الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القناع الجريء والأقنعة المزيفة

القناع الجريء والأقنعة المزيفة
27 يوليو 2011 19:28
شرعت الهيئة العربية للمسرح مؤخرا بإصدار سلسلة “نصوص مسرحية” التي تُعنى بنشر النصوص الأدبية المسرحية عربيا. كانت باكورتها ثمانية نصوص مسرحية من الإمارات صدرت في جزءين، ضمّ كل منهما أربعة أعمال لم يسبق نشرها كما لم يجرِ عرضها كلها على الخشبة من قبل، سواء مأخوذةً كما هي أو تمّ إعدادها. هنا يواصل “الاتحاد الثقافي”، تباعا، نشر متابعات نقدية وقراءات في هذه المسرحيات. وما يلي قراءة في النص الأدبي المسرحي الذي يحمل العنوان: “بهلول والوجه الآخر” للكاتب المسرحي جمال سالم. يستقي جمال سالم شخصيات مسرحيته هذه من التراث: البهلول والقاضي ورئيس الشرطة ووزير الوالي والتاجر وسواها من الشخصيات الأخرى. يشعر المرء إذ يقرأ تعريف الكاتب لها قبل شروعه ـ أي القارئ ـ في تناول المتن بأنها شخصيات باتت كلاسيكية، ليس بسبب أنها مكتشفة في المسرح العربي الحديث من الحكايا الشعبية التي راجت في فترات الانحطاط وأزمنة الشطّار والعيّارين فحسب، بل أيضا من فرط ما استخدمها المسرحيون العرب منذ الخمسينيات لصياغة ما هو أشبه بالسعي إلى تأصيل هوية عربية للمسرح بحيث يُقال “مسرح عربي” مثلما هو حال “الشعر العربي”، أو بعض أنماط الإبداع الوافدة إلى الثقافة العربية منذ عهود الاستعمار الغربي. ينضاف إلى ذلك أمرين على الأقل، يتصل الأول منهما بأن هذه الشخصيات غالبا ما انتمت إلى نوع من المسرح الذي يُعرف عربيا بـ”مسرح الفرجة” وهو مسرح له تيار عريض في أوساط المسرحيين العرب مثلما أن هناك خطابا نقديا قدم ويقدم طروحاته النقدية بالتوازي مع عروض هذا المسرح، بعيدا عن إنْ كان المرء يتفق معها أم لا.. فهي موجودة بالفعل، في حين يتمثل الأمر الأخير بأن البعض من هذا النوع من المسرح العربي قد ظهر لضرورات الإسقاط على الواقع المُعاش راهنا على نحو موارب وليس صريحا تماما، ما يعني أن التورية، لا الغموض أو الرمزية، هي “بلاغة المقموعين” باستعارة من الدرس النقدي العربي القديم. ومن باب الإيضاح ليس إلا، يبقى أمر آخر يتصل بتقنية كتابة النص الأدبي للمسرح وبالتالي العرض المسرحي الذي ينبني عليه، وهو أن العمل لا يتكون من فصول بالمعنى الكلاسيكي أو المُحدث في كتابة النص المسرحي عربيا أو غربيا بل يُكتب في لوحات متتابعة أو مشاهد متتالية يتم من خلالها التعرف على الشخصيات والحكاية التي تتحكم بالحدث وبالبنية الدرامية للعمل ككل، أي كما هو المسرح العربي حين بدأ مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وظهرت من خلاله بوادر الاحتراف. وهذا ما يدركه جمال سالم كاتبا مسرحيا، فلا يسمي مشاهده المسرحية بالفصول بل تبقى فصولا، لأن أي نص أدبي كلاسيكي كما هو معلوم يتألف من خمسة فصول وعندما كتب الفرنسي غوستاف فلوبير مسرحية من ثلاثة فصول قامت الدنيا ولم تقعد على رأسه. غير أن هذا يبقى أمر آخر. وما يميّز هذا النوع من المسرح العربي، وكذلك النص الأدبي لـ”بهلول والوجه الآخر”، هو هذه الكثرة في عدد الشخصيات ثم توزّع أحداثه وحكايته وبنيته الدرامية على مشاهد أو لوحات مسرحية بما يكفي المسرحية من الوقت والجهد لاستنفاد دلالتها الواسعة والكبرى ووصولها على هذا النحو او ذاك للمتفرج. إن “بهلول والوجه الآخر” تنتمي إلى هذا المسرح العربي عبر أوجه عديدة كما أنها تنزاح عنه بأوجه عديدة أيضا مع ملاحظة أنه من غير الممكن لعمل مسرحي اليوم أن ينبني على خمس عشرة شخصية تظهر على الخشبة وتتكون من اثني عشر مشهدا. عبر التورط في قراءة النص الأدبي لـ”بهلول والوجه الآخر” نكتشف شخصيته الأخرى أو الحقيقية تماما، إذ رغم أنه “البطل” أو الشخصية الرئيسية في العمل إلا أنه يبدو شخصا محدود الطموح، فكل ما يتمنى من أجل أن تصبح زوجته سعيدة أن ينتقل هو إلى بلاط الحاكم فيصبح الـ”قراقوز” الذي يُضحكه ومن خلاله يمرر رسائل لآخرين قريبين منه أو بعيدين وليس مهرّج القصر الذي يُضحك الناس جميعا، إنها أحلام العصافير التي تتمنع على صاحبها، و”بهلول” هنا ليست شخصيته كما هي في المخيال الشعبي، الرجل الذي “على البركة” او حتى الأحمق بل هو رجل مقالب وشديد الخبث والذكاء وبحسب الوصف على لسان إحدى الشخصيات فهو: “يتلون بألف لون ولون.. إن ما يميز هذا الرجل أنه يتشكل حسب الموقف وبجميع الوجوه وها أنت قد رأيت بأم عينك”. وما يحدث له هنا كي تتأثر شخصيته بمواقف الآخرين منه أن يحكم عليه القاضي بإلباسه قناعا يُخفي وجهه الحقيقي الذي أصبح جزءا من الماضي لكنه يكشف أكثر عن حقيقة شخصيته وانتهازيتها مثلما طرافتها وجاذبيتها الخاصة في العمل المسرحي، غير أن الأخطر في الأمر هنا هو أنه يستخدم ذكاءه الخاص فيجعل الآخرين يكتشفون حقيقتهم ـ أقنعتهم التي اكتشفها فيهم قبل أن يكتشفوها هم. يستغل “البهلول” كل التناقضات الداخلية للشخصيات الأخرى ليكشف عن أي مستوى من العَفَن الأخلاقي والإنساني الذي بلغته هذه الشخصيات في الوقت ذاته الذي لا يعدم فيه من مواجهة نفسه وحقيقة أمره دون محاولة لتزويق أو إدخال أي محسّنات أخرى، ولعل هذا الأمر هو ما يهيّئ له الفرصة لأن يكون فضيحة المجتمع، فهو إذ يتصل بطبقته العليا الأقرب إلى رأس السلطة نتعرف من خلاله إلى طبيعة المجتمع بالسلطة وإلى حدّ يخضعون لشروطها بل وما هي التنازلات التي يقدمونها لهذه السلطة، وكذلك طبيعة العلاقة التي تحكم الشخصيات ببعضها البعض وتأثر هذه العلاقة بواقع الفرد في السلطة والأخلاقيات السائدة في ما بينهم، غير أن الكاتب جمال سالم لا يمنحه مرتبة شاهد العيان على هذه الطبقة الاجتماعية وما يجري فيها ولا يتركه يتأثر بها بل يشدّه دائما إلى عالمه الأول وحياته الولى التي كانت بريئة ووديعة رغم ما فيها من فقر ومفارقات تصلح للتذكر والتندر، لكنه يجعل منه متلصصا على أوضاع هذه الطبقة إلى حدّ أنه حين تحاول زوجة رئيس الشرطة جرّه إلى عوالمها يتملص منها وينزلق من بين يديها كما لو أن جسده قد اندهن بطبقة كثيفة من زيت ذي رائحة ليست طيبة. وربما، إذ يتخيّل المرء أن النص الأدبي لهذا العمل يجري أمامه على خشبة مسرحية يؤديه ممثلون محترفون فإنه يحتاج إلى مخرج مسرحي يستطيع التعامل من نص كوميدي بامتياز، أو حتى إنْ لم يكن كذلك فإن بوسعه أن يخلط فيه عناصر التراجيديا على مستوى إدارة الممثل كما على مستوى صناعة السينوغرافيا، ذلك أنّ العمل يشتمل عليها بالفعل حيث هناك العديد من الموقف المسرحية التي تدفع بالمرء إلى الضحك، خاصة وأن لغة النص الأدبي لـ”بهلول والوجه الآخر” هي اللغة العربية الفصيحة بأبسط مستوياتها والتي من الممكن التلاعب بدلالاتها عبر الألفاظ وقلب معانيها أو التغيير فيها، بحيث يصبح السوداوي من فرط جديته كوميديا بامتياز دون أن يقدم العمل أي تنازل عن مقولته الكبرى بل إن ذلك ربما يجعلها أكثر قربا من جمهور المتفرجين. يبدو “البهلول” إذ يتحرك بين شخصيات لا تخلو من النمطية أو الكلاسيكية أشبه بلاعب أكروبات يحسن القفز على الحبال، إذ يستغل الكاتب خبث هذه الشخصية التي صنعها ومكرها الاجتماعي ليؤجج من التوتر الدرامي الذي لا يخلو من مفارقات كوميدية فتفقد في بعض الأحيان مقدرتها على أن تبقى رصينة أو غير غبية إذ يوقعها “البهلول” في شِراك ما أحد يمكن أنْ يخلّصها منها سواه. لتنقلب الصورة فتصبح الشخصيات الأخرى جَمْع “بهلول” خاصة ذلك التاجر الذي يخدعه ويجعله يتعرى ويبادله ملابسه بملابسه ليصبح البهلول تاجرا والتاجر بهلولا. وهنا من الواضح أن الكاتب جمال سالم يستغل معرفته بالإرث الحكائي الشعبي وما يتضمنه من مقالب الشخصيات التراثية ووضعها الاجتماعي ومزاياها الخاصة ليكتب نصه الأدبي المسرحي الموازي لها والخاص به ليصل بقارئه إلى مقولة عمله التي قد تتمثل بأن السلوك الذي يرتديه الناس ويتبدل من حين لآخر هو الذي تخفي عيوبها وراءه، وهذا ليس بأمر جديد إنما الجديد هو أن بهلولا يرتدي قناعا قادرا على إسقاط هذه الأقنعة وكشف الحقائق على ما هي عليه. الملاحظ هنا، ويستطيع أنْ يلامسه أي قارئ للنص، أنْ الكاتب لا يلجأ الاستعارات والتشبيهات بحيث لا يقبل الحوار تأويلات عديدة وقراءات ذات طبقات، بل باستثناء تواري الحدث وراء شخصيات وفضاء مسرحي تراثيين، فهو يذهب مباشرة نحو ما يريد قوله تماما، ويقوله دون إفراط او مبالغات ويرسم الحدث والشخصية بمقدار ما تحتاج إليه المسرحية دراميا، من هنا فهو عمل متقشف في حواره رغم عدد مشاهده الذي يشعر القارئ أحيانا أنّ من الممكن تكثيفها إلى ما هو أقلّ وأكثر بلاغة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©