الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

.. ولا في الأحلام

.. ولا في الأحلام
28 يوليو 2011 21:05
جئت إلى الدنيا لأجد نفسي في أسرة غريبة في كل شيء، أبي رجل نحيف ضعيف لا يبدو من جسده غير العظام التي تشكل هيكله كأنه عائد من الموت، مستكين دائماً يجلس تحت الجدار أو في ظل شجرة يتنقل معه حيثما استدار إلى أن تغيب الشمس، لم تعد له طاقة للعمل بعد أن أصابه الوهن، وأيضاً لم يعد أصحاب الأعمال يستأجرونه لأنه لا يؤدي ما يأملون منه، طوال يومه ينتظر السجائر التي ستأتي أمي له بثمنها، فهو لا يستطيع أن يقلع عنها، ومن ناحية أخرى يجد في نفث دخانها تخفيفاً عما يعتمل في داخله، فهو لا يخلو من مشاكل خفية لا يبوح بها، صحيح أنه لا يعرف إلا أسوأ أنواع التبغ لكنه راض به ويتمنى ألا يزول، ولا يعتزم الإقلاع أيضاً مع أنه قد يقضي معظم الليل ساهراً وهو يعاني السعال. أيام أبي رتيبة متشابهة لا تغيير فيها، ورغم المرارة التي في حلقه، فإنه لم يكن أبداً من الذين يميلون إلى الشكوى أو الضجر، وإنما يلجأ إلى الصمت ويتحدث مع من يجالسه في موضوعات شتى بعيداً عن أحواله وظروفه، من يراه يحسبه من الأغنياء من التعفف، ومن يسمعه لا يدرك أبداً أنه يعاني أي مشكلة ولو صغيرة، بينما هو مجمع من المشاكل والأزمات المزمنة والمتنوعة، ولا يعرف هذا إلا من حولنا. وأمي لا تختلف كثيراً عن أبي، غير أنها ما زال فيها بقية من صحة وجهد وتستطيع أن تعمل من قبيل الاضطرار فقط، فهي لا تخلو أيضاً من بعض الأمراض ولا تعرف للطبيب طريقاً بسبب ضيق ذات اليد، ولأنها لا تجد أي عمل يناسب قدراتها المحدودة وظروفها فقد لجأت إلى ما يمكن أن نطلق عليه نوعاً من التجارة، فهي تحمل بعض أنواع الحلوى الرخيصة على رأسها وتدور بها طوال النهار ولا مانع من التعامل بمثل ما كان يتم في العصور الحجرية، أي أنها لا تبيع ولا تشتري وإنما بطريقة المبادلة، فتحصل على البيض والحبوب كثمن لهذه الحلوى، ثم تبيع ما تتحصل عليه لتأتي بالمال القليل الذي تشتري به الاحتياجات الضرورية. أما أنا وأخواتي الثلاث فلا حول لنا ولا قوة، مكسورو الأجنحة، لسنا مثل غيرنا من البشر الذين في مثل أعمارنا، إننا ربما نكون من فصيلة أخرى، نخرج إلى العمل بالحقول في مواسم جمع المحاصيل الزراعية، بأجور هي أقرب للسخرة، لكنها كانت تسعدنا وتدخل على حياتنا تغييراً جوهرياً، إذ يستطيع كل واحد من أفراد الأسرة أن يشتري ملابس جديدة وإن كانت من أرخص وأردأ الأصناف، ومع ظروفنا تلك فإننا نلعب كثيراً، إما حول أبينا الجالس في الظل أو بجواره ونحن نصنع أشكالاً وتماثيل من الطين ثم نغضب عليها ونحطمها وننصرف لنبحث عن كسرة خبز جافة مما تركته أمي في الدار، والغريب أن الأطفال من أقراننا يحسدوننا على أننا نلعب ونلهو بينما هم يذهبون إلى المدرسة ويعانون الواجبات المنزلية والدروس ويتمنون أن يخرجوا منها مثلنا لينالوا حريتهم كاملة. وبمناسبة الدار فهي لا تحمي من حرارة الصيف ولا زمهرير الشتاء، مجرد بناء من الطين مغطى ببعض جريد النخيل والخوص ومخلفات الحيوانات، وهو غرفة واحدة ولا أدري لماذا يطلقون عليها مسمى دار، وعلى كل فيكفي من منافعها أن أبي يستظل بها، ونأوي إليها في المساء بعدما يحل الظلام الحالك، خاصة إذا كان الشهر القمري في أوله أو آخره، أما في الليالي المقمرة فيمكننا السهر إلى ما بعد صلاة العشاء بقليل، نجلس في حلقات نستمع من الكبار إلى الحواديت والحكايات الخيالية التي لا علاقة لها بالواقع، لكنها تخيفنا وتزرع في نفوسنا الرعب، وكنت أحياناً لا أنام إلا بعد الفجر خشية أن يأتي عفريت ويخطفني أو ساحر يذبحني ليقدمني قرباناً لحارس المغارة الجبلية التي لا تفتح إلا بعد إراقة دم طفل على بابها وهي تحوي كنوز الذهب والياقوت والمرجان، وكم تمنيت لو تكون هذه المغارة من نصيبي مع أنني لا أعرف مكانها، ومع أن كل ذلك مجرد أساطير، حتى أنني بالغت في أمنياتي وأحلامي بجانب ذلك أتخيل لو تزوجت من عروس البحر التي تظهر في المساء وتتزوج أول من يقابلها بغض النظر عن كل ظروفه، فهي ليست مثل الفتيات اللاتي نعرفهن ويطلبن فيلا وسيارة ورصيداً في البنك، ثم أفيق على أن كل ذلك ضرب من الجنون. ولماذا لا يكون كل ما يرد في بالي جنوناً، وأنا محروم من اللعب والتعامل مع الآخرين، لأنني فقير وهم أغنياء لأنني لست مثلهم وبيننا فوارق مثل ما بين السماء والأرض، بالطبع هم في السماء وأنا في الأرض، دائماً يعيرونني بأحوالي وظروفي، يرون أن الفقر عار، وأن العوز فضيحة، والحاجة إثم، وكل ذلك بحاجة إلى توبة وتطهر، لكن لا توجد وسيلة لفعل ذلك وحتى يتم لا بد من الفصل بيننا لأنهم لا يسمحون بأن نختلط ويرفضون ذلك. لكن الأكثر غرابة أنه مع كل هذه الظروف القاسية وجدت أخواتي من يطلب أيديهن للزواج، وهن بلا مال ولا جمال، وقد كان ذلك أكثر ما أسعد أسرتنا كلها وتحققت أمنيات أبي وأمي، وقد كان كل منهما يردد دائماً أنه يتمنى أن يرى الفتيات في بيوت أزواجهن، أما الحلم الأكبر فهو أن يريا أحفادهما الذين هم أبنائي، لكن هذا لم يتحقق، فقد رحلا عن الدنيا وأنا في العشرين من عمري أو تخطيتها بقليل. الآن أنا وحيد، لكن بلا مسؤوليات أو مطالب من أي نوع، لذا أشعر بالحرية والانطلاق أكثر من أي وقت مضى في حياتي، لا يهمني أي حادث فليس عندي نقطة ضعف، بل إنني أستطيع أن أتخلص من نقاط ضعفي السابقة وأنجو من العنصرية التي وضعنا فيها أهل بلدتنا. انطلقت في أرض الله أضرب فيها بحثاً عن عمل وأناس لا يعاملونني على أن الفقر نقيصة يحاسبونني عليها ويحملونني وزرها، تنقلت بين أعمال كثيرة لا أجيد معظمها، لكنها لا تكفي إلا لمتطلبات الحياة العادية، كانت ما بين العمل في المقاهي وورش إصلاح السيارات والمحال التجارية، وبعد ما يزيد على خمس سنوات اهتديت للعمل في سوبر ماركت صغير، كان صاحبه يعمل به نهاراً وأنا أعمل به ليلاً مقابل أجر يومي، إلى أن طلب أن أساعده في النهار لأنه الأكثر مبيعاً، وعندما لاحظ أمانتي واجتهادي وإخلاصي كان يترك لي العمل كله حتى أنني كنت أحياناً أعمل أكثر من ثماني عشرة ساعة في اليوم، فمنحني غرفة في البناية التي يملكها لأبيت فيها توفيراً للوقت والجهد، ولم يخل الأمر من بعض الطعام المطهو في البيت والذي حرمت منه منذ سنوات ولم أعرف مثله في حياتي. لم أطلب منه أجراً إضافياً، بل كنت لا أريد أي أجر فيكفيني هذا العطف الذي أراه منه والحنان من زوجته والطعام، حيث أصبحوا يعدونني واحداً منهم، فتأتيني الوجبات مع ابنته في مواعيدها أثناء عملي في المحل، ومع ذلك كان يعطيني أجراً يومياً مضاعفاً، حتى وإن كنت أقيم مجاناً وأتناول الطعام مجاناً، لذلك فقد كنت أدخر المبلغ كله لأنني ليس لي أي احتياجات أخرى، وقد انغمست في العمل وأعطيته كل وقتي وجهدي، ولا مجال للتنزه أو الخروج وأنا بطبيعتي لم أعتد ذلك وليس من احتياجاتي النفسية، لذا خلال عامين فقط كان بين يدي مبلغ مالي كبير هو في حد ذاته ثروة بالنسبة لي، خاصة أنني لم أر بعيني مثله من قبل. أما المفاجأة الكبرى والتي لم تكن أبداً حتى في أحلامي وفاقت ما كنت أرجوه عندما يذهب خيالي بعيداً بالتفكير في عروس البحر، لقد جاءني الرجل على حين غرة وعرض عليَّ الزواج من ابنته الوحيدة، الغريب أنه كان يغالب دموعه، بينما أنا قبل أن أجيبه سالت دموعي غزيرة والسبب أنني أرى أن العرض أكبر مني بكثير، وأنه لو عرف حقيقتي وظروفي سوف يتراجع، وأكون بذلك قد خسرت أكبر عرض في حياتي، ساد صمت طويل، اعتقد الرجل أنني متردد في القبول فواصل كلامه بأنه يترك لي الاختيار واتخاذ القرار بكامل إرادتي، إلا أنني كنت مثل الذي لدغته عقرب، خشية أن يتراجع، استجمعت شجاعتي وأخبرته - بأسلوب الاعتراف - عن تفاصيل حياتي وأنني مقطوع من شجرة ولا أحد لي في الدنيا غير أخواتي المتزوجات، ولست ذا مال ولا حسب ولا نسب، وبلهجة حاسمة قال يكفي أن تكون أميناً وأنا لا أريد لابنتي إلا رجلاً يحفظها ويكرمها ولا يهينها، نهضت وقبلت يده وأنا أعبر عن امتناني. تم إعلان الخطبة رسمياً ليعرف جميع الجيران، وبعدها مباشرة ترك لي الرجل مهمة إدارة السوبر ماركت كلية وتفرغ هو لإعداد عش الزوجة لي، وتكفل بكل النفقات كبيرها وصغيرها، بعد أن منحني بدلاً من الغرفة شقة كبيرة، وخلال أشهر تم الزفاف، وأنا غير مصدق أن هذا يحدث في الحقيقة وأخشى أن يكون حلماً وأخاف أن استيقظ منه فأصاب بالجنون، ومع مرور الأيام تأكدت أنه حقيقة وترك لي حماي كل أمور البيت والسوبر ماركت، وأنا بفضل الله ما زلت عند أقصى حدود الأمانة والمزيد من الإخلاص والحفاظ على المال الذي ينمو ويزداد، وهو يؤكد لي أنه في النهاية لي ولزوجتي وأبنائي، وبالغ الرجل في ثقته بي وقام بتحرير وكالة رسمية مسجلة لأتصرف بكامل حريتي، وأنا مع كل تصرف من تصرفاته لا أجد إلا الدموع لأرد بها. عشر سنوات مضت منذ أن رحلت عن بلدتي، ساقني الحنين إليها حتى وإن لم تكن ذكرياتي فيها سارة، قررت أن أعود إليها زائراً وأطمئن على أخواتي واستأذنت زوجتي وحماي وحملت لهن الهدايا، ولكن ساءني أن أجد بيت أبي وقد تحول إلى خراب فقررت على الفور أن أعيد بناءه على طراز حديث من المال الذي ادخرته، وأخبرت حماي بهذه الخطوة فرحب بها بشدة، وخلال ثلاثة أشهر انتهى البناء وأصبح مثل بيوت الأثرياء، وأتردد عليه باستمرار ولا مانع أن تحضر زوجتي وأسرتها للإقامة فيه لأسابيع عدة وللتواصل مع المكان الذي شهد طفولتي. تدرون أين المشكلة الآن بعد هذا كله، أن الناس في بلدتي لا يتقبلون أن يكون لي بيت أو يكون بين يدي مال وعيال، أنهم يستنكرون ذلك ويريدونني أن أظل في الفقر والعوز وتظل كل الفوارق بيننا، كما هي أو تتسع ليزدادوا ثراء وازداد فقراً، إنهم عندما يتحدثون عني يصفونني بأحقر الأوصاف، حتى كرهت بيتي من جديد وكرهت الحضور إلى هنا.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©