السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سحر السذاجة

سحر السذاجة
24 يوليو 2013 21:56
تضع صيغة عنوان كتاب “الفنون الأولى هل هي ساذجة” لجان جاك بريتون (منشورات كلمة للترجمة ـ أبوظبي 2013) المتلقي في فضاء البحث الذي يحاول هذا الكتاب من خلاله الإجابة عنها باعتبارها مدخلا لإعادة تقييم التسميات المختلفة التي أطلقت على تلك الفنون كالبدائية أو الزنجية أو الشعبية أو القبلية، وما خلفته من لبس في موقف الثقافة الغربية من ثقافات الشعوب الأخرى. مصطلح الفنون البدائية يحتوي على خلط يراه الباحث قائما في الخلط بين معنيين لكلمة البدائيين وهما معنى النحاتين والرسامين الذين سبقوا العصر الذهبي للفنون، ومعنى الشعوب البدائية. وهكذا فإن مصطلح الفنون الأولى يحيل إلى تصور سياسي، لأنها توهم المتلقي بأن هذه الفنون توجد في أدنى مراتب تطور تاريخ الفنون. وعلى خلاف هذا التصور يذهب إلى القول بأن هذه الفنون التي تسمى أواي هي فنون أخيرة لأن أغلب هذه الفنون ما تزال حية بالرغم من التقلبات التي عرفتها أنماط الحياة التقليدية من اندثار. في المصطلح يسعى بريتون لتقصي مصطلح الفنون البدائية في الثقافات الساكسونية مركزا على طبيعة النظرة التي قدمها الفنانون الغربيون لهذه الفنون باعتبارها استعادة للقدرات الروحانية المفقودة، وهو يستعيد في هذا السياق علاقة الفن السوريالي بتلك الفنون التي سعى أصحابها بعد الحرب العالمية الأولى إلى تغيير الحساسية الغربية كما أن هذا التوجه هو الذي ساعد أندريه بريتون على إدراك الروح الحقيقية لمبدعي تلك الفنون. لقد وجد الفنانون الغربيون منذ نهاية القرن التاسع عشر على الحلول التي كانوا يبحثون عنها في تلك الفنون. لكن الفن الأكثر قدرة على فتح الأبواب الفكرية لفهم الفهم البدائي كما يرى بريتون هو الشعر الذي يقوم على التناظر بمعنى العلاقات التي تربط بين الأشياء والأفكار والكائنات. أهمية التناظر تكمن في كونها الخلفية التي استند إليها الفن الغربي الحديث والشعر الغربي، حيث لعب الفن الإفريقي دورا حاسما في هذا المجال، تمثل في الجمالية الجديدة التي قدمتها الحداثة في الفن التشكيلي وكان بول غيوم هو أول من اكتشفها. يستبدل بريتون مصطلح الفنون البدائية بمصطلح الشعوب الإيحائية، التي ينطوي فنها على السحر من خلال العلاقة التي يقيمها بين الأرواح والناس، رابطا بين المرئي وللامرئي كما تجسد في الفن الإفريقي المتمثل في فن النحت أولا. الفن الإفريقي يجمل الباحث السمات العامة لهذا الفن في تنوع التقنيات المستخدمة والتي تمنحه القوة من داخله إلى جانب أن التماثيل الإفريقية لم تكن تنجز لكي تعرض على الناس وقد اتجهت فنون النحت نحو استخدام مادة الخشب لتوفرها وسهولة العمل عليها. ومن الميزات الأخرى لهذه الفنون أن الفنان الإفريقي لم يكن يبدع عمله الفني كما يراه بل كما يعرفه وأنه يجد أن العمل الفني موجود سلفا في جذع الشجرة الذي يشتغل عليه. ويقدم الباحث نظرة شاملة حول العمل الفني يتناول فيها خواص الفن الإغريقي الذي كان يعبر عن رغبة الفنان في خلق الحركة وتحريك التمثال وتحقيق الكمال المطلق كما في تمثال رامي القرص لميرون في حين أن الفنان الإفريقي كان ينفخ الحركة والحياة في منحوتاته من خلال استعمال اللاتوازي بحيث يكون هناك كتف أعلى من الآخر إضافة إلى استخدام الخط المنكسر في وضعية الراقصة. وينتقل من توصيف العمل إلى دراسة دور الفنان ووظيفة العمل الفني في تلك الفنون التي تميزت بأنها فنون جماعية تقوم على تقسيم العمل إلى شرائح اجتماعية وهو ما تعرفه المجتمعات الغربية. إن العمل الفني لدى الإفريقيين لم يكن يكتمل بالانتهاء منه لأنه وسيط في السلسة التي تقود العمل الفني إلى قوته الكاملة. في قبائل اللوبي المنتشرة في مناطق كثيرة من إفريقيا هناك تنوع كبير في أشكال المنحوتات التي تشكل رابطة العشيرة الروحية لأن المنحوتات هي التي تقيم العلاقة مع الأرواح. أقنعة الجنوب تكشف الدراسة عن أن القناع يعد الأكثر رمزية في الفنون الأولى لكونه حاضرا في مجمل البلدان والحضارات. وتدل كلمة قناع على معنى الساحرة في الفرنسية وقد عرف الغرب القناع منذ القديم لكن القناع الإفريقي لا تنحصر قيمته في المنحوت بل يمتد إلى الزي كله فهو يلبس ليغطي الراقص بكامله الذي يصبح تجسيدا لروح من الأرواح. ويصنف القناع في أربع طبقات كبرى وهي أقنعة لا توضع على الوجه وحسب بل هي تحمل وتوضع بكيفيات مختلفة. وفي هذا السياق يوضح أن دراسة تلك الفنون تتطلب أن يأخذ الدارس بعين الاعتبار فنون البلاط إلى جانب الفنون الشعبية والمنتوجات الفنية العائدة لعصر الامبراطوريات الكبرى إلى جانب الفنون الحديثة. تتسم هذه الأقنعة بأنها مركبة فهي تتألف من عدة عنلصر رمزية منظمة يتمازج فيها الحيواني بالنباتي بالكوني كما يتضح من خلال عرض الكثير من تلك الفنون عند شعوب القبائل الإفريقية المختلفة حيث تظهر تلك الأقنعة في شكل أزواج تعبيرا عن ثنائية العالم وتلعب النساء دورا مهما في صنع تلك الأقنعة التي تمزج بين التجسيم الطبيعي والتجريد الزخرفي والتي يظهر فيها الوجه على شكل مثلث حيث تتخذ الأوان فيها دلالتها الخاصة. وينفي الباحث ما ذهب إليه الغربيون من أن الأقنعة هي كامل الفنون الأولى لأن مجالها أكثر اتساعا تشمل الأثواب والأواني المتصلة بالحياة اليومية. كذلك يرصد الانتقال الذي شهدته تلك الفنون مع الهجرات القسرية التي فرضت على زنوج إفريقيا نحو العالم الجديد كما في فن الأرواك الذي ظهر في الأنسجة والنحت على الخشب والأواني والفن التشكيلي. .. والشمال تحت هذا العنوان يبحث المؤلف في فن حضارة الأسكيمو التي تجلت في منحوتات صغيرة كانت تصنع من عاج الحيوانات وكانت بمثابة تمائم موجهة للحصول على صيد وفير وفي هذا الصدد يؤكد على الطابع العام للفنون الأولى والذي يتمثل في كونها فنونا سحرية، كما يقدم صورة عن أقنعة تلك الحضارة التي كان الشامان فيها يلعب دور الموجه لعملية صنع الأقنعة حيث تذهب تلك الشعوب إلى أن الكائن يمتلك القدرة على التحول على هواه ففي داخل الإنسان ما يزال موجودا جزء من نظيره الحيواني وفي كل حيوان جزء من الروح الإنسانية وبذلك فإن أقنعتهم توضح الجوانب المزدوجة للإنسان الحيوان وللحيوان الإنسان ولذلك تدعو الأقنعة إلى توحد الكائنات الحية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©