الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غرباء مدججون بالذاكرة

غرباء مدججون بالذاكرة
27 يوليو 2011 19:23
لا يكفي وصف شعر أمجد ناصر (الأردن 1955) بأنه نتاج جيل الحداثة الثالث المنصرف لكتابة قصيدة النثر وتطوير مجالات شعريتها وموضوعاتها وأسلوبياتها وتلقّيها. فقراءة أعماله الشعرية تضيف مشاهد متنوعة لاهتمامات جيله، وتقديم مقترحات لطرق جديدة تدخلها قصيدة النثر، حتى وإن كانت بإحياء موضوعات عدّتها الحداثة من حيز التقليد، كالغزل الذي أسهم أمجد ناصر مبكراً في إنعاشه كغرض شعري وموضوع متنوع المضامين برؤى وزوايا نظر مبتكرة. تتموضع الغربة في شعر أمجد ناصر كمؤثّر ذي أبعاد جديرة بالتأمل، فهو يهاجر شاباً ويلتقي المكان والناس لا بكونه زائراً عابراً، بل واحداً من غرباء يصلون مدججين بذاكراتهم وأوطانهم وأحلامهم. وهذا ماكان موضوع ديوانه “وصول الغرباء” الذي يحكي عن (غرباء جاؤوا من ضفاف أخرى) وصار فعل الوصول محرّكاً لأفعال أخرى: فهم وصلوا الليل بالنهار، بعد أن مسحوا حليب الصباح العالق بشفاههم. وواحد منهم سيظهر واصلاً أيضاً في قصيدة لاحقة، ولمناسبة مغايرة ستكون موضوع مقاربتنا النقدية هذه: حامل الوشم وصل/ بكبشه/ وأجراسه/ تتبعه النيازك/ عبَر قبورا بيضاء/ وداس عشبا صامتا بين التماثيل وسيكون لحامل الوشم هذا مستقر بلندن التي لها بين عواصم هجراته مكانة خاصة، لا لأنه أقام فيها نهائياً، ولكن لأن منظورالصدام بين الغرب والشرق يبدو واضحاً في أشعار تلك المرحلة. فرغم أن أمجد اختار قصيدة النثر بعد ديوان وزني واحد “مديح لمقهى آخر” 1979 يبدو مهتماً بتطوير تجربة الكتابة بقصيدة النثر، والخروج بها من مأزق التقليد أيضاً، ومن التناظر في موضوعاتها وأساليبها. واتجه لتجسيد ذلك إلى حقلين ليس فيهما إنجاز كبير وواضح لشعراء الحداثة، وهما: الماضي كذاكرة تشتغل في ثنايا الوعي، والمرأة كوجود إنساني شخصي وحميم، فصار يستعيد من مخزون ذاكرته مشاهدات بصرية وأحداثاً ومواقف ربطته بماضيه الذي تمرد عليه كمصير، وهجره إلى مدن كثيرة، لكنه في إعادة حساب له سيصالح ذلك الماضي ويقدم جزئيات دالة منه، وسيكرس كتاباً كاملًا له هو “حياة كسرد متقطع” 2005 مسهماً في تأكيد إمكان وجود السيرة الشعرية. وبصدد المرأة نلاحظ أن تراث الحداثة الأولى لم يولِها أكثر مما أعطاها الشعر العربي القديم من مكانة، فهي كائن خارجي يسعى إليه الشعراء ليسبغوا عليه ما يريدون هم منه، لا ما ينطوي عليه كيان المرأة من رغبات وأحلام ومواقف ولا من جماليات خاصة به، واتجه الغزل بدل ذلك صوب خلق امرأة مقبولة بمواصفات ذكورية مسقطة عليها، ثم صارت مناسَبة لتوصيل الخطاب السياسي والثورة الاجتماعية عبر قصائد الشعراء الثوريين والرافضين لمجتمعاتهم، ولعل شعر نزار قباني في المرأة وحتى ماجاء باسمها ومن منظورها تجسيد لهذا التعامل مع المرأة. الجسد في بياضه ليس “سرَّ مَن رآكِ” ديواناً بالمعنى الفني للكتابة الشعرية يضم قصائد متفرقة ومتنوعة، بل عمل ذو موضوع واحد، ونصوصه المكتوبة بين عامي 1989 و1991 تنويع لزوايا النظر لهذا الموضوع. وقد وصفتْه قراءاتنا الأولى عند صدوره (1994) بأنه إحياء لديوان الغزل العربي. وفي ذلك تلميح لعودة شعراء الحداثة إلى الغزل بأنواعه بعد أن فقد أهميته لسببين مختلفين تماماً: وقوعه في التقليد والميوعة العاطفية أو الابتذال الحسي. أو الترفع عليه والاستنكاف عن كتابته في وهم التحديث المجافي للمباشرة والوضوح. ويأخذ الغزل الحسي نصيبه من الإهمال لوقوعه في الوهمين الآنفين، بجانب ما يحف به من عوامل الحجب والمنع لدواعٍ اجتماعية وأخلاقية، وموانع ومحددات لا قدرة للشعراء بالمرور عبرها وتجنب سطوتها. لقد كان للجسد في التراث الشعري العربي حضور واضح رغم قلته، وقد اقترن بتجارب أفضل الشعراء وأشهرهم كأبيات امرئ القيس في معلقته عن مغامراته، وما تداولته المدونات من قصائد كالمتجردة وغيرها مما يتصل بالجسد وتفاصيله، لكن انقطاع الكتابة على منوال تلك القصائد باعدَ أثرها حتى في الدراسات والقراءات اللاحقة. وإذا كنا افتتحنا الدراسة بذكر الغربة فإنما لنشير إلى أن أمجد ناصر في عمله ذاك قد أفاد من فضاء الحرية، وقول ما لايمكن قوله أو قبوله في خطابات الشرق، ولأن لندن كانت فرصة وضوح ذلك الوعي بالجسد الذي تقدمه القصيدة ـ العمل كما في لوحات رسامي العري ونزعاتهم التشريحية لإبراز الأعضاء وتركيزها كبؤر للأعمال، وكذلك أتاحت مرحلة قصائد لندن لأمجد ناصر تقديم منظور للقاء الشرقي بجسد الآخر، وتأمل الصلة به، لكنه لا يسمح برؤية ضدية الموقف من الآخر، كما تظهر في كتابات غير شعرية ومواقف فكرية. المرأة في العمل ليست كتلة بل تفاصيل، والنظرة المعملية للجسد لا تخذل الرؤية الجمالية وإبراز مفاتنه وجاذبيته ووجوده كفاعل ايضاً، لا كشيء مرغوب ومشتهى فحسب. ويمكن معاينة نص “تحليل القبلة” نموذجاً لذلك فهي لا تذهب للتحليل كفعل مخبري، بل إلى مغزى القبلة كرسول بين الأرواح. ولا نوافق القائلين بوجود نزعة فيتيشية عبر تلك التجزئة للجسد والتعلق مثلًا باللون أو الرائحة؛ فهي تأتي في سياق أكبر لا بد من مراعاته في القراءة، هو حضور الجسد كاملاً وتوسعاته الدلالية. البياض في أكثر من قصيدة يتكرر لا كلون، بل كمسقط للوعي بالجسد، فإشعاعه وانفتاح ضيائه وشيوع نوره، إنما يتم بهاجس قبْلي مسبق، هو التصور الصوفي والوجد الخفي للقاء روح خلفه تحرك أو تصنع جماله. وهو ما نعدّه إضافة للإيروتيكية التقليدية أو الموروثة، وكما يحصل في أحد مرجعيات النص ـ وأعني نشيد الإنشاد الذي لسليمان تحديداً ـ تأتي أوصاف الجسد كلوازم لتبرير الهيام به وإعلائه عن وظائفه الفيزيائية. وإخراج الجسد من مألوفيته هو المؤثر الأول في صياغة الوعي به وخلق صور لتمثيل ذذلك الوعي. فكان البياض انعكاساً للولادة والعذرية تهبهما اللونية التي انشغل بها النص ونجا بها من تكرار الاشتهاءات والشبق المبالغ فيه. وهذا ما يمكن قوله بصدد الرائحة التي صارت عنواناً للنص، فهي أثير يُفترض تبدده وزواله، لكنه سيعلق في الذاكرة بفعلها (العنوان: الرائحة تذكّر) فهي الفاعل الشعوري بعد انقضاء الحواس من مهماتها وتوقف هيجانها الذي انعكس على أجزاء من العمل .لكنه هنا لاحضور له لأن الذكرى تستدعي الاستذكار عبر (الرائحة) التي ستتكرر لفظياً في مطلع مقاطع النص غير المفصولة عن بعضها، كاستمرار للفعل السابق لها، وتذكير أيضاً لما تذكر به. خطاب الحواس تلعب الحواس دورها في العمل متراسلةً أي متبادلةً للوظائف، كما في استذكار الرائحة التي تعود لتذكَر بما سيتداعى من أشياء، واللغة تستجيب لهذا العمل فتكون رصينة كما في لغة التصوف والغزل الموروث، فتحضر تضمينات محيلة لمراجع ومدونات مختلفة، كالماء المنساب من الأصلاب والترائب اختزالاً للقاء الجسدي، والحيَة التي تسعى في الأفواه عبر الألسنة، وفي استرجاع جزئيات من الماضي لعلها ترنيمة فرحة بتحقيق ماكان حلماً أو رغبة مكبوتة، كالاعشاش والأكباش، والامطار على أسطح الطين، والحنطة في الحظائر، والأسرّة في الضحى، ثم القفز زمنياً لاقتناص تمثيلات من الجسد المعروض للوصف ولكن بترميز قوي يمكن تفسيره في حالة اختفائه اللغوي وتعقيد تراكيبه بأنه تخفٍّ وهروب من البوح، لكنه في مستوى آخر من القراءة يكون لمصلحة نورانية التمثيل الجسدي، وتقديمه محاطاً بهذه الهالة من الضوء المنبعث من النظر إليه لا من أعضائه وحدها. هكذا يتعقب النص الرائحة الباقية في اليد والأنف والشفتين والصدر والشراشف والهواء أيضا. وهذا الحشد المكاني المتباين المرجع إنما يشير لانتشار الرائحة كرمز، وليس لوجودها الحسي فحسب. تتسيد الرائحة وتكشف لنا قليلًا بالوصف عن أعضاء يستوعبها النص تلميحاً، رغم نهاية القصيدة بالقهقرى، واختفاء الرائحة من الخاتمة في ضوء نهار، ومفازة نسيان ضيقة لا تتسع لرائحة ولا للون. لقد تخلصت القصيدة من غنائية الغزل التقليدي ومباشرته، وتنكره للجسد كحقيقة جمالية وذهنية فاعلة، لكنها استعارت لغة التصوف والوجد فأنشدت لجسد مأهول بالأعطيات ومعروض للعرفان والتمجيد. الرائحة تذكّر الرائحة تعود لتذكّر الرائحة ذاتها في المتروك والمأهول بالطيف والهالة. الرائحة تذكّر بأعطيات لم يرسلها أحد بأسرّة في غرف الضحى بثياب مخذولة على المشاجب بأشعة تنكسر على العضلات بهباء يتساقط على المعاصم بأنفاس تجرب مسالك جديدة إلى مرتفع الهواء بمياه الأصلاب مسفوحة على الدانتيلا بالترائب برواد فضاء تخطفهم سحنة القمر بالصنوبري بالليلكي بالمشرئب بأمطار على أسطح من طين بحنطة مركوزة في الحظائر. الرائحة تذكر بالأعشاش بالنـز بالغيبوبة بالمستدير بذي الحافة. الرائحة.. الرائحة ذاتها التي تهاجم في أمسيات معلقة بقنب الهذيان. دعي متربص الشقوق يشهد صحوة الفراشة. الرائحة تصعد إلى الخياشيم، اليعسوب يطير بين الأعمدة ويهوي على العتبة. قربيه صائد الضعف من رقائق الذهب، قربيه من الزغب الطالع على المرمر من طعنة الآس من تويج زهرة الإغماء من الذي يعيد الفم إلى طفولته ويطلق اللسان حية تسعى. الرائحة تبقى على اليد في الأنف والشفتين في ثلم الصدر على الشراشف في الهواء المكابر الرائحة ذاتها. يا لأحكام النهار إذ تبدأ القهقرى وللمواضعات إذ تسّاقط تباعا وللرغبات إذ تطلق فهود الكتفين لتجوس مفازة الهجران
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©