الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكلام السَّامِي..

الكلام السَّامِي..
24 يوليو 2013 21:59
صدر مؤخرا ضمن المنشورات الجديدة والقيمة التي قدمتها دار الكتاب الجديد، الترجمة العربية لكتاب الناقد والمنُظِّر الفرنسي الشهير جان كوهن المعروف بكتابه التنظيري الذي حقّق شهرة واسعة لدى الباحثين والنقاد والمهتمين بالنظرية الشعرية في العالم العربي والعالم، وهو كتاب “بنية اللغة الشعرية”، الذي أسس لنظرية نقدية جديدة. وهو الكتاب الذي ترجمه الدكتور محمد الولي رفقة الباحث الدكتور محمد العمري، ويُعتبر من الكتب القيمة التي أصدرتها دار توبقال منذ أكثر من عقدين من الزمن. الكتاب ثري وعميق بمحتواه الذي يبحث في الشعرية، ويغوص فيها ليكشف عن اللغة العادية واللغة الشعرية، وعن الانزياح في الشعر كما يقدم نماذج لا يمكن للباحث أن يتجاوزها من قبيل اللغة الشعرية التي عرفها الشعر الفرنسي وعمالقته منهم: فيكتور هيجو، نيرفال، بودلير، رامبو، مالارميه، أبولينير، كما يبحث الكتاب في الصورة الشعرية في مختلف تجلياتها، ويُسلّط الكتاب الضوء بأدوات وحجج صارمة، ومنهج علمي دقيق. مادة الكتاب تدعونا إلى قراءة متنه قراءة مُتأنية، لأننا أمام هرم من أهرامات النظرية الشعرية الحديثة، لكي نُميز النصّ الشعري عن النص الذي تنعدم فيه اللغة الشعرية، أو تنعدم الصورة الشعرية، لأن هدف الكتاب هو وضع معايير صارمة لتحليل قصيدة شعرية فيها الحد الأدنى من الشعر والصور الشعرية. نظرية الشعرية التي يعرضها جان كوهن في كتابيه “بنية اللغة الشعرية” منشورات دار توبقال الدار البيضاء، 1986. و”الكلام السامي” منشورات دار الكتاب الجديد، لبنان 2013. تقوم بالأساس على اعتبار المقومات الشعرية أو الأدوات الشعرية، انزياحات عن الاستعمال النثري العادي. فإذا كان المحتوى الذي يوصله النثر ذا طبيعة عقلية وموضوعية، فإن الوضوع يكون أساسياً في العبارة كما في الفكرة، كما يكون الاتفاق بين طرفي التواصل أي المتكلم والمتلقي أي المخاطب بصدد قواعد التواصل أمراً مطلوباً بل ضرورياً. ونظراً لأن هذه القواعد ذات طبيعة عامة ومشتركة بل واجتماعية فإنها لا تستعمل إلا لنقل الرسائل القابلة للتفكيك السهل والممتنعة عن التأويل. في حين أن الشعر الذي يوصل محتويات غير عقلية، بل عاطفية، يعتمد في ذلك على تكسير هذه اللغة المعتادة لأجل تسخيرها لنقل هذه المحتويات العاطفية الخاصة. إن هذه المهمة لا تتيسر للشعر إلا بإحداث خروق وانزياحات في اللغة النثرية. ولهذا فإن الشعر وبسبب خرقه للقواعد اللغوية والمعتادة، وسعيه إلى توصيل محتويات عاطفية، كان دائماً يبدو لنا غامضاً عصياً عن الفهم. بل إن كوهن يذهب إلى حد اعتبار هذا الغموض ملمحاً جوهرياً في الشعر. ليس هناك شعر واضح وشعر غامض، بل إن الشعر من حيث جوهره غامض. وإذا كنا نجد من الشعراء من ينحون منحى واضحاً فإن ذلك في الحقيقة يبعدهم عن الشعر ويقربهم من النثر. إلا أن هذا الغموض الجوهري في الشعر يجعل القراء متفاوتين في قدرتهم اقتناص الرسالة من النص وتفكيك الرسالة. إن ذلك لا يتوقف فقط على الكفاءة واللغوية والشعرية، بل يتوقف أيضاً على النوازع الإيديولوجية والدينية والثقافية والحضارية الخ.. إلا أن المهم بالنسبة إلى كوهن، خاصة في كتابه الأخير الذي يعتبر ثورة في الشعرية المعاصرة، رغم أن هذه الثورية نسبية هي اعتباره النص الشعري ذا حمولة عاطفية أساساً، إلا أن هذه الحمولة العاطفية ليست منقولة عبر الأدوات الشعرية المفردة بل منقولة عبر النص الشعري بأكمله. وهذه الرسالة العاطفية المبثوثة في النص بأكمله تدفع الناقد كوهن إلى التماس وحدة النص على المستوى الوجداني العاطفي ليس الفكري الموضوعي. وكأنني بكوهن يعيد الاعتبار هنا إلى الأطروحة الرومانسية القديمة التي تعتبر الشعر تعبيراً عن الوجدان. إلا أن الصعوبة قاسية هنا فكيف يمكن ضبط هذه الكتلة العاطفية على مستوى النص بأكمله. إن جوهر نظرية كوهن في الكلام السامي يمكن اختصاره بما يلي: كتاب جَانْ كُوهِنْ “الكلام السامي” من الأمهات الكلاسيكية في ميدان الشعرية المعاصرة. يعتبر المؤلفُ النثرَ مَطْهَراً للكلمات من حمولاتها الوجدانية التعددية والغامضة. النثر يجعل الكلمات أحادية المعنى ومفهومية بفضل السياق النصي المعياري الذي تَتَضَامُّ فيه الكلمات. يستقلُّ الشعر مساراً معاكساً إذ يعمد إلى التأليف بين الكلمات تأليفاً انزياحياً فيعيد إليها بهذا الصنيع عافيتها الوجدانية، أي الشعرية الفطرية الأولى. الخاصية الشعرية تتوسل إذن بأجناس من الانزياحات لكي تحرر الكلمات من سجن النثر والمعاني المفهومية وتعود بها إلى براري التحرر الشعري الذي هو مجال حياتها الأولى. لا يمكن حسب كُوهِنْ إدراك وتحليل الخطاب الشعري إلا بمراعاة هذه الخاصية التي تَسقُط على سفوحها كل النظريات، بسبب امتناع الشعر عن تسليم مفاتيح مكنوناته السرية لهذه الأجهزة التي لا تلتفت إلى معدنه الوجداني. فبدون مراعاة هذا فلن نتمكن أبداً من الدخول إلى ملكوت الشعر. إلا أن كتاب “الكلام السامي” قد هيأ لنا في فصله الأخير “العالم” مفاجأة مدهشة. إذ بعد أن انتهى من فحص وتحليل الشعر باعتباره مخلوقاتٍ لغويةً ونظاماً محايثاً، انصرف عنه مُيَمِّماً دَرْبَهُ شطرَ “العالمِ” وأشيائه لكي يضع يديه على ما يجعل من بعضها أشياءَ شعريةً. هو هذا جوهر عمل كُوهِنْ، نقل الشعرية من الورق إلى الأشياء حسب عبارة تريستان تزارا T. Tzara. كُوهِنْ يحاول بهذا الجواب عن السؤال المؤَرِّق: ما الشيءُ الذي يجعل بعض الأشياء في العالم تتمتع بهذه الخاصية الآسرة والسحرية التي تجعلنا ننجذب نحوها وتهزنا كما تفعل قصيدة جميلة أو موسيقى رفيعة أو حكاية أو دراما أو لوحة جميلة؟ ما هي الملامح المتقاسمة بين نص شعري جميل والقمر المنور في الليالي الدامسة؟ وبطبيعة الحال فإن الشعر حسب كُوهِنْ يتحدث عن هذا العالم، إلا أنه لا يدركه باعتبار ملامحه التعارضية حيث تتعايش الأشياء كمتعارضات ومتباينات، بل يدركه، أو بالأحرى يحس به، باعتباره عالماً أحادياً غارقاً في حالة من السديمية أو الإطلاقية. ذلك هو العالم الذي يصفه الشعر، بل هو العالم الموسوم بالجمال. هناك حسب كُوهِنْ نفس المنطق المتحكم في الأشياء الجملية سواء كانت تلك الأشياء مخلوقات من كلمات، كالشعر مثلاً، أو مخلوقات من الأشياء في عالمنا، مثل مشهد السماء أو البحر أو القمر أو الغابة، حيث الأشياء تغمرنا وتعمينا عن رؤية مُعارِضها، فكأنها هي الوحيدة الموجودة. هذان القطبان، أي الشعر والأشياء الجميلة من قبيل القمر، هما اللذان استأثرا بعناية نظرية كُوهِنْ في الشعرية. إلا أن هناك محطة وسيطة بين الشعر والأشياء الجميلة تتقاسم مع هذين عناية النظرية المعروضة في هذا الكتاب ألا وهي الرواية البوليسية التي تنسف هي بدورها البنية التعارضية وتقيم مكانها عالماً إطلاقياً أهلاً لكي يطلق المكنونات الوجدانية من عقالها المفهومي. إن جَان كُوهِنْ يقدم في الكلام السامي نظرية مدهشة للإمساك بجوهر الشعر في القصيدة والسرد وأشياء العالم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©