الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعر البدوي.. الابن الشرعي للصحراء

الشعر البدوي.. الابن الشرعي للصحراء
13 أغسطس 2014 22:14
في محاولة منه لقص آثار البدايات الأدبية في اللغة العربية، يورد كامل مصطفى الشيبي في بحث له نُشِرَ في مجلة المأثورات الشعبية القطرية وصفا لبدايات تكوّن الأدب الشعبي، يقول: "يبدو أن السجع كان الصورة الأولى من التعبير الفني، ومن الطبيعي أن يظهر على أيدي الكهان في المعابد الكثيرة التي انتشرت هنا وهناك إرواءً لعطش الإنسان العربي إلى الاتصال بالسماء ونيل الأمان من القوة الرهيبة التي تغير الفصول وتحيي وتميت، وتضر وتنفع. من هنا تقرَّبَ الكهان إلى عالم الجبروت والملكوت بجمل نمقوها إجلالاً له وهيبة وخوفاً وطمعاً كما يلبس الإنسان أحسن ما عنده عند لقاء السلطان أو عند زيارة الأخذان ليعبر عن الاحترام والتقدير والمحبة أو المهابة وما إلى ذلك". --------- تورد كتب التراث نماذج عديدة لسجع الكهان الذي يتحدث عنه الشيبي، من ذلك ما قاله واحد من كهان العرب: إذا طلع السرطان استوى الزمان وحضرت الأوطان وتاهت الجيران وقال آخر: إذا طلع الدبران توقدت الحزان وكرهت النيران يبست الغدران ورمت بأنفسها، حيث شاءت، الصبيان" 10 ثم تطور هذا السجع، ذو الجمل القصيرة، التي لا تعنى بالوزن ولا الإيقاع، إلى جمل متساوية ذات أوزان متماثلة أطلق على وحداتها كلمة (شطر)، نسبة إلى ضرع الناقة – فيما يبدو – وتشبهاً به، وعلى مجموعها مصطلح (رجز). وقد استمد العربي رجزه هذا من ناقته أيضاً تشبهاً بها – بحالها (إذا أصابها داء في أعجازها فتضطرب رجل البعير أو فخذاه، إذا أراد القيام). ولهذا فالناقة الرجزاء هي: المريضة بداء الرجز عندهم، وقد وصفت بأنها (إذا نهضت من مبركها لم تستقل إلى بعد نهضتين أو ثلاث) كما في لسان العرب لابن منظور (مادة رجز). وهكذا فالجهد الذي تبذله الناقة المريضة في النهوض مرتين وثلاثاً، حتى تقوم، هو الإيقاع الذي نسج على منواله أول شكل من أشكال الشعر العربي الذي قام على أساس من الشطر الواحد لا البيت ذي الشطرين كما تطور الأمر فيما بعد. الرجز والقريض وقد بقى الرجز على ما كان عليه، كما فعل سجع الكهان، وسمي الشعر الجديد ذو الشطرين بالقريض، استمداداً من فصله نصفين كما يفعل المقراض بالأشياء. وتعبيراً من هذه الظاهرة سمعنا ربيعة بن ثابت بن لجأ الأسدي الأنصاري الرقي (ت بين 198 و303ه/ 813-818م) يقول (رجزاً): أرجزاً تريد أم قريضاً أم هكذا بينهما تعريضاً كليهما أجيد مستريضاً ومن نماذج الرجز الأولى التي تصلح مثلاً له، وتستغرق شروطه وقول الراجز: دع المطايا تنسم الجنوبا إن لها لنبأً عجيباً حنينها، وما اشتكت لغوبا يشهد أن قد فارقت حبيبا وللاحتجاج على أن الرجز شعر شعبي ذكر ابن وهب الكاتب (أبو الحسن اسحق بن إبراهيم، ت بعد 335ه/ 947م) أن (الراجز الساقي الذي يسقي الماء) وأن الأصل في الأراجيز – وهي القطعة الشعرية من الرجز – (أن يرتجز بها الساقي على دلوه، إذا مدها. ثم أخذت الشعرا فيه، فلحق بالقصيد)، أو لحق به القصيد كما ينبغي أن يقال. وبهذا يتبين أن الرجز شعر شعبي يقترن ترديده أو إنشاده، أو الغناء به على الصحيح، شغلاً للنفس عن مشقة العمل وتسلية لها من الهموم وشحناً لها بمزيد من الطاقة للاستمرار في ما هو فيه من جهد. ولأن هذا الحكم صحيح، رفض واضعو العروض العربي، فيما بعد، أن يعدوا الرجز شعراً وقرنوه بالسجع من جديد لكن، إذا كان العرب (يترنمون به في عملهم وسوقهم ويحدون به) لابد من عده شعراً شعبياً، وقد دخل الشعر من أوسع أبوابه، فيما بعد، واعترف به، ورد إليه اعتباره فكان منه – وإن كان بدائياً تلقائياً جملياً. ومن تحصيل الحاصل الإشارة إلى أن الرجز كان، فوق مصاحبته للإنسان العربي في خصوصيات حياته، في بيته وعمله وسفره، إطاراً للحماسة الحربية والفخر بالنفس أثناء القتال بخاصة – والأمثلة على هذه الظاهرة مما لا داعي إلى إنفاق الوقت والحيز فيه. وإذا استقر بنا هذا الوضع، ساغ لنا أن نجعل الرجز منطلقاً للقول: "إن للأدب الشعبي فنوناً تختص به وتتضمن معانيه التي تتدفق بها شجون الحياة، وينبض بها نبضها الذي يعد الدقائق والثواني والأيام، ثم عد السنين والأجيال والقرون". 11 فنون الشعر ويبدو أن الأدب الشعبي قد استقر حقاً في نحو بداية القرن السادس، حسب الشيبي، إذ تبين فيه اكتمال فنون الشعر واضحة منها: * فن المواليا: الذي بدأ فصيحاً ثم استقر شعبياً على أربعة مصاريع مصرعة أو ناقصة التصريع كالشأن مع الدوبيت، مع ميل إلى استعمال الجناس فيه، وهو الأمر الذي التصق بهذا الفن ولم يغادره أبداً. وقد نظم الشعراء في هذا القالب خواطرهم وملاحظاتهم وآراءهم وحكمهم، وقد نشأ هذا الفن في واسط العراق. * فن الكان وكان: الذي تتكون الوحدة الشعرية منه من أربعة فصوص غير متساوية وغير مصرعة، وقد جمعناه في كتاب برأسه وأصدرته مجلة (التراث الشعبي) ومن بواكيره: ما هو بحد الصوارم ولا بمشتبك القنا إلا هدايا تهدى لمن يشا الرحمن (12) ولعل أهل البطائح، (سكان منطقة الأهوار اليوم في العراق) هم الذين اخترعوه أو نشروه، إذا وجدنا ابن الجوزي يقول إبان نفيه إلى هذه المنطقة سنة 592هجرية/ 1195م، كما في مرآة الزمان بسيط ابن الجوزي (8:2/481/484)، وكان هذا الفن وعظياً في غالبه. * فن القوما: وكان فناً شعبياً رباعي المصاريع كالمواليا والكان كان، لكنها قصيرة، وأول من سجل ناظماً فيه منصور بن نقطة (المتوفى في أوائل القرن السابع الهجري) في قوله مخاطباً الخليفة الناصر العباسي (ت622ه/1225م): يا سيد السادات لك في الكرم عادات أنا بني ابن نقطة وأبي – تعيش أنت – مات ونظم الشعراء في هذا القالب سحورياتهم في رمضان كما هو معروف، وهذه الفنون الثلاثة جميعاً عراقية: من العراق انتشرت إلى آفاق العالم الإسلامي. * فن الزجل: وهو الوجه الشعبي للموشح الأندلسي الفصيح، وقد انتشر على يد الوزير ابن قزمان الأندلسي (أبي بكر محمد بن عبدالملك الوزير ت 508هـ/ 114م) (35) ومن بعده ابن أخيه محمد بن عيسى بن عبدالملك القرطبي، (ت525هـ/ 1116م) (36)، وانتشر في الأندلس والمغرب وزحف إلى مصر حتى وصل العراق، وذكر أن أشعار محمد بن عيسى كانت تعرف في بغداد مع كونها بيئة تنتشر فيها الفنون الشعرية المحلية، ومعروف أن الزجل عالم واسع وبحر طام كانت له فروعه الخمسة التي اختص كل منها بموضوع، لكنها بادت حتى بقي الزجل وحده وكأن لم تكن له فروعه تلك، ولله در من قال: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس، ولم يسمر بمكة سامر أن انتشار الفنون الشعرية الشعبية العراقية والأندلسية سجلت لنا نوعين من القوالب، أولهما الرباعي البغدادي، والثاني المتعدد القوافي والوزن وهو الزجل ذو الطابع الأندلسي. ومع هذين الفنين ينبغي أن نذكر الشعر البدوي الذي ذكره ابن خلدون في المقدمة، وذكر الحجازي من فنونه صفي الدين الحلي قبله في (العاطل الحالي) (ص8) فإنه عرف في الأندلس أيضاً وذكر من أنواعه الأصمعيات والبدوي والحواني وعروض البلد، حفظاً لذكراه المشرقية وحرصاً على النظم بمقتضى تقاليده القديمة. وبعد أن تفرعت الفنون الشعرية الشعبية وانتشرت في البلاد العربية، وجدناها تحذو حذوا واحدا من هذه الأصناف الثلاثة، فإما الصنف الرباعي العراقي ومنه: العتابه والبوذية والمرَبَّعْ وما إلى ذلك، وإما الصنف الأندلسي الملون، ومنه الزجل الحالي في بلاد الشام ومصر والمغرب، والحميني اليماني القديم، وإما البدوي الذي يحاول الاقتراب من شكل القصيدة وإن كان الغالب عليه أن يكون للأشطر الأولى قافية وللأشطر الثانية قافية. 13 صعوبات التدوين وحّدَّد َشربل داغر في بحث قيّم له (14) الصعوبات التي يواجهها الباحث في التعرف على الهيئات الأولى لتجميع الشعر القديم بين روايته وتدوينه، وبدايات تجميع الشعر العربي في كتب ومجموعات منفصلة، وكيف خلص إلى "الديوان" المفرد بعد الديوان "التام"، وهل هناك علاقات تلازم تكويني بين القصيدة في عنوانها في موضوعها، وبين ما يكون عليه خروجها في كتاب. فيرى أن ما نجده لا يمثل عمل الشعراء أنفسهم على شعرهم، بل ما خلفه لنا الرواة والجامعون عنه. ولو عدنا إلى المتوافر من مجموعات الشعر العربي الأقدم، حسب داغر، لوجدنا أن ما وصلنا منها لا يوفر لنا في أحوال عديدة مدونات الرواة أو الجامعين الأوائل، بل مدونات لاحقة ترقى خصوصا إلى عمل المصنفين في القرنين الثالث والرابع الهجريين. وما نعرفه عن شعر امريء القيس وحسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي هو ما أبتاه لنا جامعون ورواة، ولا تصل نهاية سلسلة الإسناد في الروايات المختلفة إلى الشاعر نفسه في أغلب الأحوال. إلا أن هاتين الصعوبتين لا تعدمان، مع ذلك سبيل البحث، وأن تجعلنا نقيم في ميدان للدرس غير أكيد المعالم، خصوصا في مرحلة ما قبل التدوين. فنحن لن نجد الشعر، في أخباره أو في مدوناته، إلا في عمل رواته، بوصفهم جامعين له بعد أن كانوا منشئين له، وذلك في "كتب" و"أشعار" و"دواوين"، حسب التسميات التي وصلتنا عن أعمالهم. ولقد عمل عدد من الدارسين، من كارل بروكلمان إلى ناصر الدين الأسد وغيرهما، على التحقق من مجموعات الشعر العربي في مراحل تدوينه أو تقييده الأول. وتوصلوا، ولاسيما الأسد، إلى التحقق من أن الرواة/ الجامعين الأوائل في القرن الهجري الثاني عملوا على ترتيب كتبهم بدءا من كتب ومدونات توافرت لهم، بالإضافة إلى ما حفظوه من هذا الشعر شفاها. ويوجه الأسد أن بعض الشعر الجاهلي "كتب في صحائف متفرقة أو في دواوين مجموعة منذ عهد مبكر جدا، وربما كتب بعضه منذ العصر الجاهلي"، وأن بعض هذه المدونات بلغ علماء الطبقة الأولى من الرواة، واعتمدوها مصدرا من مصادر تدوينهم لهذه الكتب التي رواها عنهم تلامذتهم. وأن هؤلاء العلماء الرواة في القرن الهجري الثاني كانوا يعودون، هم وتلامذتهم إلى نسخ مكتوبة من هذه الكتب في مجالس علمهم وحلقات دروسهم، وأن رواية هذه الكتب التي بين. أيدينا - حين يكون الكتاب مسندا - تنتهي إلى أحد هؤلاء العلماء من رواة الطبقة الأولى أو إلى أحد تلاميذهم، ثم تقف عندهم ولا تتجاوزهم". (15) هكذا نعرف، على سبيل المثال، أن الوليد بن يزيد طمع في جمع "ديوان العرب" فاستدعى، على ما تقول المرويات، حماد الراوية وجناد بن واصل واستعار منهما كتبا ودواوين كانت في حوزتهما، منها كتابا ثقيف وقريش في الشعر، و"ديوان العرب" وجزء من شعر الأنصار، عند حماد الرواية. كما نعرف أيضا أن المفضل الضبي اختار قصائد عن دواوين وكتب كانت في حوزتهم كذلك. وهناك أخبار أخرى تفيد كلها وتؤكد ما سبق أن قلناه وهو أن جامعي الشعر الأوائل عملوا على مدونات سابقة عليهم، وتعود في بعضها إلى مرحلة ما قبل الإسلام. (16) أما معلوماتنا عن فترة ما قيل التدوين، وعن تدوين الشعر في مجموعات أولى، فتبقى محدودة على أية حال، حسب داغر، ولا تمكنتا كفاية عن التعرف المقرب والمدقق على العمليات هذه. إلا أننا لا نجد صعوبة، فيما بلغنا من أخيار، التأكد عن أن الشعر عرف، هو مثل غيره، وضعية أولى، شفوية، جرى فيها تناقل الشعر عبر الألسن أو عبر رواة متمرسين (كثير عزة راوية جميل بثينة، وجميل راوية هدبة بن خشرم، وهدبة راوية الحطيئة، والحطيئة راوية زهير، في تسلسلٍ لتلك المرويات حسبما ورد في "الأغاني"). ونتحقق في هذه الوضعية من دور مخصوص للشعر هو، دور "الإلقاء"، إذا جاز القول، في لقاء، أو مناسبة، أو حفل عام، على أنه شكل وجود الشعر. وشكل تبادله في الجماعات أيضا، وتصاحبه تقاليد حفظ ورواية من منشدين ورواة، هم الصيغة الأولى لناشري الشعر ومروجيه. (17)، و"الإلقاء" هو في الحقيقة أحد أهم خصائص الشعر الشعبي أو البدوي إلى اليوم فهو شعر شفوي بالأساس يُُحفَظ ويُروى ويُتَناقَل ويُلقى في المجالس. ويُلفت داغر إلى أن الشعر ما لبث أن عرف وضعية أخرى، تدوينية، بعد "تعريب الدواوين" في العهد الأموي، وبعد انتشار الورق في مطالع العهد العباسي، جرى فيها قيد الشعر في كتب ودواوين في صورة فريدة. ونتحقق في هذه الوضعية كذلك من أن الشعر لم يفارق دوره التخاطبي، إلا أن أوجه تبادله باتت تتعين أيضا في صيغ مادية يتم فيها التعرف عليه والتفاضل فيه ونقده وتثمينه سواء في البلاط والمجالس، أو في حلقات الشعراء والعلماء والدارسين. وإذا كانت المعلومات عن مرحلة التدوين الأول قليلة، فإننا نفوز بعد ذلك بمعلومات أثمن وأوسع وأدق، نتحقق فيها من انتشار تقاليد جمع الشعر في كتب بينة الترتيب. وهو ما يدعو الأسد إلى القول: "الدواوين كانت موجودة - مكتوبة مدونة - في القرن الثاني الهجري، أي من نهاية الربع الأول من القرن الثاني على التقريب إلى مطلع القرن الثالث، وهي الحقبة التي كان يحيا فيها هؤلاء العلماء الرواة من رجال الطبقة الأولى، ويلغ فيها نشاطهم ذروته". وهذا يعني واقعا. أن جمع الشعر في مجموعات يرقى إلى القرن الهجري الأول. إذ عاد هؤلاء الرواة إلى كتب سابقة عليهم. ونحن نعرف أن عددا من خلفاء بني أمية، منذ معاوية بن أبي سفيان، سعوا إلى جمع الشعر وغيره أيضا من متبقيات العهد القديم في الجزيرة، مثل "اللغات" و"الأخبار" و"الأنساب" وغيرها، في مجموعات، ونتساءل: هل نجد في مساعي خلفاء بني أمية هذه طلبا لتأكيد "عربيّتهم" في الوقت الذي كانت تمتزج فيه سلوكياتهم وتدابيرهم بغبرها من السجلات والمرجعيات الأخرى "البيزنطية، الفارسية. القبطية. . . " وأخذهم عنها؟: وهل يمكن وضع عمليات التجميع في سياق تقاليد أخرى تأكدت في الدولة الأموية، وهي تأسيس تقاليد "ثبوتية" وسلطانية بالتالي، من صك العملة لأول مرة في التاريخ الإسلامي إلى ضبط قواعد عمل "الدواوين" بعد تعريبها. . . غير ذلك؟". نخلص من هذا إلى القول أن أشكال جمع الشعر أو التعرف على وجوده في التبادل بين الجماعات، بقيت منفصلة عن الشاعر، وتحكم بها وسطاء غيره من رواة ومدوّنين، ما يكشف عن خططهم هم في المقام الأول، لا عن خططه هو في تقديم شعره، وقد يكشف أحيانا عن تلاعبهم بنتاجه وتحكمهم في. تصريفه و"نحله" ربما: ففي غير رواية عن الرواة نتحقق من كون بعضهم كانوا يجتمعون أحيانا لمقارنة ما بلغهم من الأشعار والأخبار فيصححونها وينقدونها ويعدلونها بالتالي. أي أن الوسطاء سعوا إلى تقديم شعر الشعراء، والى شرحه بعد وقت. دون أن نتبين صلات بين مقاصد الشعراء في قول الشعر وبين مقاصد الرواة في تجميعه. أو أن مقاصدهما ليست متطابقة على أية حال. أين ينتهي عمل الشاعر، وأين يبدأ عمل الراوي؟ هل يقتصر دور الراوي على النقل فقط، وعلى حفظ ما قام بتسجيله في الذاكرة أو في مدونة؟ هل ينتهي عمل الشاعر بعد وضع قصيدته، بعد إلقائها؟ هذا يصح من دون شك في شعر المدائح، وربما الهجاء. ولكن ماذا نقول عن شعر الوصف أو الطرديات أو الغزل وغيرها؟ كيف كان يتم تناقلها وتداولها؟ ما فعل المتنبي، على سبيل المثال، بعد أن وضع قصيدة "الحمى" وبعد أن حفظها في مدونة خاصة به؟ هل أخذها عنه بعض النُساخ أم سمعها البعض الآخر؟ وكيف وصلت إلى ابن جنى وأبي بكر الصولي لكي يدرجاها في "ديوان المتنبي؟18 ما نقوى على تأكيده، بدايةً، هو التمييز بين مرحلتين، تتوزع فيهما المدونات المختلفة: مرحلة أولى قامت على جمع متبقيات الشعر الجاهلي، في مجموعات تضم شعر الفحول أو شعر القبائل أو منتخبات شعرية منه ومرحلة ثانية قامت على جمع شعر العهود اللاحقة، وعلى اختيار منتخبات معللة منه، من جهة، وعلى إعادة جمع أوفى للشعر الجاهلي، من جهة ثانية. فماذا عن الجمع في المرحلة الأولى؟ لا يمكننا الحديث عن جمع الشعر في هذه المرحلة إلا في صيغه تناقله الشفاهي، في المجالس والمحافل والطقوس، وعبر الرواة وربما في مدونات مادية خاصة ببعض الشعر الذي ميزته القبائل عن غيره، والحامل من دون شك لمفاخرها وأيامها. ففي أخبار الجاهلية. كما في أشعارها، أحاديث وإشارات عن الكتب والتحبير والتنميق، وعن الشعر نفسه، وعن التباهي به بالإضافة إلى أشكال التكسب الأولى (النابغة الذبياني عند النعمان بن المنذر، آخر ملوك الحيرة)، وغيرها مما يكشف عن "حياة" شعرية ناشطة، لم تسلم من تدوين ربما، وإن ظلت رواية الشعر وتناقله عبر الألسن مثَّلَت الشكل الاجتماعي لتداوله.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©