الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحرب العالمية الأولى.. من المسؤول؟

الحرب العالمية الأولى.. من المسؤول؟
13 أغسطس 2014 22:06
منذ مائة عام مضت، اغتال متطرف قومي صربي يُدعى «جافريلو برينسيب» الأرشيدوق «فرانز فيرديناند»، وريث عرش النمسا، مثيراً الاضطراب والتفكك في الإمبراطورية النمساوية المجرية. وفي تسلسل سريع للأحدث التي لحقت، وجدت كافة القوى الأوروبية الكبرى نفسها تترنح على شفا صراع عالمي. وتفاقم النزاع الأصلي من جراء قرارات خاطئة متتالية، وما لبثت هذه القوى أن وجدت نفسها قد انزلقت إلى أتون الحرب العالمية الأولى، التي كانت آثارها ضخمة وواسعة الانتشار بدرجة جعلت الاصطلاح على اسمها سريعاً ذائع الصيت. وبعد قرن كامل، لا نزال نفتش في آثارها ونسبر أغوارها، وفي الحقيقة، لا يزال كثير من الشعوب والدول في أجزاء مترامية من العالم، لا سيما الشرق الأوسط، يناضلون ويعانون من تبعاتها. ونتيجة اقتناعها بأن صربيا كانت وراء اغتيال الأرشيدوق، قدمت الإمبراطورية النمساوية ـ المجرية مطالب لبلجراد تلغي سيادة الدولة واستقلالها. ورداً على ذلك، هددت روسيا الإمبريالية، التي شعرت بأنها ملتزمة بحماية «عرقية السلاف الأوروبيين» من التنمر النمساوي الألماني، بالتدخل وبدأت بعد وقت قصير حشد جيوشها. وأثارت التحركات الروسية بصورة تلقائية حفيظة الألمان في ضوء خططهم العسكرية، ونشروا جنودهم. وما أن أصبحت سانت بطرسبيرج في حالة حرب، دخلت فرنسا الصراع نيابة عن حليفها الروسي. وتضمنت الخطط العسكرية الألمانية المشؤومة اجتياحاً عسكرياً ضخماً تجاه الغرب، من خلال بلجيكا من أجل تطويق باريس من الخلف. وانتهك هذا الهجوم الألماني حيادية بلجيكا التي استمرت لفترة طويلة، وأثارت إعلان الحرب على برلين من قبل بريطانيا وإمبراطوريتها. وسرعان ما تحول المشهد الأوروبي من السلام إلى الحرب بصورة مذهلة، وبات كثيرون يصفونها بأنها ملحمة حقيقية. وعلى رغم أن القرن التاسع عشر كان قد شهد بعض الصراعات منذ عام 1815، بما في ذلك الحروب بين توحيد إيطاليا وألمانيا وحرب القرم، إلا أن جزءاً كبيراً من القارة تمتع بقرن ساده السلام والازدهار. من المسؤول؟ إذن، من يتحمل مسؤولية وقوع تلك الكارثة التي لحقت بأوروبا؟ وهل نلوم كافة القوى المشاركة في عام 1914 صغيرة كانت أو كبيرة بالقدر نفسه؟ وهل كانت الحرب بمثابة حادثة كبيرة مرعبة أسهم في وقوعها غباء جماعي، أم أنها كانت نتيجة سلسلة من الحماقات المتتالية التي بمجرد أن بدأت لم يمكن وقفها؟ وهل كان يُلقى باللوم على أحد حينئذ؟ . . دار «جدل كبير» حول هذه الأسئلة في الذكرى المئوية على اندلاع ذلك الصراع الملحمي، ومن الطبيعي أن تعود الصحف ووسائل الإعلام الأخرى إلى تناول الموضوع، وتلجأ إلى المؤرخين بغية المساعدة على فهم أفضل للأحداث. ولم يراود الدول المنتصرة في عام 1919 أدنى شك في أن القوى المركزية لألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية تتحمل اللوم، وأجبرت الدول المهزومة على الإقرار بهذه الحقيقة في «بند مسؤولية المذنب عن الحرب» بالمادة رقم 231 من معاهدة «فيرساي». وبرر هذا البند للحلفاء كافة الإجراءات العقابية التي اتخذوها ضد الدول المهزومة، مثل تغيير الحدود والاستحواذ على المستعمرات الألمانية وفرض تعويضات. وبالطبع، ليس من الغريب أن الدول المهزومة احتجت بأنه من غير المنصف إلقاء اللوم على طرف واحد فقط، وبحلول نهاية عشرينيات القرن الماضي، وبمساعدة بعض المؤرخين الأميركيين حسني النية، وإن كانت تعوزهم المعرفة، بدأت فكرة أن «الجميع كانوا ملومين»، أو «أن أحداً لا يتحمل اللوم وأن ما حدث كان جهلاً وأخطاء جماعية»، تكتسب تأييداً. وأدت الاعتداءات النازية إلى تغيير الآراء بشأن الألمان مرة أخرى ولكن هذا التغيير استمر عقداً واحداً. ولكن عندما أصبحت ألمانيا الغربية عضواً في حلف شمال الأطلسي «الناتو» بحلول منتصف الخمسينيات، بدأت مدرسة «الجميع مخطئون» تعود إلى السطح. ليست خطأ الجميع وربما يعتقد البعض الآن أن البحث الضخم الذي أجراه المؤرخ الألماني «فريتز فيشر» في كتابه «أهداف ألمانيا في الحرب العالمية الأولى» الذي نشره عام 1961، وتناول فيه تاريخ القادة الألمان قبل وأثناء عام 1914، قد نسف الإجماع على فكرة خطأ الجميع. ولكن في الحقيقة، تعيدنا مؤلفات مثل كتاب «الحرب التي أنهت السلام» للمؤلفة «مارجريت ماكميلان»، وكتاب «الماشون أثناء النوم» للمؤلف «كريستوفر كلاركس»، إلى «نظرية الحيادية». وعلاوة على ذلك، يظهر «جيوفري واورو» في كتابه «الكارثة الجنونية» و«سين ماكميكين» في كتابه «يوليو 1914: العد التنازلي للحرب» أن صناع السياسة البارزين في النمسا وروسيا كانوا أيضاً يتوقون للمواجهة واتخذوا كثيراً من الخطوات العقيمة. وعلى رغم ذلك كله، من المهم حقيقة في خضم هذا الجدل التاريخي أن نأخذ بعين الاعتبار الدور شديد الخصوصية الذي لعبته ألمانيا الاستعمارية في عام 1914، لا سيما أن هذا الدور يعني أنها تتحمل المسؤولية الأكبر بين القوى الكبرى عن اندلاع الحرب العالمية الأولى، وهو ما يمكن للقراء أن يحكموا عليه بأنفسهم. النمو الألماني وقد نمت القوة الاقتصادية والصناعة في ألمانيا بشكل كبير بعد حركة توحيد ألمانيا في عام 1871 تبعتها الحرب الفرنسية البروسية. وفي منتصف عقد 1890 استعملت حكومة «فيلهلم الثاني» هذا الأساس لتكريس موارد اقتصادية كبيرة لبناء البحرية الإمبراطورية الألمانية التي تأسست على يد الأدميرال «ألفريد فون تيربيتز» في منافسة مع البحرية الملكية البريطانية للتفوق في البحرية من بين دول العالم. ونتيجة لذلك سعت كل دولة إلى بناء السفن الرئيسية. وهناك سببان يجعلان من التحركات الألمانية مختلفة، ويتكشف أول هذين السببين من خلال المخاوف والخطط العسكرية التي وضعها قادة الجيش الألماني قبل الحرب وكيفية اكتشافها أثناء الحرب العالمية الأولى التي تعرف أيضاً بـ «مَدَافع أغسطس». فأثناء سنوات سباق التسلح المحموم قبل 1914، كان جميع قادة الجيش وجنرالات البحرية في أوروبا قد وضعوا خططاً عملياتية في حالة نشوب حرب. وبعض هذه الخطط كانت حمقاء بدرجة كبيرة، مثل خطة الإمبراطورية النمساوية المجرية، وبعضها كان متحفظاً بشكل كبير مثل خطة فرنسا الرامية إلى الحفاظ على قواتها في نطاق حدودها مع بلجيكا. ولكن في كافة الحالات، مع وجود استثناء واحد، كان المخططون العسكريون يعتقدون أن تعبئة جيوشهم رغم كونها خطوة خطيرة لكنها لا تعني إرسال الوحدات إلى معركة حقيقية. بيد أن خطة ألمانيا كانت مختلفة، لأنه بمجرد وصول نبأ التعبئة الروسية، كانت الخطة تنص على أنه لابد من البدء بغزو بلجيكا، وكانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي وجدت هيئة الأركان الألمانية أنها تمكنها من تطويق فرنسا في غضون ستة أسابيع، ثم العودة لمواجهة وهزيمة الجيوش الروسية المتباطئة في الشرق. واقتضت الضرورة العسكرية انتهاك حيادية بلجيكا المجاورة. استعراض القوة ولا تتوقف «خصوصية» ألمانيا في 1914 عند هذا الحد، إذ نعلم من السجلات السرية أنه في عام 1912، كان جنرالات الجيش الألماني قد اختاروا صيف عام 1914 من أجل استعراض كبير للقوة ضد التحالف الفرنسي الروسي. ولم يكن من الممكن الانتظار لما بعد ذلك، وأصر الجيش على أنه بعد ذلك الموعد سيصبح الجيش الروسي، سريع النمو، كبيراً بدرجة تجعل هزيمته بالغة الصعوبة. ولم يكن من الممكن أيضاً استعراض القوة قبل عام 1914 لأن توسعة قناة «كييل» الألمانية، الحيوية لاستيعاب سفن حربية أكبر وأحدث، لم تكن لتنتهي حتى ذلك الوقت. وما كان على وزارة الخارجية الألمانية إلا أن تجد أزمة مقنعة تكون سبباً في إظهار القوة . . وجاء اغتيال الأرشيدوق بمثابة هبة للألمان. وسرعان ما ذهبت معاهدات الحيادية طي النسيان! وصاغ جنرالات الجيش الألماني أنفسهم، وليست وزارة الخارجية، الإنذار النهائي لبلجيكا. وتم إرسال القيصر الألماني «فيلهلم متقلب المزاج في رحلة بحرية حول النرويج تفادياً لأي تصرف خاطئ من جانبه. وتم إطلاق العنان للمنادين بالحرب بمجرد أن وجهت روسيا أوامرها بالتعبئة. وبالطبع كان هناك احتفال شعبي كبير في كل مكان عند رؤية الجنود يتحركون في شوارع بلجراد وفيينا وسانت بطرسبيرج، لكن الجموع التي احتفلت بحماقة في تلك الدول لم تكن هي من صعّدت الصراع، وإنما المخططون العسكريون. ومن الملحوظ أن ألمانيا كانت لديها خطة ثانية في حالة اندلاع الحرب على جبهتين، وكان المخطط الكبير «هيلموث فون مولتكه»، قائد الجيش البروسي ـ الذي أصبح جيش ألمانيا بعد تأسيس الإمبراطورية الألمانية عام 1871 ـ هو أول من فكر في هذا الأمر. وكانت هذه الخطة الثانية تشتمل على عنصرين أساسيين هما الصمود دفاعاً عن الغرب وصد الهجمات الفرنسية المتوقعة من خلال نيران الرشاشات، ومهاجمة قوات الجيش الألماني لكافة قوات الجيش الروسي الزاحفة في الشرق، على أن تواصل القوات الألمانية استنزاف جيوش أعدائها لمدة عامين. ونظراً لأن هذه الخطة لم تكن تقتضي انتهاك حيادية بلجيكا، فكان يعني ذلك عدم إثارة الدول الضامنة لهذه الحيادية، ومن بينها بريطانيا، وعندئذ كانت حرب 1914 ستظل أوروبية، بين صربيا والإمبراطورية النمساوية المجرية وروسيا وألمانيا وفرنسا، وبعض دول البلقان الأخرى التي أرادت الانضمام لها. ولم تكن لتصبح حرباً عالمية. وعلى رغم ذلك، استبعد القادة الألمان في عام 1913 هذه الخطة الثانية تماماً، ولم يفكروا أبدا فيها. وبات أمام برلين خطة واحدة فقط هي شن هجوم في الغرب، حتى وإن كان سبب الصراع بدأ بعيداً في الشرق. وبالطبع لم يكن ذلك «مشياً أثناء النوم»! استدراج بريطانيا للحرب والسبب الثاني الذي يجعل من تحركات ألمانيا عام 1914تأتي في إطار خطة موضوعة سلفاً، هو أنها استدرجت الإمبراطورية البريطانية إلى الحرب، وليس هناك طريقة أخرى لوصف ما حدث؛ ذلك أنه بموجب المعاهدتين الدوليتين الموقعتين عام 1830 و1839، تلتزم بريطانيا بالدفاع عن حيادية بلجيكا بصورة فردية أو جماعية، ما يعني أنها كانت ملتزمة بالتحرك، حتى لو لم تتحرك الدول الأخرى الموقعة على الاتفاقيتين، وهو ما كانت ترنو له برلين. وقد انتقدت بعض المقالات لندن مؤخراً، مشيرة إلى أنه ما كان على لندن أن تندفع إلى أتون هذه الحرب، وتدع الأوروبيين الحمقى يتقاتلون حتى ينهكون إلى أن تتولى حكومة بريطانية قوية تسوية الأمور بين فرقاء القارة العجوز. وعلى رغم ذلك، يعتبر زعم أن لندن كان يمكنها البقاء في موقع المتفرج أثناء عام 1914 ضرباً من الخيال، ولا يمت بصلة للوقائع السياسية التي واجهت الحكومة البريطانية الليبرالية المنقسمة بقيادة رئيس الوزراء «هيربرت هنري أسكويث»، والتي تم استنباطها من تصعيد العداءات في أوروبا. لكن بحلول الأول من أغسطس عام 1914، كان على الحكومة اتخاذ قرار صعب في مواجهة اندلاع حرب عظمى (نابليونية) بسبب الأرشيدوق المقتول! وكان عليها الاختيار بين البقاء على الحياد بينما تجتاح الجيوش الألمانية الدول الأوروبية عبر بلجيكا، وربما صوب القناة الإنجليزية، أو خوض غمار الحرب. غير أن بعض الوزراء الليبراليين المتطرفين كانوا لا يزالون يعارضون الحدث، واستقال اثنان منهم. ولم يكن ذلك مهماً فعلى رغم تفكك وزارة «أسكويث» بسبب هذه القضية، إلا أن المحافظين كانوا متأهبين للانضمام إلى حكومة ائتلافية والمضي قدماً في الصراع حتى نهايته. وبذلك أصبحت الإمبراطورية البريطانية العالمية جزءاً من الصراع، محققة مراد ألمانيا. وبعد بضعة أيام، بدأت الاتصالات الألمانية بالعالم الخارجي عن طريق أجهزة«البرق» المستعملة آنذاك. وبدأت القوات الخاضعة لسلطان المملكة العظمى والكتائب الهندية البريطانية في التحرك صوب المستعمرات الألمانية في الخارج. وفي ناحية الشرق الأقصى، فعلت اليابان مثل ما فعلت بريطانيا، في ضوء التزامهما بمعاهدة تحالف. وفي غضون ذلك، تمت مصادرة السفن التجارية الألمانية، وفٌرض حصار اقتصادي عالمي على برلين. وسرعان ما تأثرت المصالح التجارية لدول شتى في أنحاء العالم. ولم يعد الصراع أوروبياً كما بدأ، حتى على رغم أن الجيوش الكبرى كانت تخوض الحرب في المدن الأوروبية مثل «جاليسيا» و«اللورين». وهكذا اشتد وطيس الحرب العالمية الأولى التي لم يبق فيها أحد على الحياد. وحتى بعض الدول التي نأت بنفسها عن الحرب لبعض الوقت مثل تركيا وإيطاليا وبلغاريا واليونان وحتى البرتغال دخلت الحرب طوعاً أو كرهاً. وكان ذلك قبل دخول الولايات المتحدة الحرب بثلاثة أعوام. ثغرات المؤرخين وفي خضم هذه التداخلات وانزلاق أطراف مختلفة في الحرب، وثبوت أن كافة الخطط العسكرية السابقة للحرب كانت مفرطة في التفاؤل بمجرد أن انزلقت الجيوش في المواجهة بالفعل، تأكد للجميع أنها ستكون حرباً طويلة ودامية. وفي هذا الأمر، ثبت أن الليبراليين البريطانيين كانوا محقين للأسف! وبالطبع، ثمة أحاديث وآراء كثيرة يمكن سردها عند التأريخ للحرب العالمية الأولى، مثل شخصية القيصر الروسية المتهورة على سبيل المثال، وإلحاح باريس المتواصل على موسكو، والمخاوف الاستعمارية البريطانية، لكن عند توضيح سبب تفاقم الصراع بشكل سريع وتحوله إلى حرب عظمى، لا ينبغي على المؤرخين تجاوز الخطط العسكرية التي أعدتها برلين قبل عام 1914، وكيف تكشفت تلك الخطط أثناء الصراع الدامي الذي أكل الأخضر واليابس وأسفر عن مصرع ما يربو على تسعة ملايين شخص قبل انتهائها في 1918. ويكاد المؤرخون لا يحسنون صنعاً لجمهورهم إذا ما تغافلوا عن هذه النقطة المحورية المهمة بالتركيز على الاندفاع الأعمى للدول الأوروبية صوب الصراع أثناء تلك الأشهر الصيفية المميتة. يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشيونال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©