الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التأريخ للنفس

التأريخ للنفس
24 يوليو 2013 22:00
لا ريب في أن الدكتور عبد العزيز المقالح يستمد تجربته الشعرية في مجموعته الشعرية الموسومة “كتاب القرية” التي صدرت عن دار الريس من حياته الخاصة في قريته المقالح بمحافظة إب باليمن. ومن المؤكد أن القرية عامة هي أقرب إلى الفطرة البعيدة عن التصنع إذا ما قيست بالمدينة ومتطلباتها، فالمدينة في كثير من الأحيان تقف في مواجهة الطبيعة وتتقاطع معها وعلى هيئة عداء سافر يبدو من خلال تشوه بعض آثارها وتكييف مظاهرها بما ينسجم مع واقع المدينة وتدفق الناس إليها وكثرة أبنيتها وضجيج وسائط النقل فيها، ومن هنا يكون التصاق القرية بالطبيعة التصاقا حميماً، وهي لا تتقاطع مع الطبيعة بل تنسجم معها، بحيث يسيران “الطبيعة والقرية” في خطين متوازيين تماماً إلا إذا حذت القرية حذو المدينة في بعض مظاهرها حينئذ ينطبق عليها ما ينطبق على المدينة، وتخرج عن كونها قرية بالمفهوم الذي يوحي به هذا المصطلح. والمراسيم عامة رديفة “الطقوس” rituals، وان اقترنت الطقوس بالمجتمعات الأولى غير المتحضرة بيد أن مصطلح المراسيم يبدو أنسب للمجتمعات المتحضرة، وهي على الرغم من صلتها الوثيقة بالمعتقد، سواء أكان دينياً أم متوارثاً عبر العصور والأجيال، فإن ما يميزها عن المعتقدات عامة أنها تكون مصحوبة بممارسات جماعية وأفعال وحركات وأغان وألبسة تجعل منها ليست مجرد أفكار، فضلاً عن أنها مما يشارك فيه مجتمع القرية كله بلا استثناء. وإذا كانت هذه المراسيم باهظة التكاليف أحيانا ولاسيما على عموم الناس في القرية ـ وإذا ما استثنينا بعض الأفراد الأغنياء ـ فإن وظيفتها الاجتماعية في غاية الأهمية إذ تشد مجتمع القرية شدا وثيقا وتوحد همومه وطموحه، وتحفظ قيم الجماعة الشعبية وتديمها. وتعد المراسيم الشعبية جزءاً من المأثور الشعبي folklore الذي يعرفه الدكتور عبد الحميد يونس بأنه: حكمة الناس وأعرافهم وتعاليمهم وطقوسهم، والمراسيم أوعية لحفظ إبداعهم إذ كثيرا ما تصاحبها أغان ورقصات وحركات وظواهر تمثيلية أولية وأمثال وألغاز وحكايات، وهذه جميعا تصدر بأسلوب عفوي تقليدي متكرر، مع الأخذ بنظر الاعتبار براعة المردد أو المقلد ومدى قدرته وموهبته في إنجاز ممارسته في إطار المراسيم الشعبية الموروثة. وليس من شأن الشاعر الفنان أن يؤرخ للمواسم الشعبية أو يوثقها بشكل مباشر إذ ينهض بمثل هذه المهمة علم الاجتماع sociology أو الأنثروبولوجيا “علم الإنسان”، وثمة ما يجمع بين العلمين “الانثروبولوجيا الاجتماعية” social Anthroplogy، ولكن الذائقة الشعرية الفذة ماهرة في تحويل اليومي والعادي إلى شعري والمجموعة الشعرية التي حملت عنوان “كتاب القرية” للشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح تحتضن حالات القرية ومعتقداتها ومراسيمها ومواسمها بل وتفاصيل الحياة اليومية فيها، وبما أن المراسيم جزء من دورة الحياة فإن الشاعر يلمحها بعين أحاسيسه ويمزجها بعطاء مخيلته، مضفياً عليها طابعاً شعرياً موحياً. وقد كانت للشاعر وقفة عند الختان والزواج والمآتم، مما حدا بهذه الدراسة إلى أن تتوقف عند هذه المراسيم الثلاثة، ومن منظور شعري ينتقي الدال والمعبر. مراسيم الختان تطالعنا مراسيم حفلة الختان في القرية، ولأنها ترافق مرحلة الطفولة فإن الشاعر عبد العزيز المقالح ينتقي له زاوية رؤية تنطلق من وعي طفل صغير يتذكر ذلك اليوم إذ يرد: “زاهيا كعريس، وفي شرفة الدار القوا به في حنان إلى حضن جدته ورموا بيضة بين فخذيه ماذا تريدون بي؟ صاح والنصل يومض في كف شيخ عجوز بكت أمه، وبكت طفلة هي خالته بيد أن العجوز أشار وسمى وقال بعينين خافتتين استقم، لا تخف، انه بدء فصل الرجولة ? ? ? بعد عام وربما عام ونصف العام يرتدي الطفل ثوب الختان وتبدأ الزغاريد وتتصاعد رائحة البخور وتشرع النسوة في رش سطح البيت حيث ستبدأ الطقوس يأتي الحلاق مرتديا ثيابه الجديدة ويوضع الطفل في حجر أحب الناس إليه وهو يقلب طرفه في الحضور غير قادر على تفسير ابتساماتهم قبل دقائق من عملية الذبح ولحظة التماع السكين في يد الحلاق يدرك الطفل كل شيء، يحاول البكاء يتململ لكن الزغاريد تسَمره في مكانه ويتم الختان” هنا يتآزر الجناحان، جناح قصيدة التفعيلة والجناح الآخر الذي يأخذ هيئة قصيدة النثر في انطلاقة القصيدة إلى أجواء أليفة تبدو قريبة من أجواء العرس، إذ يشهد الطفل احتفاء غير مألوف من لدن أهله وأقاربه، ويأتي سؤاله الطفولي: ماذا تريدون بي؟ مضمخاً بشذا البراءة والنقاء، وعلى الرغم من الطقس المرح الذي تطغى عليه أصوات الزغاريد وتصاحبه ضحكات الغبطة فإن ثمة من يبكي لبكاء الطفل (أمه وخالته) إفصاحا عن فيض الحنان الذي يجد الطفل نفسه غارقا فيه. وثمة لوازم معروفة لهذا الطقس لم تغفلها مخيلة الشاعر، ومنها ثوب الختان الجديد وأصوات الزغاريد ورائحة البخور، وغالباً ما يؤدي هذه المهمة حلاق القرية. ويتقصى الشاعر هذا الموسم الشعبي متوغلاً إلى إحساسات الطفولة وأفكارها الغضة إزاء هذه المراسيم فيقول: “حملوه على ظهره، ودماء الطفولة تنزف والضحكات تغطي المكان، وذابحه يتقاضى الهدايا وتمطره نسوة الدار بالمال والكعك ماذا جرى؟ ابتلعت عينه دمعة، كان مصدرها القلب صبر جميل على خاتنيه، الرجولة جاءت مبكرة والصبايا الصغيرات يرمقنه باحتفاء وذابت مواجعه في التصاق الشفاه ? ? ? مات الخوف في عينيه تحول إلى ما يشبه الخيلاء ونبتت مكانه مجموعة من الأسئلة: هل كان الأمر مهماً إلى هذه الدرجة وهل كان لابد لهذا الطقس الختاني من أن يأخذ هذا المشهد التمثيلي وأن يعدوا له كل هذه الحفاوة الوحشية وأن يحشدوا له كل هذا الخلق من النساء والرجال والأطفال؟! قد تكون الفرصة الوحيدة في هذا العام ليأكل الفقراء لحما وكعكاً ويتذوقوا فناجين من القهوة المرة إذا كان الأمر كذلك فلتكثر القرى من هذا المشهد وإن لم يكن ممتعا ومريحا له”. تنفذ المخيلة الشعرية إلى زاوية أخرى تحاور هذه الظاهرة عبر مشاعر طفل يعاني تأثيرها المؤلم، بيد أنه منغمر بتساؤلات بريئة، تعكس استغرابه لما يجري حوله، فقد أسال العجوز الحلاق دمه، ولكنه يكافأ عن ذلك بالهدايا والنقود، وفي غمرة ضجيج الفرح وزغاريد النسوة وهمهمة الرجال تنشغل حواسه بصدى الأصوات وزهو الألوان والأضواء وطعم الكعك. والسؤال الكبير الذي يلح على وعيه الطفولي، ترى ماذا جرى؟ حين ذاك تطغى غريزة حب الاستطلاع على ألمه فترتد دموعه إلى مآقيه، ويتلقى الدرس الأول في الصبر على تحمل الألم، فضلا عن أن المقربين إليه يهمسون في أذنه مشيرين إلى أنه صار رجلاً وتخطى الطفولة التي ما زال منغمرا بها في حقيقة الأمر، بيد أن عبارات التشجيع تنمي إحساسه بذاته فيخيل إليه أنه رجل حقاً. وتلمح الصبيات الصغيرات هذا الطقس الشعبي بفضول حزين، حيث يتعزز الاهتمام بالولد والاحتفاء به وبسمات الرجولة فيه، وقد نطقت بذلك نظرات الصبايا البريئات. ويعود الشاعر إلى رؤى الطفولة إزاء هذه المراسيم، فيشهد الطفل ينتقل من حضن إلى آخر منغمرا بالقبلات التي تنسيه ما هو فيه بل إنها تستحيل في هيئتها اللاحقة بلحظة الألم إلى فخر وخيلاء. ويشهد الجزء الآخر من اللوحة الثانية عشرة الذي جاء على وفق أسلوب قصيدة النثر حوار الطفل مع ذاته ،وعبر نظراته الصافية الذكية التي تعلن غياب خوفه تماماً، فها هو بين أحبابه وأهله يشهد منهم أقصى الاحتفاء، في حين غالبا ما ينشغلون عنه بشؤون حياتهم قبل هذه المناسبة مما يوقظ إحساسه بطبيعة الصلة الحميمة الدافئة التي تصله بهم وهي تقوى على مر الزمن. وتنهال على وعيه الغض إضمامة من الأسئلة، ترى لماذا كل هذه الضجة؟ وهذه الحفاوة الوحشية التي تضم بين غضونها فرحا وألما في آن، وتتعانق فيها الزغاريد مع أصوات البكاء؟ ولكنه وعبر (مونولوجه) الذي احتضن المشهد الشعري لقصيدة النثر يستوعب الحادثة بل يحبها حين يتذكر بأن موسم الختان ربما يكون الفرصة الوحيدة لفقراء القرية وعبر عام كامل كي ينعموا بالطعام والشراب. مراسيم العرس وتستأثر مراسيم العرس باللوحة الشعرية الثانية والخمسين إذ يرد: “يقولون لا عرس إلا هنا في القرى، حيث يفرح وجه الطبيعة والناس أطفالهم وعجائزهم، كل كوخ هنا يتلألأ يكتب نشوته ويباهي بفرحته والطبول تشد خيوط الأغاني التي هربت من شبابيك سيدة العرس هذا العريس يسير بموكبه، إنه في اتجاه البحيرة يغسل ماء عزوبته والزغاريد ترميه من شرفات البيوت ترافقه في جنون حنون” يلمح النص خصوصية العرس في القرية بل في القرى عامة إذ تشد مخيلة النص مظاهر العرس ومراسيمه بالطبيعة المؤنسنة التي تعي أفراح القرية وتستجيب لها، ويبدو ذلك جليا على وجهها المشرق الأليف وفي انزياح استعاري يؤكد الآصرة الحميمة التي تربط القرية وناسها وغبطتهم بل وهمومهم بالطبيعة الحية. ويستحيل كل كوخ من أكواخ القرية إلى ينبوع بهجة وكأن مجموعة الأكواخ المتلألئة بفرح تلقائي شموع تضيء عتمة القرية، ولكي لا ينصرف النص إلى متعة النظر وبهجة تأمل مظاهر العرس الملونة المضيئة حسب فإنه يتلبث عند مباهج حاسة السمع إذ تهز أصداء الطبول أعماق النفوس وتحرك أقصى الاستجابة للغناء الصادح المنبعث من النوافذ فتتضمخ فضاءات القرية بأثير العرس ويتشبع هواؤه به ممتزجا بعنوان الزغاريد ومهرجان الإطلاقات النارية ابتهاجا بموكب العرس. وتلمح مخيلة النص العريس، وهو يغادر في موكبه الكرنفالي الملون مرحلة من حياته، ليبدأ حياة أخرى جديدة، يرمز لها النص بالبحيرة التي يتوجه صوبها العريس إفصاحا عن أجواء الحنان التي ينغمر بها، وهو يؤسس لبنة جديدة تنضم إلى خلايا القرية وكيانها الحي المتآلف. وفي الجزء المصوغ على هيئة قصيدة النثر من اللوحة الثانية والخمسين يرد: “الفرح هنا للجميع والحزن أيضاً في وقت واحد يضحكون وفي وقت واحد يبكون كأنهم شخص واحد يبدأ الاستعداد للعرس قبل عام كل بيت مسؤول عن الاستعداد أحد البيوت الفقيرة يستعد بعشر بيضات والآخر برطل من السمن قريتنا تنام حين تنام الشمس وتصحو حينما تصحو الشمس ومع العرس كل البيوت مضاءة ذبالات ثخينة من الصوف مغموسة في السمن تشكل حديقة من الأضواء” تلتقط مخيلة النص صوراً منتقاة تؤكد تلاحم الناس في القرية وتوادهم وتوحد مباهجهم وهمومهم، وليس أدل على ذلك من أسلوبهم وصبرهم في التهيئة لمراسيم العرس، إشارة إلى أهمية هذه المناسبة لديهم، وأنها ليست مناسبة عارضة في حياتهم بل أنها بصورة وبأخرى تعادل حدث الولادة، إذ تعني ضمناً ديمومة الحياة إلى ما شاء الله. وإذ كان الموت يأتي بغتة فلا يمكن أن يتهيأ الناس في القرية لاستقباله، فإن العرس مما يستعدون له قبل زمن، وتبدو مشاركاتهم منسجمة مع ما يملكون من خير القرية وعطائها زمن الخصب. ويعود النص إلى بؤرة سبق أن وقف عندها ونسج من خيوطها وأعني بها الآصرة القوية التي تربط الناس بالطبيعة المتجددة إذ يتزامن نومهم ويقظتهم مع نوم الشمس ويقظتها، وفي إطار استعاري يؤنسن الشمس ويهبها السمات البشرية التي تجعلها، وكأنها بعض من أناس القرية الطيبين. وثمة تركيز بين على عطاء حاسة البصر التي كان لها دور في تلوين العرس بألوان صارخة وفي إضاءة جنبات القرية وأكواخها المنتصبة. وهم لا يحتاجون إلى الإضاءة الحديثة إذ طالما أشعلوا ليل القرية بذبالات الصوف الثخينة التي استحالت إلى حديقة ضوئية في سياق الصورة التشبيهية الطريفة. مراسيم الموت ولأن الموت قسيم الحياة وشريكها الذي تصب فيه وتنطفئ على أعتابه فإن اللوحة الثالثة والخمسين تنصرف إليه وتتلبث عند استسلام القرية لسطوته وخضوعها لهيبته واستجابتها لمراسيمه الكئيبة ولما يتطلبه من مواساة حق إزاء فداحة غياب الأحبة وغصة فقدانهم إذ يرد: “في المآتم تبدو القرى كرماد المطابخ مطفأة ترتدي لون ميتها شجر اللوز ينفض أوراقه، الياسمين حزين العصافير في حزنها تتلوى، تحدق في الأوجه الشاحبات وبوم الخرائب يقرأ فاتحة الحزن منفردا بالجذوة الروح وهي تغادر أجسادنا في الطريق إلى الموت راجعة نحو خالقها أي سر لصاحبها حين يأتي، لصاحبها حين ترحل إنا إلى الله، إنا إلى حبه وإلى نهر رحمته راجعون” تلخص رحلة الموت جذوة حياة طالما اتقدت وشعت فإذا بها قرينة الرماد. وبتلقائية بالغة تسود ألوان العتمة وفضاءات الانطفاء كل مظاهر القرية وتفاصيل حياتها. وتستجيب الطبيعة الحية لطقوس الموت فتبهت ألوان الشجر الأخضر ويخفت صداح الطير وتتوقف أزاهير الياسمين عن إشاعة الطيب، ويشحب وجه القرية المشرق المفتوح، ويحيل البوم ذو المرجعية الشعبية المقترنة بالخراب إلى أجواء العدم والفقدان. وينغلق باب حياة كاملة لإنسان شغل القرية وصار جزءا منها ومن تفاصيلها إلى أن جاءت اللحظة التي يغيب فيها خلف ستائر النسيان الصفيقة هو وأسراره وخيره وشره كي تليه أسرار حياة أخرى لاحقة. وهنا تسترجع ذاكرة النص ما يتكرر في مثل هذه المناسبة من آيات كريمات تبعث الاطمئنان وتطرد أشباح الجزع السود وتخفف مأساة الموت الحق ووقعه الحاسم وما يتطلبه من صبر جميل وقدرة على التواصل مع إشراقة يوم جديد. ومن هنا فإن ظاهرة الاقتباس البلاغية الموصولة بقوله جل شأنه “الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون” والارتكاز على هذه الآية في السطور الشعرية الأخيرة يأتي في نسيج منسجم ومتآلف. وفي الجزء الآخر من اللوحة الثالثة والخمسين يرد: “القرية لا تعرف الاعتدال تفرح حتى الأعماق وتحزن حتى الأعماق حين تفرح تخرج من جلدها لتقدم كل مخزونها من الضحكات والأحاديث المترعة بالصفاء والمبللة بعطر لا يذبل وحين تحزن تدخل جلدها وتبكي الشوارع قاتمة والكلمات في لون الظلام النوافذ تكشف اللون الأبيض وشعاع الظهيرة يبدو كامدا والشفق يتقدم عن وقت الغروب ويبدو أكثر اصفرارا وقد ارتدى ثيابه الشاحبة في القرى لا يحبونه ويسمونه شمس الميتين” تسرف القرية في مظاهر حزنها في مراسيم الموت كما كانت تبالغ في مظاهر فرحها وعنفوانها إذ يخبو الآن كل شيء، وتلوذ القرية بذاتها الكئيبة، وتنكمش على يأسها المطبق، فلا ينجو من الحزن مظهر من مظاهرها، وتحل العتمة في كل زاوية فيها، ويشيع اللون الأسود الكابي فيغلب على شوارعها وبيوتها بل وأحاديث أناسها. ولكن ثمة لوناً أبيض يتسلل إلى اللوحة الشعرية فتسطبغ به نوافذها، وهذا اللون الأبيض أبعد ما يكون عن النصاعة والإشراق، فهو يحيل إلى العدم وأكفانه البيض، ولذلك تفشل الظهيرة في أن تشيع بهجة شعاع الشمس إذ يبدو على نصاعته ـ خارج النص ـ مرتدياً حلكة الحداد داخل السياق الشعري. ويتداعى إلى المخيلة الشعرية لون الشفق، فيبهت اللون الأحمر الذي يطغى عليه خارج النص انسجاماً مع السياق الشعري كي يبرز اللون الأصفر الدال على الشحوب والهزال حد الغياب إلى الأبد، ولكي يجلي ضغينة الموت التي يضمرها لبني البشر إذ يغيب خلف أسواره الصلدة إحساسات الإنسان وأفكاره وطموحاته ببساطه مذهلة. وبذلك فقد احتضنت المجموعة الشعرية الموسومة “كتاب القرية” للشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح تفاصيل المراسيم الشعبية لدورة حياة الإنسان في القرية، ولاسيما حدث الختان وحدث الزواج وحدث الموت. وقد أورد النص هذه المراسيم بأسلوب يراوح ما بين الشعريُ والسردي إذ تأخذ هذه المراسيم شكل الحكايات المتقنة التي يشكل الناس في القرية أبطالها وشخوصها، وهم يؤرخون لأفراحهم وأحزانهم عبر مراسيم موروثة، وفي إطار المهاد المكاني، وأعني به القرية وفضاءاتها السكونية الهادئة التي تخرقها هذه المراسيم، فإذا بها كتلة من الحركة والعنفوان الرامزين لتجدد الحياة وديمومتها تارة وتارة أخرى تفصح عن أقصى الشجن واليأس المريرين حين يحل حدث الموت وتبدأ مراسيمه الحزينة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©