الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحاكي والصامت في تاريخ البصرة

الحاكي والصامت في تاريخ البصرة
24 يوليو 2013 21:58
يُعرّف إحسان وفيق السامرائي كتابه “لوحات من البصرة.. عبير التوابل عبر الموانئ البعيدة” بصفته “لوحات عن الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية والتاريخية في البصرة من القرن العشرين حتى سنة 1979”. يبدأ الكاتب بـ”دفلى وجوريات” ويقر فيها “بصعوبة الكتابة عن مدن تم العيش فيها ولم نقف عند ظواهرها الاجتماعية والسلوكية وتحليل شخصياتها مهما كانت ومهما شغلت من موقع اجتماعي”. وما يحسب للمؤلف تناوله لأحداث ووقائع وسيرة المدينة وناسها سواء أكانوا في أعلى السلم الاجتماعي أم في درجات مختلفة منه ومن ضمنه القاع، وهو لم يتجاهل أو يتغاضى عن سكانها وميزاتهم لأن هذا التغاضي يعني القفز على تاريخ المدينة وتجاهل سماتها التي تميزها عن غيرها، فالمدن كما يقال بـ”ناسِها” والبصرة اختلطت على تربتها أجناس بشرية شتى جاءت عبر مواكب تاريخها، لكن كل مَنْ حلّ فيها امتزج بثقافتها وشخصيتها ذات السمات المميزة بتقاليدها ومذاهبها “عربية وغير عربية” وهي كما يذكر “لوريمر”: “سكان البصرة من مسلمين عرب، بكل أعراقهم ومذاهبهم، مسيحيين وأرمن ويهود وأتراك وأكراد وفرس وهنود وصابئة وهندوس وبلوش قاتلوا بضراوة كفريق واحد غزو” كريم خان زندي” وذادوا عن مدينتهم بكل ما يملكون من شجاعة وحب، حتى انكفأ مدحوراً ولم ينل منها، فأثبتوا وجودهم وأصالتهم بعيداً عن العرقية والمذهبية، وقدموا بذلك وثيقة إنسانية كبرى تتسم بالحب والتضحية عن مدينتهم جميعاً والتي لم يستطع أن يستفرد بها أو يستحوذ عليها، مكون واحد”. وكل مَنْ استوطن البصرة لم يأتها فقط، عبر بواعث سياسية أو عرقية أو مذهبية، بل ليتزود من علومها وروحها لكونها مدرسة وحضارة، أما محاولات الاستيطان المقصودة، حالياً، والمدمرة لنسيجها الاجتماعي المختلف ـ المؤتلف، وتَرّيفِها، للنيل من روحها المتحضرة، فأنها مرحلة عابرة في تاريخها وستفشل في قابل الأيام كما فشلت في سابقاتها. الرحالة الأجانب يقتبس الكاتب عن الجاحظ قوله “ليس في الأرض بلدة واسعة ولا بادية شاسعة ولا طرف من أطراف الدنيا إلا وأنت واجد به البصري والمدني”. وعن السمعاني: “البصرة.. قبة الدنيا.. بل قبة الإسلام.. لم يعبد بها صنم”. وينقل عن الرحالة العرب ما قالوه فيها وما كتبه عنها الرحالة الأجانب الذين مروا بها. ويثبت أسماء رؤساء بلدية البصرة في العهد العثماني، ويقتبس (تلغرافات) حول ذلك ثم ينتقل إلى حدود ولاية البصرة بألويتها وأقضيتها ونواحيها التي رسمتها الإمبراطورية العثمانية، التي تهاوت بعد ذلك، وكما يلي “لواء البصرة: البصرة والقرنة والفاو والكويت. لواء المنتفك: الناصرية وسوق الشيوخ وشطرة المنتفك والحي. لواء نجد: الهفوف والقطيف وقطر والرياض. لواء العمارة: شطرة العمارة والكحلاء والمجر الكبير وعلي الغربي”. وكان الأفضل أن يبدأ بالثانية، أي مكونات وحدود ولاية البصرة العثمانية. ومثل هذه الحالة، أي البداية بالفرعي أولاً والعودة إلى الأساسي ثانياً غالباً ما تتكرر في الكتاب. كتاب السامرائي الذي استغرق العمل فيه أكثر من خمس سنوات، جهد يتجاوز طاقة الشخص الواحد لكن السامرائي تصدى لها منفرداً، وهو ما يحسب له. ونؤكد إن هذا الجهد والدأب فيما يخص البصرة قد شابه بعض النواقص التي لا نعتقد أن المؤلف يجهلها ولكن ربما فاتته سهواً، ولابد من بعض الملاحظات التي لا تبخس الكتاب ودأب السامرائي في هذا. فمن خلال تعريفه ببعض مناطق البصرة ومنها الشعيبة مثلاً والتي تصفها ليدي دراور بـ”واحة تتلألأ ذرات الملح في إطرافها فيحسبها الثلج” (ص 219) فأنه لا يتطرق إلى المعركة الضارية التي جرت فيها بين القوات البريطانية والمتطوعين العراقيين لقتالها على ارض الشعيبة ذاتها خلال ثورة العشرين، لكنه يتطرق لمقاومة عشائر (القرنة) للقوات البريطانية. وعند تناوله شركة نفط البصرة فأنه يتحدث عنها مفصلاً وتنقيباتها النفطية ومنجزاتها الكثيرة ومنها تطوير القطاع النفطي في البصرة وبناء مستشفى خاص بمنتسيبيها وكذلك بناء حي سكني لهم، وحتى مَنْ تعاقب على إدارتها من الانكليز والعراقيين، لكنه يهمل السعي المَطلبي، الذي خاضه عمال الشركة وسالت فيه الدماء عبر الإضرابات العمالية المتكررة في الشركة ذاتها. مهرجان المربد يتناول السامرائي النشاطات الثقافية والفنية في عموم مناطق البصرة بكل أقضيتها ومناطقها ومنها، الزبير والفاو والقرنة وأبو الخصيب والمعقل. ويولي السامرائي مهرجان المربد احتفاءً خاصاً، ولابد أن نتفق معه في أن مهرجان (المربد) يعد “التظاهرة الاحتفالية الأكبر عربياً والمناسبة التي يحتضن فيها العراق مثقفي العرب ومبدعيه من دون أن نغفل عن أن الهاجس الإعلامي والدعائي كان المحرك الأول لمن يقف وراء تلك الأنشطة الثقافية، وليس الرغبة في الثقافة وحب المعرفة” ـ (د. صالح هويدي/ المثقف العراقي من ثقافة السلطة إلى ثقافة المستقبل/ جريدة تاتو- العدد 43 - 2012). كما انه يصف ما حدث يوم 14 تموز 1958 بالانقلاب العسكري أو بـ(الحركة) (ص 192 وص 257)، ولم يتطرق لهذه السنوات التي منحت البصرة، أبواباً متعددة من مختلف أنواع التحولات الاجتماعية والنشاطات التي لا عهد أو تراث للعراقيين بها، ولكنها بالترافق مع السنوات القادمة، وعدم ارتفاع كل القوى السياسية العراقية، التي ضحى بعضها بالتجربة العراقية. قدم السامرائي جرداً مفصلاً عن أدباء وكتاب المدينة خلال عقود من السنوات مع سيرتهم ومؤلفاتهم وقد شمل ذلك الجرد أكثر من 98 شخصية ثقافية وفنية وأدبية، لكن فاته التوثيق لبعضهم، ومنهم الشاعر مصطفى عبد الله الذي توفى في المغرب عام 1988 وله ثلاث مجموعات شعرية وأصدرت وزارة الثقافة العراقية مؤلفاته الكاملة التي جمعها و قدم لها الشاعر عبد الكريم كاصد. ولم يورد شيئاً ما عن الكاتب والقاص والناقد والصحفي والمترجم مصطفى عبود/ أبو النور والذي ترجم عشرات التراجم ومنها “عاصفة الأوراق” لماركيز وكذلك ترجمته كتاب “تحت أعواد المشنقة” ليوليوس فوتشك عام 1978، ثم توفي بعد سنوات في براغ، ولا الفنان والشاعر محمد سعيد الصكار، ومكتبه للخط والإعلان الواقع في منتصف سوق (المغايز) بالعشار. 12 قصة كما لم يذكر السامرائي نشاط بعض أدباء وكتاب البصرة وتجمعهم في مقهى (أبو مضر) أو ما اصطلح عليه شعبياً بـ(الدَكّة) والكثير من المشاريع والنتاجات الثقافية والأدبية التي انطلقت منها وفي مقدمتها (12 قصة/ بصرية) بحلقتيها، لكنه يذكر الحلقة الثانية من (12 قصة) ويضيف إلى مَنْ ساهم فيها القاص المرحوم كاظم الأحمدي الذي لم يشترك في حلقتيها، ولم ينتبه إلى أن الحلقة الثانية ساهم فيها (13) قاصاً لكنها حملت الاسم الأول أي (12) قصة ولم يشترك فيها محمد خضير وعبد الصمد حسن ومحمد السباهي وشارك بدلاً عنهم شارك كل من القصاصين خليل المياح، وسلمان كاصد، وحسن موسى، وشاكر السكري، وصدرت عام 1972. وكذلك لا يذكر الشاعر مهدي محمد علي الذي له ثمانية دواوين شعرية إضافة لكتابه الخاص بالبصرة ذاتها والمعنون “البصرة جنة البستان”. لكنه يذكر بتقدير عميق العديد من الساسة والشخصيات الاجتماعية والمهنية والثقافية والفنية والشعبية البصرية ـ نساءً ورجالاً ـ ويورد الكثير من أسمائهم وينشر بعض نتاجات شعراء وشاعرات المدينة ويؤرشف لبعض كتابها ويتحدث عنهم بكل احترام. الملاحظات هذه وأخرى غيرها مما لا نرى ضرورة التطرق إليها، لا تقلل أبداً من جهد إحسان وفيق السامرائي ودأبه الذي بذله في كتابه، وهو كما وصفه الشاعر حسين عبد اللطيف في كلمته في الكتاب بأنه: “أثر فيه وقائع وأحداث، حكايات وأساطير، نوادر ومآسي، فيضانات وأوبئة، غزوات واحتلالات وأثار سياط” (ص9 ). وعذابات خاصة ـ عامة ، مزقت نسيج البصرة وطالتنا جميعاً وحتى المؤلف نفسه، لم ينجُ من تداعياتها ونكباتها وعذاباتها في ما بعد 17 تموز 1979. “عبير التوابل والموانئ البعيدة..” ينطبق عليه ما أورده الأستاذ إحسان وفيق السامرائي (ص20 ) عن (العماد الأصفهاني): “إني رأيت انه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده لو غيّر هذا مكان هذا أحسن ولو زيد لكان يستحسن ولو قدم هذا مكان ذاك لكان أجمل وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©