الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

برلمان الهوانم

برلمان الهوانم
13 أغسطس 2014 20:00
لشعر العامية ملاحة وطرافة يستمدها من الروح الشعبي الذي يعبر عنه فيعكس خواصه، ومن طبيعة الفن وارتباطه الجذري باللعب والمحاكاة والتمثيل، وتنجم نبرة السخرية من ملاحظة التغيرات الاجتماعية ونقدها بروح مرحة لا تصل إلى رفضها ولا تبلغ درجة التحمس لها؛ إذ كشف عن موقف متراوح دقيق يتميز برهافة الحس ومحاولة الاعتدال بين الأطراف المتنازعة، لأنها إذا انحازت بصراحة إلى منظومة القيم المستقرة تحولت إلى تهكم من التغير ومقاومة عنيدة له، وإذا غالت في قبوله لم قبوله لم تستطع إغراء أنصار القديم به وتحبيبهم فيه، وتخلت عن دورها في تسويغ التطور والتمهيد للتوافق. وقد شهد بيرم التونسي في عقد الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي صراع الحركات الداعية إلى تحرر المرأة ومنحها حقوقها السياسية في الترشح والانتخاب للمجالس النيابية وتقلد المناصب الوزارية. وكانت تجربته في فترة إقامته في فرنسا كفيلة بأن تجعله يدرك منطق التطور الحضاري وحتمية انتصار المرأة في انتزاع هذه الحقوق، لكن حساسيته الشديدة للفروق المائزة بين المجتمعات العربية والأوروبية جعلته يشفق كثيراً من هذا التطور ويسخر منه، يشير إلى المفارقات التي ستنجم عن الأوضاع الجديدة بدعابة ومرح لا بمرارة وتجهم، يخفف قليلاً من الحروب الكلاسية والتعصب الكريه الرافض لمنطق الحياة، لكنه لا ينتصر للتجديد، بل يحذر من عواقبه. يقول في قصيدة شيقة بعنوان «برلمان الهوانم»: «يا قبة البرلمان حتزيّنك ستات بالبنطلون يدخلوا لك ولّا بالشورتات هُمَّ اللي حينظموا ويرتبوا الأدوات هُمَّ اللي حيغيروا ويبدّلوا الوزارات»فهو يتصور أولاً أن من سيدخل من النساء إلى البرلمان هن الهوانم من سيدات الطبقة الراقية الأرستقراطية، وأن المشكلة الأولى التي ستصادفهن تتمثل في الملبس، فهن قد خرجن على عرف الأزياء السائدة ولبسن على الطريقة الأفرنجية التي تتطور من البنطلون الطويل لتصل إلى الشورت القصير، ويتخيل منظرهن وهن يدخلن البرلمان بهذا الشكل، والمثير للدهشة أن موقف الشعراء عموماً من حقوق المرأة كان متخاذلاً ضعيفاً منذ مطلع النهضة، يستوي في ذلك شعراء الفصحى والعامية، فشوقي لم يتحمس للسفور في قصيدته الشهيرة: «صداح يا ملك الكنار ويا أمير البلبل». وحافظ إبراهيم لم يقف بجانب النساء بوضوح حتى وهن يتظاهرن ضد الاحتلال الإنجليزي: «خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنّه». وبيرم يأتي بعد ذلك في الأربعينيات بعد انتصار سفور المرأة واقتحامها مجال التعليم والعمل ليتساءل عن ملبسها في البرلمان، وكأنه لم يشهد النائبات في باريس وهن يحددن معايير الذوق والجمال ويشاركن في السياسة والحياة العامة، هو لا يقف صراحة ضد ذلك، ولكنه يكتفي بالتعبير عن الرأي العام السائد وهو ذكوري في مجمله وإن خفي عليه ذلك: «أحمد يا سالم أراهن بكره تبقى وزير منصب على شاب مثلك موش كتير يا أمير وإنت يا أنور يا وجدي، على الأقل سفير ويبقى بيغن يقولك: يا قمر سلامات»تنتهي الرباعية الأولى إلى أن السيدات هن اللائي سيتولين تشكيل الوزارات، فتمضي التالية على الفور للتنبؤ باختياراتهن للحكومة؛ ولأن الفن نصير التقدم، خاصة فن السينما الجديد حينئذ وأبرز نجومه أكثرهم استهواء لقلوب النساء، وكان في مقدمتهم أحمد سالم الذي لم يلبث اختفى بعد ذلك، وأنور وجدي الذي ظل صاعداً في سماء الفن فإن اختيار الهوانم للقادة سوف يكون في تقديره من بينهم، والطريف أن الشاعر لا يستنكر ذلك، فمنصب الوزارة ليس كثيراً على النجم المحبوب، أما أنور وجدي فهو جدير بأن يكون سفيراً وأن يتولى المفاوضات مع وزير خارجية بريطانيا في حكومة العمال مستر «بيغن» الذي أجرى محادثات «صدقي / بيغن» حتى يعجب بوسامة السفير المصري ويقول له «يا قمر: سلامات» لتبرز نغمة السخرية في الخطاب، للخلط بين الجمال الذي يتوهم أن النساء يعتمدن عليه والكفاءة التي يجب أن تكون هي المعيار: «ومين بقى يا هوانم رئيس الوزراء؟ بردون مفيش غير محمد، مطرب الأمرا أما الخناشير يروحوا يعملوا . . غفرا بلا نوابغ، بلا دياولو، بلا كفاءات»هنا يكشر بيرم التونسي عن أنيابه ويمضي في فروضه إلى مداها الأبعد مبددا نبرة السخرية اللطيفة، فهن سوف يخترن رئيساً للوزراء، ولشدة رقتهن وافتتانهن بالفن وخضوعهن لسطوة النغم العذب الجميل فسوف يقع اختيارهن بالضرورة على مطرب الأمراء والملوك محمد عبد الوهاب، حيث يقعن في غرامه ولا يقمن وزنا للنبوغ السياسي ولا الكفاءة الشخصية ولا الاعتبارات الموضوعية. وهنا يقع شاعرنا في مغالطات العوام، فمن الذي قال إن المرأة المتعلمة المثقفة لا تحسن الاختيار وتقع دائماً ضحية الهوى والغواية، ومن الذي قال بأنهن عندما يحصلن على حقوقهن السياسية سينفردن باختيار الوزراء ولا يبقى شيء للرجال، ونلاحظ أن هذه الفترة ذاتها شهدت في تجلياتها الأخرى - عند توفيق الحكيم مثلاً في بعض مسرحياته - مثل هذا الجدل، ولكنه والحق يقال كان أكثر حنكة ووعياً مع أنه اشتهر بعدائه للمرأة، غير أن حصاره الثقافي والفكري جعله يحلق في مستوى أرفع مما يفترضه بيرم التونسي منحازاً للفكرة الشائعة عن النساء باتباعهن للهوى وخروجهن عن الموضوعية، واقتصارهن في الاختيار على أهل الفن من الرجال دون النساء: «نشيل سي حافظ عفيفي اللي حيبقى عجوز ونجيب ياسين الصالات في مطرحه ويجوز نجيب شكوكو الخفيف، المصغّر، الكندوز يمسك لنا الاقتصاد ويؤلف الشركات». تهريج يذهب بيرم بعيداً في غلوه في اختيار النساء، فسوف يعزلن السياسي المخضرم حافظ عفيفي الذي كان من أقطاب الأحرار الدستوريين ولا ندري لماذا خصه دون بقية ساسة مصر ليحل محله إسماعيل ياسين الذي كان يعمل في الصالات والمسارح أو شكوكو الذي يحمل راية الفكاهة الشعبية ليتولى قيادة الحركة الاقتصادية في مصر، لم يدرك بيرم أنه بالوصول إلى هذا المدى في القصور سقط في دائرة التهريج وأصبح من هؤلاء الفنانين الذين يسخر منهم، ولست أدري لماذا يقسو على أبناء مهنته بالذات ويراهم غير جديرين بالمسؤولية، ربما لأنهم ينازعونه النجومية ويخطفون منه الأبصار والاهتمامات، فهو في قصيدة تالية بعنوان «النساء في البرلمان» يناضل بين المفكرين والسياسيين من ناحية والفنانين من ناحية أخرى قائلاً: «خلاص مقامكم ضاع يا فلاسفة ويا أهل العرفان لا حيبقى نائب لطفي السيد ولا حافظ رمضان عبد العزيز فهمي ده إيه راخر، أو صدقي العيان البرلمان ده لأنور وجدي أو محسن سرحان أما الوزارة فلحسين صدقي . . وبقية الجدعان»ومع أن القافية هي المسؤولة إلى حد ما عن الأسماء التي يختارها من كلا الطرفين فإن من الواضح أنه كان يميل إلى أن يغمط، لا حقوق النساء فحسب بل حقوق الرجال، من أهل صنعته فما الذي يعيب الممثلين ويجعلهم غير قادرين على تحمل مسؤولية الحكم، وإن كانف ي بعض الساسة من أهل الفلسفة والمعرفة مثل لطفي السيد أو القدرة على القيادة مثل عبد العزيز فهمي فإن من أهل الفن - مثل حسين صدقي نفسه - من كان يصلح لإدارة شؤون الحكم، لكن شاعرنا يمضي في سخريته من مواهب النساء واهتماماتهن إلى مدى أبعد حيث يقول: «والميزانية اللي تتبعتر على الخزان وفي المناجم وفي الأوحال وفي الدخان ما تروحش ليه على الكريم والبودرة واللوسيان هي الفلوس تنصرف إلا على الجمالات»يكشف بيرم هنا عن النظرة الشائعة حينئذ ولا زالت في بعض قطاعات الرأي العام - عن ضعف قدرات النساء في العمل الجدي الفائق، فيتوهم أنهن لو حكمن وصارت لهن الكلمة في البرلمان فسوف يغفلن المشروعات الإنمائية الكبرى مثل خزان أسوان ومناجم الفحم وإقامة المصانع، وسوف يفعلن كما تعودن في حياتهن المنزلية التي يتولى فيها الرجال القيام على الشؤون العامة فيتفرغن لأدوات الزينة من المساحيق والعطور وأدوات صناعة الجمال التي ينفقن عليها ثرواتهن، ولو كان شاعرنا أبعد رؤية وأشد ثقة بكفاءة المرأة وقدراتها لأدرك أنهل ن تمضي عقود عديدة حتى تصبح المرأة ركيزة التنمية وخبيرة العلوم والاقتصاد والسياسة، فتربية المجتمع وتوفر التعليم والخبرة هو الذي يقوم بتأهيل كل من الرجال والنساء على السواء، وممارسة الحياة العامة وتحمل المسؤولية شرط النهضة الوطنية والقوم، أما خطاب العوام الذي يعتمد على الانتقاص من كفاءة المرأة فإنه هو الذي يستحق الإشفاق والسخرية والتقويم، ثم يختم بيرم بقوله: «يا خضرة، يام إسماعين، يا سعدة، يا عواف حتخبزوا بالقميص المسخسخ . . الهفهاف وتعزقوا بالشراب النايلون . . الشفاف وتطلعوا الغيط على تروللي وموتوسيكلات؟»في هذا المقطع الختامي يلتفت بيرم إلى المرأة المصرية في القرى والريف، فيناديهن بأسمائهن الأليفة حسب النطق الشائع، ويحييهن بكلمة «عواف» القروية، ثم يعود لموضوعه الأثير وهو اللبس الذي يتعين على المرأة القروية أن ترتديه حسب منطق التطور في تقديره، هل ستصنع مثل المرأة في المدينة، حيث ترتدي القمصان الشفافة الهفهافة، ذات الأوان المفرطة، وهل سيذهبن لفلاحة الأرض وعزقها وتقليبها بالفؤوس، وهن يرتدين الجوارب النايلون، وقد كتب بيرم قصائد أخرى عن هذه الجوارب التي تتمزق من الاستخدام مرة واحدة، وكان شديد الغيظ منها والتندر عليها، وهل سيخرجن إلى الحقول على مركبات آلية، ومع أن نبرته الساخرة من تطلعات المرأة في التقدم تضعه في صفوف المعارضين لها فإن حكم التاريخ وحكمة الأجيال تشير إلى أن تقدم المجتمع رهن بتجاوز هذا المنظور التقليدي وشيوع قيمة العلم والعمل والحرية والمساواة بين الرجال والنساء، لأن التمييز سمة التخلف الحضاري ولأن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©