الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثقافة الخراب

ثقافة الخراب
13 أغسطس 2014 20:05
بين حنظلة وغويا زواج عرفي، وشهود حرب، ولي فن هو الخراب! إياك أن تظن بالفن خيراً! لأن الشر وحده موقدة الجمال، واللذة الكامنة وراء التشويه هي الإمتاع الإبداعي الذي يخصب النظائر غير المرغوب بها في ورش الفخامة الجمالية والمجد البطولي الذي لا يليق بثورة الخراب! بغريزة الشر تعيد تشكيل الزمن ضمن مكونات سرمدية، تشبع الرغبات الأزلية للأبالسة الأبديين، حين لا يحتاج الرسم سوى إلى تصوف فسفوري حارق على طريقة التصوف النووي السلفادوري، كي يفك طلاسم الحرب بما أعد لها من وحوش تهرول حول أقدامها دون أن تدركها، كأنها تمارس البهلوة في غرف الغاز. . قل لي من عدوك. . أقل لك من أنا! فغويا وحنظلة خصمان حميمان لصديق لدود هو القلق، الذي يُغَيّب وعيهما، بتنويمات مغناطيسية، تلقي بهما إلى برزخ الموت، فما أن يستيقظا حتى تبدو عليهما أعراض المقبرة. . . من منهما عدوك إذن؟ ما عليك سوى أن تتخلى عن التخمين لأن اللوحة لا تتسع سوى لتورطك باليقين. . . شرور متقاطعة يقول سلفادور دالي: «من إسبانيا تنبعث رائحة لحم محروق»، ويرسم غويا في لوحة «يهربون وسط النيران» التي تحمل رقم 41، رجالا يحملون نساء ويحاولون الفرار من النار التي تهرول لالتهام لحمهم العاري. . . المشهد فوضوي من رعب، وإسبانيا غارقة في فوهة من الحرائق الكظيمة، فماذا نتوقع من جهنم؟ بينما يرسم حنظلة مدفعية تذبح حمامة، وتحقن دم سرب من الغربان يصطف ببلاهة فوق جذع شجرة جرداء أمام حنظلة، يرسم غويا بوما ترمز لوحشية الغباء، وأنصاف بشر وخفافيش، وأجسادا جثثية ممثلاً بها. غويا الذي يرسم نساء إسبانيات شجاعات يقاومن الجنود بالفؤوس والحجارة في اللوحتين رقم 4و 5، يحاكي ناجي العلي وهو يرسم انتفاضة فلسطين على هيئة امرأة عملاقة يتقزم أمامها الجندي الإسرائيلي الذي يتكئ على أقدام حافية، وهو بدوره لما رسم امرأة لاجئة تخرج من تحت الأنقاض وهي ترفع ابنها الصغير الذي يهتف للمخيمات، تماهى مع امرأة غويا تمسك بيد صغيرتها التي يبدو عليها الذعر من هول المشهد، لتحاول إخراجها من لوحة الخراب. . يشخص حنظلة ببصره إلى فتاة فلسطينية تلعب لعبة «نط الحبل» فتقفز من فوق أسلاك شائكة - بقبضة كفين غادرين - لتقطع قدميها إلى نصفين. . . وفي حين يرسم حنظلة بيت لحم على هيئة مسيح مصلوب ومعذب يحمل في رقبته مفتاح العودة، وآخر يصرخ بإيلام منفر وهو يتلقى الجلد على يد القمع بعصبة سنابل، ترى في اللوحة رقم 37 لغويا، جثة مبتورة الذراعين عارية لرجل يجلس على جذع شجرة شمطاء تخترق جسده، كأنه تمثال خرب لقديس مغدور. . في لوحة أسرة الموت 62، تحدق بك جثث تنتظر الدفن تجول بينها امرأة بلا وجه تبكي حزنا، بينما يقرأ حنظلة لافتة إعاقة حركية فوق أكوام من الجثث، فأي تقاطع هذا الذي يواشج بين خرابين أحلاهما فن! الحرب والجنون وإنها الحرب خارطة الخراب، جغرافية جاحظة بعيون مفقوءة، تراكم مأساوي على قارعة اللذة، ولكنها نازع وجودي عند فرويد الذي يرى في غريزة الدمار ذريعة للانتصار. . . وهو ما يجعل من الخراب متعة بصرية محروسة بالهلوسة عند المجانين الذين تروق لهم الدربكة على منصة الطبول حتى يتأكدوا من سلامة العقل باجتراح اللاوعي، تنصلا من وعي اللاعقل في عقل الجنون، وجنون. . . . جنون. . . . . . جنون. . . . . يفضي إلى ارتطام الذاكرة بالفكرة، مما يؤدي إلى انشطارات تصورية، تلتحم فيها الشياطين مع الضحية، والفن الذي يدرك خطورة هذا الالتحام، يتقصده من منطلق تهكمي، يبرع باستلذاذ المنطق المقلوب، لاكتشاف المنطق المرغوب. مقابر الأرقام المسرح الأسود، مرحلة اللوحات الرقمية التي وثق بها الفنان الإسباني غويا لمشاهد من الحرب البونابارتية على إسبانيا، بصريات رقمية لا تخضع للتسلسل الزمني بقدر ما تخضع للمفاجآت البصرية الأقرب إلى استجابة فوتوغرافية لواقع ضرير مشحون بطاقة سحرية تولد صدمات كهربائية بذبذبات عالية، باستطاعتها قراءة الشيفرات التجريدية للمرئيات التراجيدية. فهو يقتطع من الجسد ما يدل على تقنيات الحرب، فنه القذر، أو البشع، لم يخدع المخيلة ولم يتحايل على الفوتوغرافيا، ولم يتوار خلف اللوحة من التجربة، بل اعتمد على ثبوتيات مرئية، في لوحات مجهرية مغمسة بثيمة لا لونية من أمشاج الظل والنور، والسوداوية، معتبرا أن الحرية الفنية لا تستجيب لاستبداد الأساليب الجمالية، وقد رفض العبودية المطلقة للجمال، ورفض الصفح وفاء للذاكرة الخرائبية، وهو ما يلتقي به مع ناجي العلي، الذي كثف الذاكرة السياسية بأقراص مشهدية، دراماتية، مهدت لجريمة سياسية لم يشفع لها ما يفرضه عليها الفن من إتاوة تاريخية، فهل كان حنظلة وغويا شهيدي الخراب في اللوحة! هناك نسيج ثقافي يعبر عن موقف أخلاقي من الخراب كفن، يتراوح بين المجرد والملموس، في لوحة الشهيدين، فكلما تضاءل الجمال في الواقع الخيالي تضخم الخراب في الأداء التعبيري، ضمن رؤي متصارعة، تتوازن بتعدد النيجاتيف الذاكراتي في كاميرا ميتافيزيقية. مرايا مكممة حنظلة كان بائساً، لكن بؤسه التهكمي كان الوجه الخفي الذي لم يطلع عليه أحد غير اللوحة، حتى ناجي العلي لم ير وجهه، لم يعرفه، لم يرد أن تكون اللوحة سوى مرآة مكممة، ربما كان الهدف اللاواعي الذي دفع حنظلة لإدارة ظهره للمتلقي هدفا أمنيا، كي يتمكن من التقاط الخناجر، ولهذا ظل حنظلة سالما من غدر الخراب، لقد تحصن بجنون الرسام من عقل اللوحة. غويا الذي نزل إلى شوارع مدريد ورأى بأم عينيه المقاومين الإسبان، وعاين بنفسه شراهة الحرب، ارتأى أن يختار قراراً جنونياً من نوع آخر، إنه القلق، الذي يؤدي إلى التشوه، والفنان الذي لا يسكن في عقل قلقه لا يتحرر من وعيه، حتى ليصير الوعي مشكلة، أو ندبة جمالية لا تعني اللوحة في شيء سوى أنها مضاعفة قهرية للفخامة، يحتاج الرسام إلى خصومة جادة مع وعيه حتى يستوعب قلقه، وما محاولته للاندماج مع التشوه سوى موقف جمالي، يعينه على جنون لا مجنون. إنه التصوف الإبداعي، الذي يتصدى للبدع الجمالية في ثقافة الخراب، قابضا على الخلوة الصوفية بحراس الجحيم! فن الجريمة يخرج من بين الذبح والمقابر، مطابقا، وفيا لرحمه، يحمل صفات الخراب الوراثية، بجينات مشهدية، الفنانون هم ورثة الخراب في دكة الفن، بل هم وحدهم ورثته الشرعيون، الأحق به حتى من قتلاه. . أبشع لوحات التاريخ غوياوية، من إسبانيا، البلاد التي حملت من مستعمراتها أشجار الكاكاو إلى أوروبا، تتعاطى الجثث في أقراص شوكولا وزن كل قرص منها هو وزن الروح المأكولة في لوحات عبقري الخراب غويا فبمجرد أن تخرج الروح من جسد اللوحة ينقص من وزن الخراب 21 غراما، هو تماما ما تزنه حبة الشوكولا! وبين أندلس موعودة، وفلسطين مفقودة، يترنح حنظلة فوق أعراف الجحيمين، وهو يحمل ظهره في لوحة منشودة، كأنها قيامة الخراب. . . العدو إذن هو الزمن! زمن غويا شرير كزمن حنظلة، ولكنه زئبقي يصعب الإمساك به، لأنه أول الهاربين من اللوحة، التي تتجاوزه، إلى مساحات ماورائية تسبقه وتلحق به كغيب افتراضي إنه الزمن الفني، الأكثر امتدادا من الزمن الواقعي، فالأول تذكري والثاني تخيلي. . وبين المجازين أسرار ليست للكتمان، لأن الأصل في الشر إشهاره، وبما أنه شكل من أشكال الذاكرة لابد من حفظه في ميزان حرارة، عالق بين عضتي حرب في لوحة متوحشة. يا أيها الزمن المصاب بارتخاء في الأعصاب كساعات سلفادورية، لقد أقسمنا على تركك تنام وحيدا، وهجرك في المضاجع، أيها المصاب بميوعة في الذاكرة، لقد حررناك من نسياننا، إذ تذكرنا بنسيانك مواعيد تناول الألم حسب الميقات المحلي للقيامة، لأن الساعة الآن: جنة، بتوقيت الخراب!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©