الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأعذب والأكذب

الأعذب والأكذب
27 يوليو 2011 19:25
قال النقاد العرب القدامي قولاً سار كالنار في الهشيم “أعذب الشعر أكذبه”، وفي رواية “أصدق الشعر أكذبه”، وبقيت هذه المقولة شاهدة لمن يريد تجاوز الحالة الشعرية الراهنة إلى الإبداع الذي يُقدر صاحبه عليه، وفاتهم عند محاكمة شعرية الشاعر، أنّ هذه الشعرية غير خاضعة للصدق أو الكذب، إذ ينبغي حصرها في باب المعنى إذا نظر إليها من الوجه الآخر، يعني التخيَّل، وهجر المقياس المنطقي الذي يرى في صدق الشاعر مُقاربة الواقع أو رؤيته بوضوح. لقد تطور النقد القديم ومرَّ بمراحل مختلفة، إذ من طبيعته المعقولية المنظمة، والحدس الدقيق مؤمنا بتعدد الرؤى والمنهج النقدية بين الحديث والقديم.. كما أن العرب في جاهليتهم قد بلغوا مرحلة راقية في الأداء اللغوي تشهد لهم بالفصاحة حتى أصبح ذلك خاصة تطلق عليهم. فلقد أصبحت الفصاحة مجالا للتفاخر فيما بينهم. وكان مظهر التفوق القولي لدى شعراء ما قبل الإسلام متمثلا بصورة بارزة في الشعر باعتباره ذروة الإبداع الفني، حيث كان للشعراء وقتذاك مكانة عالية بين قبائلهم.. فكانت القبائل تعرف بشعرائها.. وكان ظهور شاعر في قبيلة يعد حدثا اجتماعياً هاماً لديهم. يحكي الباحث عبدالعزيز إبراهيم في كتابه الموسوم “استرداد المعنى دراسة في أدب الحداثة” الصادر عن مطابع دار الشؤون الثقافية في بغداد بصفحاته الـ 192 صفحة من القطع الاعتيادي، من خلال أربعة مباحث ومقدمة مشيراً إلى أنه يحاول في كتابه هذا أن يدرس: “المعنى أو نقرّب صورته في إبداعنا، فإنّه لا يعدو أن يكون طريقة قصدية أريد لها أن تظل ملازمة للعمل الأدبي إلى لفظ ومعنى”. كما أضاف إبراهيم قائلاً: “انقسم نقادنا على وفق هذه الثانية ـ اللفظ والمعنى ـ إلى قسمين: قسم وجد في اللفظ يصنع هذا الفضل، وبذلك لم يصل الاثنان إلى اتفاق مُجْدٍ، مما دفع بفريق ثالث إلى الدعوة بالموازنة أو التعادل، بمعنى لا يمكن النظر إلى المعنى دون لفظه، ولا اللفظ دون معناه، وهذا ما ساعد على خلق وضع قريب لما اصطلح علية في السبعينيات من القرن الماضي، حالة اللاحرب واللاسلم، وباتت القضية خاضعة على فهم جديد لا يختفي قائله خلف المصطلحات الغامضة أو المجنحة، بل يقول على الوضوح النظري الذي يرى أن العبرة بأن تُسمي الأشياء، بل العبرة بأن تُغيِّر أسلوب فهمها”. قسم المؤلف دراسته ـ الكتاب ـ إلى أربعة مباحث تناول في المبحث الأول “المعنى لغة واصطلاحاً، ونظرة القدماء إلى المعنى، وتقسيمات القدماء للمعاني، وتناولهم للمعاني”. فالأصل اللغوي لكلمة “المعنى” في رأي الخليل بن احمد الفراهيدي أنّ “معنى كل شيء: محنته وحاله الذي يصير إليه أمره”. وعنه توالت النقول عند اللغويين العرب. كما أشار إلى نظرة النقاد القدامى إلى المعنى مستشهداً بنصوص من مصنفاتهم في هذا المقام، لأبي هلال العسكري في الصناعتين، ولابن قتيبة، ولابن طباطبا، ولقدامة بن جعفر ولعبدالعزيز الجرجاني،... وعرض لتقسيمات القدماء للمعنى في هذا المبحث، بادئاً حديثه بقول للأديب الجاحظ “اعلم أنّ حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ، لأنّ المعاني مبسوطة إلى غير نهاية، وممتدة إلى غير نهاية”، معرجاً على تقسيم البلاغيين العرب أمثال أبي هلال العسكري التي قسمها على نوعين فقال: “والمعاني على ضربين: ضرب يبتدعه صاحب الصناعة من غير أن يكون له إمام يُقتدى به، أو فيه، أو رسوم قائمة في أمثلة مماثلة يعمل عليها. وهذا الضرب ربما يقع عليه عند الخطوب الحادثة، ويتنبّه عليه عند الأمور النازلة الطارئة. ولآخر ما يحتذيه على مثال تقدم ورسم فرط”. كما عرض لآراء عبدالقاهر الجرجاني وابن الأثير والسكاكي، وحازم القرطاجني، مع الإشارة إلى إضافات النقاد القدامى لمعنٍ جديدة هي: المعاني الجمهورية، المعاني الحادثة، المعاني الشعرية، المعاني الصناعية، المعاني العقم، المعاني المتقابلة، المعاني الناشئة، والمعاني البكر، واستشهد لكل إضافة بشواهد ونصوص شعرية خاصة. ثم موضوع تناول القدماء للمعاني، حيث عرض عبدالعزيز إبراهيم لأبيات الشعر، السرقات الشعرية، والاختيارات. رؤية المعاصرين في المعنى أما المبحث الثاني للكتاب فعقده عبدالعزيز إبراهيم للحديث عن “رؤية المعاصرين في المعنى، موضحاً فيه إلى: قبل الحداثة/ بلاغة الإيجاز، أهل الحداثة/ النص بين الغلق والفتح، وفيه حديثه عن: المعنى المزاح، والمعنى المنقول”. فذكر أن رؤية المعاصرين للمعنى توزعوا إلى جماعتين: الأولى التي سارت على نهج التراث ووجدت فيه تنظيراً نقدياً متكاملاً، فلم تغادره وبقيت عالقة به دون أن تنفك منه، ترى في ما طرحته الأدبية العربية من قوانين صالحة لدبنا الحديث وهي بذلك تعني البلاغة وعلومها (المعاني، البيان، والبديع)، ويتم على ضوئها تحليل النصّ الشعري أو النثري ولا مناص من ذلك. أما الثانية عند المؤلف فهي أنه وجدت في الأدبية الغربية ضالتها ودعت إلى عُرف عالمياً بـ”الحداثة” وحاولت أن تخلي أرض النقد إلاّ منها تحت عنوان “البنيوية ودراساتها الأسلوبية”، فكان صنيع هؤلاء في الدرس النقدي كصنيع المجددين في الشعر، عندما هجروا الموزون المُقفى إلى التفعيلة، ثم تركوا التفعيلة ليكتبوا نثراً أسموه “قصيدة النثر”، فكان فعل النقاد الأسلوبيين ظهيراً سائداً لهؤلاء الشعراء. بعد ذلك أشار إلى آراء عدد من النقاد العرب القدامى والمُحدثين في هذا الموضوع موضحاً لآرائهم ونماذج من أقوالهم وأشعار الشعراء، وعرض للمعنى المزاح، والمعنى المنقول. بين الابتكار والاسترداد جاء “المعنى بين الابتكار والاسترداد” عنوان للمبحث الثالث، الذي تناول فيه المؤلف للمعنى بين الابتكار والاسترداد، عارضاً فيه لقدرة المنتج، النص المؤلف ـ الأسطورة ـ النص المترجم، قابلية المتلقي في القراءة، التي وزعها إلى الفهم، التحليل، والتأويل. وقال إبراهيم عبدالعزيز في هذا المبحث بأنّ الحداثة حاولت: “أن تنصِّب القارئ وريثاً شرعياً بعد الإعلان عن موت المؤلف بصفته مُتلقياً بعد القراءة حيث يعمد مُنتجاً للنص ويتحمل وزر التفسير والـتحليل ومن ثمّ التأويل، عن ذاك يكون النص أرضاً مُشاعة بين مؤلف النص الذي فكر بمعناه مسبقاً، والمُتلقي ـ ولن يكون واحداً بل أكثر منذ ذلك ـ صاحب المعنى الجديد الذي يغطي النص بمعنى قد يفكر هو به خلافاً لغيره فتعدد المعاني طبقاً لتعدد القراءات”. كما قدم أن الإبداع هو القدرة على ابتكار شيء لم يوجد سابقاً ويعتمد على مواهب الشخص المبتكر ومعلوماته وخبراته دون أن نهمل محيطه الخارجي الذي يخلق المنبهات والإيحاءات التي تربط بين قدراته الداخلية ـ الذاتية ـ والبيئة المنشطة لتنمية ما فكر به أو ما حاول خلقه، عند ذاك يخلق النص إن كان المبدع كاتباً أو شاعراً. كذلك تناط باسترداد المعنى المهمة بالمتلقي فاعلاً يقابل صنيع المنتج عند ذاك يتم الاسترداد من خلال الفهم والتحليل والتأويل فتصبح قراءته رؤية من ثلاث رؤى: ما فكر به المنتج، أو ما يخالف رأيه أو ما لم يفكر به مطلقاً، وهذه الرؤى المتعددة هي من قراءات الحداثة التي فتحت الباب واسعاً لدخول المتلقي بطلاً حداثوياً. أنواع الاسترداد ختم عبدالعزيز إبراهيم مباحث كتابه بالمبحث الرابع وهو “أنواع الاسترداد” الذي ينظر إليه من خلال أربعة أنواع شرحها المؤلف وقدم لها نماذج نصية، وتندرج تحت عناوين: الاسترداد المُعجمي للمعنى، الاسترداد البلاغي للمعنى، الاسترداد الجمالي للمعنى، وأخيراً الاسترداد البديل للمعنى، الذي قال عنه: “وهذا ما أوصلته الحداثة ـ البنيوية والتفكيكية ـ وفيه تشظى المعنى إلى معانٍ لا يجمعها جامع مسلوبة كأنها غنائم يجوز بعضهم الحق في زعمها بما يطابق هواه ...”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©