الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجبتي لهذا اليوم..

وجبتي لهذا اليوم..
27 يوليو 2011 19:22
النهار لا يكفيني، فالشمس حين تشرق على سفينتي في عرض البحر، تأتي دائماً بمشاغل جديدة، كأن أقوم بغرف الماء الذي تسرّب إلى خشب رحلتي خلال الليلة الماضية، أو أُعيد ربط الحبال التي تخلخلت بعد العاصفة التي هبّت مع الفجر أو على الأقل أصيد سمكة، ومن ثم أشرع في شيها كي تكون وجبتي لهذا اليوم. وكثيرة هي النهارات التي تمر عليّ وأنا منصرف لمثل هكذا مشاغل، وكلما تقدمت في هذا المحيط أو كلما تقدم بي العمر كنت أظن أن مشاغلي ستقل، والواجبات التي عليّ القيام بها ستخف ولكنها تزداد مع الأسف، فالشراع يوقظني في الصباح بصريره المؤلم. كثير من نواحي سفينتي تعلّقت بها القواقع الجارحة، حتى أنني أتخيل أحياناً أنني أبحرُ في سفينة من القواقع وليس من الخشب، وحين أصل أحد الموانئ ـ هذا إذا ما وصلت ـ فإن رجال الجمارك سيرفضون إدخال سفينتي إلى ذلك الميناء، فسفينتي كما قد يقولون هي أقرب إلى سفن اللعنة من سفن البركة، وقد تجتاح الميناء إشاعات حول هذه السفينة العليلة التي وصلت مؤخراً، وخوفاً من الأمراض ودرءاً للشبهات سيعيدونني إلى عرض البحر، خاصة أنها وكما قد يقولون تحمل بحاراً وحيداً تبدو عليه سمات الجنون، سحنته مريبة ورغم جسده النحيل فإنه يتحرك بطريقة غير طبيعية، وما يقوله صادم ويعبر عن أفكار مستوردة ورغبات فاحشة، والميناء يكفيه ما فيه من المجانين والمريبين الأفاقين والغرباء، يكفيه ما فيه، ولهذا يُمكن اعتبار هذا البحار من غير المرغوب فيهم. هكذا قد يقرر مجلس بلدية المدينة ويصدر فرماناً يعلقه في مختلف نواحي سوق الميناء، بل ولربما ستخصص فرقة من شرطة خفر السواحل لمراقبة الميناء لكي لا يتسلل ذلك البحار الغريب ـ أي أنا ـ ويندس بين شعب البلدة الطيب. كل ذلك قد يحدث عند وصولي بسفينتي هذه إلى أحد الموانئ، هذا طبعاً لو حدث ووصلت، وإذا ما كان النهار يفاجئني دائماً بمشاغل جديدة إلا أن ذلك لا يعني أن الليل لا يشاطره الاهتمام نفسه بالتهام المزيد من كعكة وقتي المرة. فقبل قدوم الليل بفترة مناسبة عليّ إعداد المصابيح وهي ليست بمصابيح، في الحقيقة هي أقرب ما تكون إلى المشاعل، فلقد أخذت من أحد الموانئ التي مررت بها صفيحة من الحديد وطلبت من أحد حدادي ذلك الميناء تشكيلها على هيئة قمع ترفع بعصاً خشبية مقدارها نصف متر أو أقل، وقبيل كل غروب أنظف ذلك القمع من الرماد وأزيد الفحم ومن ثم أصب عليه قطرة من الكيروسين وأشعلها بعود كبريت، وأنقل النار من مصباح أو قمع إلى آخر بعود هش ويابس من الأعواد التي تصلني عادة مع الأمواج. كنت أود أن أشعلها بنصف عود كبريت وبأقل من قطرة كيروسين، فبرميل الكيروسين الذي أشتريه من آخر الموانئ التي مرت على حياتي يكاد ينضب، وعلب الكبريت التي أحافظ عليها من مياه الأمواج ومياه الأمطار وثقل الرطوبة كما تحافظ العائلة على أطفالها، تنقص عوداً بعد عود، ولقد جربت ليالي عديدة من قبل، بلا كيروسين ولا أعواد كبريت فكانت موحشة للغاية، إذ أن القمر على ما يبدو ليس صديقاً لبرجي، فالسماء تهدأ عندما يكون غائباً، وعندما يحضر يدلهم الفضاء بالعواصف الشريرة والأمطار المنهمرة والأمواج الطائشة. برميل الكيروسين أخبئه كالكنز في قبو سفينتي الصغير، وإلى جانبه صندوق أنيق أهدته لي إحدى أميرات جزر الببغاوات، وأحتفظ فيه بالملابس القليلة التي ألبسها حين أنزل إلى أي ميناء وبعلب الكبريت ورزمة من الورق الأبيض، فأنا ـ للعلم ـ أصبت بفيروس الكتابة منذ أول رحلة كانت لي على هذا البحر. لقد أخذني والدي معه حين أبحر مع زملائه إلى الهند، وكان على ذلك المركب شيخ مسن يُعلّم القرآن، وكان عملي على السفينة ـ أنا الصغير ـ هو تقديم الماء للبحارة، وحين أنتهي من ذلك يُلزمني الجلوس إلى ذلك الشيخ. حفظّني الشيخ القرآن جزءاً جزءاً، وعلّمني التلاوة وفك الحرف، وبينما كان المركب يقترب من كالكوتا مات الشيخ فجأة، وفي جو من الحزن الشديد دفناه في البحر، نمت بعد انتهاء دفنه النهار بطوله، وحين استيقظت بعد ذلك داخلني شعور بأنه عليّ أن لا أنسى كل ما علّمنيه الشيخ: ـ اقرأ يا ولدي اقرأ، فمطلع الكتاب القراءة. ولذلك وبمجرد ما نزلنا إلى الميناء في كالكوتا رجوت والدي أن يشتري لي ورقاً وأقلاماً، وما توفر من الكتب. وحين عدنا إلى المركب بتلك الهدية الغالية لم أنم لأيام طويلة، وأنا أقلّب في الكتب، وأشخبط على تلك الأوراق، ومن يومها وأنا مصاب بتقليب الكتب، أو ما يسمونه القراءة، أو بالشخبطة على الورق أو ما يسمونه الكتابة. ومن يومها وأنا أكتب وأكتب وأكتب، حتى ارتاب بي أغلب البحارة الذين سافرت معهم، وحتى وجدتني بعد ذلك أتخذ لي سفينة أسافر عليها وحدي من ميناء إلى ميناء، وحيث لا يسألني أحد ماذا تكتب ولماذا تكتب، كما أنني لم أعد قادراً على تحمل تصرفات المعتوهين من البشر وأمراض قلوبهم التي لا تحد. الوحدة حقيقة غنية بالموت، ولكن أي التفاتة من الحياة تنهيها حتى ولو كانت تلك الحياة في جسد هذه السمكة الجيدة التي اصطدتها قبل قليل وسأتركها ـ للأسف ـ تتلوى من الاحتضار على خشب سفينتي ومن ثم سأشويها، إذ لا حل فالموت هو أساس الحياة. ولست بالمناسبة صياد سمك فحسب، وإنما كذلك صياد خشب وصياد ماء (وإذا ما أردتم أنا صياد كلمات أيضاً)، إذ أنني وبعد انتهائي من “تنظيف” السفينة، بعد وعثاء الليلة الماضية (أفعل ذلك، في الحقيقة سواء كانت الليلة التي مرت عليّ هادئة أو غير هادئة)، أرمي خيوط صيدي للسمك في البحر، كما أترقب الأمواج التي ستأتي محملة بألواح من خشب، أدرك أن تلك الأخشاب ربما كانت لسفينة غرقت كما قد تغرق سفينتي هذه، ولكنني هكذا وجدت نفسي أصيد أكثر ما يمكنني من خشب تأتي به الأمواج. الألواح الكبيرة أجففها (كما أفعل مع الأسماك الكبيرة) كي أبيعها في أقرب ميناء، وأشتري بما توفره لي من نقود احتياجات رحلتي المقبلة، أما الألواح الصغيرة فأجففها كي تكون وقود قناديلي التي صرتم تعرفونها، كما أجفف ريش الخشب كي أشعل فيه تلك القناديل، كذلك أصيد الماء فهو وبعده السمك من أكثر الصيد توافراً في مثل رحلاتي. وأصيد أنا الماء كي أطبخه وماء البحر رزق بعد الطبخ، فما يعلو القِدْر سأخزنه في قعر سفينتي الضيق كي يكون شرابي لكذا يوم، أما أسفله ومع قليل من العناية والتجفيف فسأحوله إلى ملح ومن ثم أبيع ذلك الملح. والملح مطلوب جداً فلقد مررت بسفينتي التعبانة هذه على جزيرة تطفح من السكر، فأشترت مني أونصة الملح بأغلى من الذهب، هذا لا يعني أن كل الموانئ تُرحب بذلك، إذ دخلت مرة إلى ميناء كي أبيع ملحي فطاردتني شرطته حتى خارج مياهه الإقليمية. وأصدقكم القول، فأنا لديّ كمية لا بأس بها من الأسماك المجففة والملح والخشب، وعندما أصل إلى أقرب ميناء سأبيعها وأشتري مزيداً من الكيروسين وأعواد الثقاب والكتب والأقلام والورق. وسأشتري بعض الشراب، فلقد عرّفني أحد الموانئ التي زرتها على سائل يُدعى “ماء الحياة” ويُباع بالبراميل، ومن يومها وشواربي تسبح في ذلك الماء وعندما سأصل ـ هذا إذا ما وصلت ـ إلى أقرب ميناء، سأشتري منه ثلاثة براميل، هل ستكفيني؟ بل أربعة، لا بل أشتري خمسة حتى ولو على حساب علب الكيروسين وأعواد الثقاب فوقود الروح أهم بالطبع من أي وقود. أما الآن وقد استوت سمكتي من الشي فإنني سأحملها على قطعة خشب نظيفة مع كأس خشبي طويل ـ حفرته من قطعة لجذع شجرعة سمر غليظ ـ مملوء بـ”ماء الحياة”، كما سآخذ قلمي وبعض الأوراق، وأجلس على شرفتي المفضلة في السفينة، والتي غطيتها بما يشبه الخيمة كي تحميني من الأمطار، أما العواصف حين تهب فإنها حقيقة لا تقيم للهدوء شأناً ولا يهمها أي شيء. عن أية عواصف أحكي؟ فالعواصف أنواع والعواصف أمزجة ومفاجآت، أما عن اليوم فمنذ الصباح والهواء راكد، ولقد فعلت الأفاعيل كي أشعل قناديلي ـ بين قوسين ـ وأشوي سمكتي. أما الآن فها أنا جالس تحت خيمة حياتي المفضلة وفيما أسميه الشرفة من سفينتي المتهالكة، وقد شربت كذا كأس من “ماء الحياة” وقرأت فصلاً يؤول فيه الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي آيات البحر، ومن ثم قرّبت الأوراق البيضاء مني، وأخذت القلم وكتبت: ـ “النهار لا يكفيني، فالشمس حين تُشرق على سفينتي في عرض البحر، تأتي دائماً بمشاغل جديدة، كأن أقوم بغرف الماء الذي تسرّب إلى خشب رحلتي خلال الليلة الماضية أو أعيد ربط الحبال التي تخلخلت بعد عاصفة هبت مع الفجر، أو على الأقل أصيد سمكة ومن ثم أشرع في شيها كي تكون وجبتي لهذا اليوم”. a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©