السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المعبد اليهودي في طليطلة يشهد على حضارة وسماحة المسلمين

المعبد اليهودي في طليطلة يشهد على حضارة وسماحة المسلمين
23 فبراير 2009 00:26
للتواريخ شواهد تنطق بلسان صدق مبين عن حقائق حاولت أقلام الأهواء، والأغراض طمسها أو الالتفاف حولها، والآثار في طليعة هذه الشواهد· والشاهد الذي نستدعيه اليوم من قلب التاريخ هو المعبد اليهودي في طليطلة الإسبانية، وهو إلى جانب معبد آخر كل ما تبقى من المعابد اليهودية العشرين التي أقيمت خلال حكم المسلمين لهذه المدينة قبل أن يسترد نصارى إسبانيا السيطرة عليها في عام 478 هـ ''1085م''· يعرف هذا المعبد باسم معبد ''سانتا دي ماريا بلانكا'' نتيجة لتحويله في القرن الرابع عشر الميلادي إلى كنيسة في أعقاب حملات التنصير العنيفة التي شنتها الكنيسة الإسبانية ضد المسلمين واليهود، الذين بقوا في طليطلة بعد خضوعها لحكم ألفونسو السادس ملك قشتالة· ومن المعروف أن المسلمين الذين آثروا البقاء في طليطلة النصرانية عرفوا باسم المدجنين أي أولئك الذين أدجنوا إسلامهم أو خضعوا وقبلوا بدفع الجزية لملوك إسبانيا، وقد تمتع هؤلاء في بداية الأمر بحقوقهم كاملة في ملكية الأراضي وإقامة الشعائر بمساجدهم، وإن حرموا من إقامة أي مساجد جديدة، وبفضل درايتهم الإدارية الكبيرة وإتقانهم للمهن والحرف المختلفة ولا سيما حرف البناء والزخرفة ترك هؤلاء آثاراً لا تمحى على عمائر طليطلة وغيرها من المدن الأندلسية التي استولى عليها النصارى الإسبان، فشيدت القصور والكنائس وأيضا المعابد اليهودية ''السيناجوج'' وهي تحمل الطابع الأندلسي سواء في تصميمها المعماري أو في زخارفها· وينتمي معبد سانتا دي ماريا إلى الفن الطليطلي المدجني إذ تم تجديده في القرن السادس الهجري '' 1200 م'' بأيدي الفنانين المدجنين ولذا يبدو المعبد وكأنه قد شيد في عصر دولة الموحدين· وإذا كان اليهود قد تمتعوا بكامل حرياتهم خلال سيطرة المسلمين على طليطلة فأنهم بالكاد احتفظوا بنصف عدد معابدهم خلال عهود ملوك قشتالة مقابل الخدمات المالية التي قدموها بانتظام لهم، وخاصة في مجال جباية الضرائب· والحقيقة أن التفاني في أداء هذه الخدمات كان سبباً مباشراً في سخط الرأي العام على اليهود، وهو ما مهد فيما بعد إلى التضييق عليهم وإغلاق معابدهم وطردهم من طليطلة، بل ومن كل الأراضي الإسبانية ابتداء من القرن الرابع عشر الميلادي، واللافت أن هؤلاء الطليطليين لم يجدوا ملجأ آمناً لهم سوى في جنوب المتوسط حيث وفدوا على مدن الشمال الأفريقي من مراكش الى مصر، كما هاجر عدد لا بأس به منهم للاستقرار في ممتلكات الدولة العثمانية، بما في ذلك الآستانة العاصمة· وقد أعيد تشييد معبد سانتا ماريا في نهاية القرن السادس الهجري ''1200م'' على يد محصل الضرائب الخاصة بألفونسو الثامن وهو يوسف بن سوسان· وذلك يشير بوضوح إلى النفوذ الكبير الذي تمتع به محصلو الضرائب من اليهود آنذاك· مخطط المعبد ومخطط المعبد يكاد يكون نسخة مماثلة لمسجد مدينة الزهراء تلك الضاحية الملكية التي شيدها الخليفة الأموي المستنصر على مقربة من قرطبة، ويتألف المعبد من خمسة أروقة تفصل بينها بوائك من دعامات تحمل عقوداً من نوع حذوة الفرس· وهو في ذلك يشبه تخطيط المساجد الأندلسية، وزيادة على ذلك فإن الرواق الأول، والذي يعرف في المساجد باسم رواق القبلة كانت العناية به أكبر ليس فقط من جهة زيادة مساحته بل وأيضاً من ناحية العناية بزخارفه· وإذا كان التخطيط المعماري للمعبد اليهودي قد جاء مقتبساً من مسجد الزهراء عند تشييده للمرة الأولى، وربما كان ذلك في القرن الرابع الهجري ''1000م'' فان تجديده جاء متأثراً بتقاليد إنشاء مساجد الموحدين خلال القرن السادس الهجري ''1200م'' ولا نجد ثمة اختلافات جوهرية سوى في اعتماد العقود على دعامات حجرية مبنية عوضاً عن الأعمدة الرخامية التي كانت تستخدم في مساجد الأندلس، وربما لجأ المعماريون المدجنون الذين تولوا عمليات التجديد التي أرادها يوسف بن سوسان، إلى استخدام هذه الدعامات لصعوبة الحصول على أعمدة رخامية سواء لارتفاع التكلفة أو لاستحالة السماح لليهود بنقل أعمدة قديمة من المباني الخربة في طليطلة وجوارها· ويمتازمعبد سانتاماريا بعقود بوائكه ذات الفصوص السبعة المدببة والموضوعة في إطار عقود متعددة الخطوط، إضافة إلى عقود أخرى ذات خمسة فصوص، وهذه العقود وزخارفها وأيضا زخارف السقف كلها مشابهة للعقود التي استخدمت في عمائر إشبيلية خلال سيطرة الموحدين عليها· وثمة اعتقاد لدى العلماء الإسبان بأن هذا الشبه لا يعني أن فنانين أندلسيين من إشبيلية وفدوا إلى طليطلة للقيام بهذه الأعمال المعمارية والزخرفية في المعبد اليهودي، وإنما يعود ذلك إلى أعمال المدجنين الطليطليين الذين كانوا على اطلاع كامل وتواصل مستمر مع تقاليد الفن الأندلسي· ويبرهن العلماء على صحة اعتقادهم بما هو معروف من قيام المدجنين من صناع طليطلة بزخرفة المعبد اليهودي في قرطبة بعد سقوطها بأيدي الإسبان وقد ترك هؤلاء توقيعاتهم على الأعمال الزخرفية التي تمت بين عامي ''1311 و''1315م· الترانزيتو والمعبد الثاني الذي تحتفظ به طليطلة والمعروف باسم الترانزيتو شيد بين عامي '' 1355 و''1357م على يد صمويل آل ليفي، جابي الضرائب للملك بدرو الأول، وذلك كنوع من المكافأة ليهود طليطلة على وقوفهم إلى جانب الملك القشتالي · وقد جاء معبد الترانزيتو أيضا مفعماً بالزخارف التي تفصح عن دور المدجنين الطليطليين في بناء المعبد وزخرفته وحرصهم على الاستمرار في التعبير عن الروح الزخرفية للفن الأندلسي، وخاصة على صعيد استخدام عقود حدوة الفرس المدببة في إطار العقود المفصصة والاعتماد على بوائك العقود المحمولة على دعامات كما في المساجد الإسلامية· إن معبد سانتا ماريا يتحدث إلى اليوم بلسان الصمت البليغ عن مدى التسامح الذي غمر به المسلمون اليهود في الأندلس ثم عن الدور الحيوي الذي قام به المدجنون آخر المسلمين الذين أُجبروا على دفع الجزية واخفاء عقيدتهم في النهضة المعمارية التي شملت إسبانيا النصرانية· ورغم أن ألفونسو السادس وبدرو بذلا الوعود لهؤلاء بالحفاظ على حقوقهم وحرياتهم وأبديا التقدير والاعجاب العظيم بالفن العربي، فإن تنكر الإسبان فيما بعد لهذه الوعود لم يحل دون استمرار المدجنين في تزويد إسبانيا بفنون العمارة والزخرفة· وحافظ هؤلاء على مهاراتهم الواضحة في ممارسة مهنهم وفنونهم واحتفظوا لانفسهم بسمعة طيبة امتدت حتى سقوط غرناطة بايدي الملكين الكاثوليكيين فرديناند وايزابيلا· وعلى وجه اليقين فان طليطلة لم تعرف فناً آخر غير الفن المدجن حتى القرن الخامس عشر للميلاد وتشهد بذلك الكاتدرائية القوطية حيث إن مقصورة الكهنة بها تضم عقوداً مفصصة مردها إلى التقنيات المدجنية المعاصرة· وبالتوازي مع ذلك كانت هناك سيطرة لكل ما هو عربي على المستعربين في طليطلة وهم نصارى إسبانيا الذين تشربوا الثقافة واللغة العربية إلى القرن الثالث عشر على أقل تقدير وهو ما يعتبر دليلاً واضحاً على أن الثقافة العربية الإسلامية كانت تضرب بجذورها في مجتمع طليطلة· لقد عمل المدجنون في كل حرف البناء ومارسوا أيضاً مهنة صناعة الفخار والتحجير والنجارة وصناعة الزجاج وبيع الجير، حسبما تشير إلى ذلك وثائق طليطلة النصرانية وفي الوقت الذي حافظ فيه البناؤون والنجارون على التراث المحلي دون ادخال تغييرات جوهرية نجد القائمين بأعمال زخرفة الجص يسيرون على الطراز الذي عرف في عمارة المرابطين والموحدين بعد سقوط طليطلة، وهي طرق ادخلها فيما يبدو نازحون جدد وفدوا من مدن الأندلس إلى طليطلة وهو ما منح الفن المدجني في طليطلة مذاقه الخاص في المزاوجة الإبداعية بين التقاليد الأندلسية القديمة وتلك الوافدة من شمال إفريقيا في معية المرابطين والموحدين· وفي وقت لاحق أدخل المدجنون، وربما كان ذلك بأوامر مباشرة من الملوك الإسبان والكنيسة، بعض من تقاليد العمارة القوطية وليس من اليسير على غير المتخصصين في تاريخ الفن تمييز هذه التأثيرات القوطية إذ تبدو مندمجة ومتوافقة مع الشخصية الإسلامية للفن المدجن، والسبب في ذلك هو أن الفن القوطي قد نشأ في الأصل متأثراً بتقاليد الفن الإسلامي التي عرفتها أوروبا خلال فترة الحروب الصليبية· ويبقى المعبد اليهودي في طليطلة بزخارفه الجصية الرائعة وتصميمه المساجدي شاهداً على جذوة الحضارة الإسلامية التي استغرق إطفاؤها قرابة خمسة قرون كاملة في إسبانيا، وليس من قبيل المبالغة القول إن هذه الجذوة لم تخمد كلياً في الأرض الإسبانية، وإنما أجبر الممسكون بها على مغادرة أوطانهم في اتجاه العالم الجديد، حيث مارسوا عملهم هناك بنفس الأسلوب وهو ما يبدو واضحاً في زخارف الكنائس الأولى التي شيدت بأميركا اللاتينية·
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©