الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حيوانات السياسة..

حيوانات السياسة..
27 يوليو 2011 19:27
تدور أحداث رواية “زمن الضِّباع” العمل الروائي الأول للمستشار أشرف العشماوي، والمرشحة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لهذا العام، في غابة افتراضية غير محدِّدة المكان أو الزمان، أبطالها جميعهم من الحيوانات، الأمر الذي يذكرنا برائعة ابن المقفع “كليلة ودمنة”، لكن الحيوانات هنا وحكايتهم ليست مجرد قيم ونصائح وحكم، إنها تحمل معاني ودلالات وأبعادا تلقي بظلال كثيفة على ما جرى ويجري في الدولة الحديثة، حتى ليمكن التعرف على الكثير من ملامح ما كان يجري في مصر في ظل النظام المصري السابق والحراك السياسي والواقع الاجتماعي الذي عايشه المصريون. ترسم الرواية الصادرة حديثًا عن مكتبة الدَّار العربية للكتاب التي تروى على لسان أحد المقربين للرئيس، ببراعة ودقة ما كان يجري في كواليس الحكم وعالم السياسة وما يحيط بهما من دسائس ومكائد، قادة الغابة كلهم حاضرون: الأسد ملك الغابة وحاكمها، والثعلب مسؤول المعلومات والتقارير بالجزيرة المركزية الذي يعمل تحت إدارته الكثير من الجراء والحمير، وكبير الضباع رئيس الحكومة والمسؤول عن إنهاء المظاهرات وأحداث العنف، وفرس النهر الكسول المنافق الذي قفز إلى أعلى درجات سلم الإدارة دون مقتضى وغيرهم كثيرون. تبدأ الرواية أحداثها بإيقاع سريع فيتكشف لنا صراع جماعات القوى والمصالح في الغابة لتحقيق السيطرة عليها، فمن ناحية محاولات الضباع لاستئناس الأسد الذي تمكن كبير الضباع منه حتى حجب عنه بقية حيوانات الغابة المخلصين. ومن ناحية أخرى صراع لا ينتهي بين الثعلب العالم ببواطن الأمور وكبير الضباع الذي نشر أتباعه: المرقط والبني والمائل إلى السواد والمخطط وغيرهم كالطاووس والتمساح في أرجاء الغابة وجنبات العرين، فالثعلب خبير المعلومات، يستطيع التنبؤ بما سيقع من أحداث، مما توافر له من معلومات أو أحداث صغيرة لا يقف أمامها الكثيرون، لكنها ذات دلالة في عالم المؤامرات. الأحداث والوقائع والتغيرات بتفاصيلها ومؤامراتها ودسائسها يرويها لنا الثعلب بطل الرواية، وهو شخص مقرَّب جدًّا من الأسد، وبسبب تواجده على مقربة من صانعي القرار يكون دائماً فريسة للمؤامرات الكثيرة التي تحدث في المملكة وعرضة للمفاجآت التي تتوالى كلما تصاعدت الأحداث. فالضباع تتغوَّل وتسمح لخرتيت بالجلوس على عرش الغابة وهو يحل بذلك محل الأسد فيصبح كبير الضباع بين ليلة وضحاها معاوناً للخرتيت، والرجل الثاني في المملكة، ليستمتع بتحريك الأحداث من وراء الستار حتى تحين له الفرصة لتولى مقاليد الأمور بالكامل بمفرده. واللافت للنظر أن بطل الرواية الثعلب يستطيع التنبؤ بما سيقع من أحداث، حيث تتوافر له دائما المعلومات ويتابع بمكره الأمور الصغيرة التي لا يقف أمامها الكثيرون، ولكنه بخبرته في عالم المؤامرات يتعامل معها بدهاء أحياناً وببساطة أحياناً أخرى، وبخوف في كثير من الأحيان خاصة حين يتراءى له أن كلا من الطامحين في الجلوس على كرسي العرش لهم مآرب أو أغراض شخصية، وأن الصالح العام لم يكن من بين اهتمامات أي منهم، وبالتالي يكون الانهيار الذي جرى مؤخرا هو النتيجة الحتمية التي ستأخذنا لها الأحداث بسلاسة ومتعة. يحمِّل الكاتب عمله برؤى وآراء سياسية، اختار أن يمثلها ويرسمها من خلال حيوانات في غابة مفترضة، لكن الرواية مع ذلك لم تفقد لغة السرد وتتابعها، وجماليات فن الرواية، كما لم تفقد وضوحها في أي مرحلة من مراحلها المتنوعة، ولا حادت عن دقة الرأي وحدته. فمنذ اللحظة الأولى وقضيتها الأساسية محددة لا تغير الأحداث الفرعية منها ولا تشوش الأفكار الجانبية عليها، فالنهر الكبير للحدث يزداد عمقاً كلما صبت فيه الأحداث لا تخرج منه إلا وتعود إليه، وقد استخدم الروائي في ذلك جماليات المكان، وقيثارة الزمان، فلعب على أوتارها بالعودة للماضي أحياناً والقفز إلى المستقبل أحياناً أخرى. و لم يقف المؤلف أمام المظاهر الخارجية الخادعة، بل استفاد من خبرته في العمل القضائي في معرفة خبايا القضايا واعتمد عليها كثيراً في معالجته لروايته الأولى، مما سهل عليه تفسير الدوافع النفسية للصراع على الحكم في الغابة، وظروف كل طامح إلى العرش، فإذا كان الوضيع يغالي في التعالي لمداراة أصله، فإن كريم الأصل والشريف الساعي لمصلحة الأمة يلتزم الصمت حيطة وحذرًا وينأى عن الدسائس و المؤامرات و يتفرغ للعمل. أشرف العشماوي يعمل مستشارًا بمحكمة استئناف القاهرة، وكان قاضيًا بالمحاكم الجنائية والمدنية، ومحققًا في قضايا رأي عام شهيرة على مدى زمني طويل كوكيل للنائب العام. وهذه الرواية تثير على المستوى الفني قضية غاية في الأهمية: وهي أنها تستلهم التراث السردي العربي من خلال الحكايات على لسان الحيوان والطير، وهو تراث عريض في الأدب الهندي، منذ “كليلة ودمنة” و”منطق الطير” وهي آلية للترميز، وقول الحقيقة دون خوف أو خشية من الحكام، وشاعت عمومًا في أزمنة القهر، حين يلجأ المبدع إلى الرمز أو التصوّف ليكتب بحرية اكبر، خاصة أن المؤلف كتبها على مدار السنوات الخمس الأخيرة وكان مقدرا لها أن تنشر في يناير الماضي وجاءت الثورة لتؤجل ظهورها بضعة أشهر أخرى لتكشف لنا جانبا خفيا وعالما سحريا من زمن الضباع عندما تسود غابة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©