الشعب وتطلعاته نحو أفق جديد من الحياة والالتزام. إن الفترة القادمة بلا شك ستشهد ميلاد ثقافة جديدة، نحو مشروع وحدة الثقافة والإبداع العربي. لقد غيرت الثورة الذائقة الفنية لدى الناس، ومع هذا الجديد تشكلت ثقافة الثورة القائمة على حرية التعبير والمضمون الإنساني. الثورات على امتداد التاريخ هي صانعة الفكر والتاريخ، وهي التي تجعل للعواصم معنى، واسما، في الذاكرة الجمعية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©