الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الطبخ.. طعم الاضطهاد

الطبخ.. طعم الاضطهاد
25 أكتوبر 2018 00:13

أسماء جزائري

إنّ فكرة جمع أشياء لا متناسقة ثمّ تحويلها إلى شكل لا متوقّع، هي في الحقيقة فنّ أكثر منه واجب في بلدان لا زالت لا ترى في الفنون إلاّ مضيعة للوقت، يضعُ الإنسان في قِدره ما يتصّوره خيالياً وينتظر تلك النتّائج التّي تختلف جذرياً عن المعطيات من حيث التّشكل لا الطّعم، فالفرق بين رسم لوحة وطهي طبق هي النتيجة التّي تصنعها الرّوائح، وبينما تعتمد الأولى على تسربها من العين تعبُر الثانية الأنف، الأولى تذهب إلى الذّاكرة أما الثانية بعد أن تعبُر الأنف كرائحة دخانية حقيقيّة، تعبر العين كرائحة فنيّة عند التقّديم المنمق، ثمّ يلي كلّ هذا توطيد الصّورة أو كسرها عبر حاسة التذوق التيّ تعتمد على الأكل.

نعم، نحبّ الطاولات المرتّبة بأطعمة منمقّة وهذا لا يعني أننا سنحبّ طعمها، وصحيح أنّهم يقولون أنّك تأكل بعينك قبلا، لكن في الأخير، إن كنت جائعاً فستأكل من فمك فحسب، ولهذا نتساءل: هل اقتصر اشمئزاز الإنسان وحبّه للأطعمة على فمه فحسب؟أم أن شفرة ذاكرته تتحكّم في منسوب اللّذة من عدمها؟ وماذا عن مذاق الضّغط الاجتماعي؟

الكائن الطبّاخ
لقد مرّ الطّبخ منذ العُصور القديمة بعدّة وجهات نظر دون أن يتخلّى عن ضرورته البيولوجيّة، وكان الإنسان بطبعه الملول يُجرّب في كلّ مرحلة إضافة جديدة ومركّبات ضروريّة لاستمراره، هو الكائن الوحيد الطّباخ، الكائن الذّي كان يأكل حتّى لا يموت، وأصبح يأكل ليستلذّ، لكنّه لم يستخدم فحسب حاستّه المسؤولة عن التّذوق، إذ لم يأكل الإنسان فقط عبر فمه، ولم يتذوّق بلسانه فحسب لأنّه مغمور بالعواطف والحنين والالتزام، كائن النوستالجيا، وبهذا سنحت لنا تلك الرّوابط بمشاهدة أغرب الأذواق، وهي تتموضع على رأس قوائمِ اللذة، فعرفنا أطباقاً جديدة يأكلها هذا الإنسان عن طريق العاطفة، مثل التّي تطبخها «الأم» وإن كانت سيئة، المذاق هنا لا يعني الطّبق، هو في انفصال تام عن «اللذيذ» بمفهومه كحاسّة مستقلّة بالقدر الذّي يربطه بمفهومه السيكلوجي كإحساس، ومن ثمّة ظهرت لنا الكثير من العواطف التّي أُدخلت في حياة الطّبخ، وفهمنا أن الذّوق ليس بقاعدة وحيدة يُسمح لنا من خلالها وضع قائمة عالميّة لما هو لذيذ وما هو غير ذلك، لأنّ الأمر في الأخير نسبيّ، فإن كنّا نرى في «الكسكس» الجزائري على سبيل المثال طبقًا لذيذاً فهذا لا يقتصر فقط على لذّته الذّوقية الطبيعية بل يتعدّاها إلى تراكمات العادة التّي اكتسبها بما يقّدم له يومياً، إنّها سلسلة كاملة لتكوّن تلكَ الشفرة: تاريخية، ثقافية، عاطفية وحتّى الاعتياديّة الأمر الذي لا يتواجد عند شخص أجنبيّ تقوم بدعوته لتناول هذا الطبق، فهو متحرر عبر عدم المعرفة، لذلك لن يراه سوى طبقاً عادياً لأنه خالياً من لذّة الفكرة عنه، ولا يملك شفرة خاصة عنه في ذاكرته، وبالضّرورة سيختلف مذاقك عن مذاقه.

تغليف فكري
وإن كنّا نأكل حتى لا نموت، فإنّنا أيضاً أكلنا حتى نمارس إرادة فكرة ما، الإنسان يفكّر أيضاً عن طريق الأكل، ويلتذ ّ بأطباقه أو يتقزز منها عن طريق أفكاره حتى وإن لم يكن مجرباً إياها، هنالك تغليفٌ للذّوق عن طريق الأفكار المتعارف عليها، فتحريم لحم الخنزير مثلا في القرآن الكريم أنتج مذاقاً دينياً تعرّض فيه الإنسان لتذوق الطبق بعاطفته الدّينية قبل لسانه، ومن ثمّة اكتسب هذا الشّعور في ذاكرته الذوقيّة، لأنّه المخلوق الذي يأكل أيضاً بعقله، فقد اعتقد الباحثون أنّ الخنازير كانت محرمّة في مصر القديمة استناداً إلى البيانات التيّ أطلقها هيرودوت المؤرّخ اليونانيّ في القرن الخامس ق.م، في أنّ أيّ مصري يلامسه خنزير لا بدّ أن يهرع مباشرة للارتماء في النيل للتّطهر، وأنّ المصريين القُدماء كانوا يعتبرون الخنزير غير طاهر، ولكن ما إن فكّ الباحثون المحدثون شفرة سجلاّت المعابد وواصلوا الحفريات الأثريّة حتى ظهرت الخنازير كجزء مهم من الغذاء المصري هذا على سبيل المثال، ومن ثمة فارتباط الطعام باللاّهوت هو ارتباط قديم صنع من خلاله طبقية غذائية؛ فهنالك أطعمة للآلهة وأطعمة للعامة وأطعمة محرمةّ، فالأدب السّومري مثلاً يعامل الحليب الطازج باعتباره شراب الطبقة الدّنيا، ربما لأنه غالباً يستهلك من حيوانات الرّعاة الذين ينصرفُون إلى القُطعان وآخرون يُقيمون خارج أسوار المدينة، ومع هذا قدّم الحليب أيضاً إلى الآلهة في أوعية شراب من المرمر لتتناوله في الفطُور في المعبد السّومري أوروك، ومن المفترض أنّ الحليب فقد اقترانه بالطّبقات الدّنيا حين صار يقدّم للآلهة ثمّ شمل سكان القصر والمعبد، والسّبب في هذا مجهول، ربّما لأن الحليب صار يأتي من حيوانات المعبد المكرسة لهذا الغرض بصورة خاصّة، لأنهم كانوا يعتبرون الماعز والأغنام ماشية صغيرة للطّبقات الوسطى، في حين لحوم الأبقار تسمى ماشية كبيرة وتتوافر في المعابد والقصور، كما أنّه بحلول الألفية الأولى قبل الميلاد بدأت بعض النّخب المصرية تنظر إلى السّمك باعتباره محرماً، وصار الكهنة بالذات يتجنّبون الأسماك باعتبارها انتهاكاً وإساءة للطّهارة القدسيّة، وربما لأنّ الأسماك أساءت للإله أوزوريس بأكلها قضيبه، بعد أن قتله أخوه أيزيس وقطع أوصاله.
الغذاء لم يكن بالعمُوم مستقلاً عن الاعتقاد والضّغط الاجتماعي، كان جزءاً أصيلاً وترجمة حقيقيّة لأفكار المُجتمعات التّي تحتاج دائماً إلى شجاعة اجتماعية كبيرة لإعادة توازنها تجاه الطّبيعة التّي قام الإنسان نفسه بتسييجها عن طريق تخبّطه ما بين الحلال والحرام، المقدس والمدنّس، واضعاً بذلك أعرافاً جديدة لا يمكننا إلاّ التخمين الجزافي للدّواعي التّي جعلته يقُوم بهذا الأمر، هل لأنّها لم تعجب مذاقه؟ هل لأنّه لم يستطع الحصول عليها؟ هل لأنّها في متناول العامّة بالاعتماد على أنّه شخص مُتعالي بالضّرورة ولا يمكنه الاستفراد بها لوحده؟ أم لأنّه مخلوق حرماني؟ أسئلة كثيرة لا حصر لها تؤكّد لنا أنّ الفرد هو مجموعة من الأخطاء الخرافيّة أكثر منه حلولاً فكريّة منطقيّة، ما تطلّب منه بعدها الكثير من التعرّض للخطر الاجتماعي الراّفض لتكسير تلك المفاهيم بمفاهيم علميّة جديدة، وذلك بخوض التّجربة وعدم الاكتفاء بالقواعد من بعيد إلى بعيد.

التمرد على المألوف
لكن هل يمكننا اليوم النّظر إلى المطابخ على أنّها حاجة فحسب؟
يقول جونثان سويفت:أولّ من أكل محّارة، لابدّ وأنّه شجاعاً.. تختصر هذه المقوُلة في باطنها أهميّة الخوض في اللاّمعروف «كسر القواعد، المغامرة الغامضة»، ومن ثمّة تذكّرنا بما قاله تشيخوف: «نحن لا نعيش لنأكل، بل لنعرف ما إحساس تناول الطّعام» كما تفصح لنا أيضاً عن عدم احتمال الإنسان للاعتياديّة ولو كان الأمر يتعلّق بالضروري، لهذا فالطبخ يعتمد على كلّ السّبل التّجريبية من معطيات تقدّمها الطّبيعة، ومن ثمّة تعرّف هذا الإنسان على ما يسمّى بالتنّوع من حيث الأطباق الذّي هو في الأصل تنوع للمصادر، التّنوع الذّي يحفزّنا على خلط أشياء لم نخلطها مسبقا للحصول على مذاق آخر، بمعنى الارتفاع إلى مستوى آخر من مخزوننا الذّوقي، فمعرفتنا للأذواق فرادى ومختلطة هي إمكانيّتنا الخيالية قبل التجريبية في صناعة النكهات، هكذا نمنحه المجال للخُروج من عالم الحاجات إلى عالم التفنن، وحين نتحدّث عن الطبخ كفنّ علينا العودة أولا إلى المواقد، إذ يرتبط الطبخ بالموقد الذّي بدوره ارتبط بطريقة تفكير وتطوّر نظرة الإنسان للحياة منذ اكتشف النار التّي بدورها كشفت له عن مفهوم اللذيذ والألذ، ويُرجع العلماء ذلك إلى ما قبل مليون سنة انطلاقًا من عثُورهم على بقايا موقد في كهف «وندرويك»بجنوب أفريقيا، لكن الإجماع يتبنّى أربعمائة ألف سنة من اكتشاف الإنسان الطهيّ على النار، وذلك يعود لاكتشافهم حفراً تحتوي على بقايا حطب محروق ممزوجة بعظام الحيوانات في الشرق الأوسط وأوروبا، ولم تكن قديماً هذه النواة»الموقد»إلا حفرة داخل الأرض ثم فوقها ثم اشترك مع الإنسان داخل غرف نومه، ومن ثمّة استقل بغرفة لوحده داخل البيوت، وأصبح غرفة تجاريّة كبيرة خارجها «المطاعم»، فالنّظر إلى هذا التغير هو بالمقابل النظر داخل تغير النظرة الثقافية للمطبخ، واستقلاله من الحاجة، ففي ثلاثينيات القرن الماضي بنى المعماري الأميركي «فرانك لويد رايت» بيتين كان المطبخ فيهما مفتوحاً على غرفة الجلوس ما يسمى بالمطبخ الأميركي، وإضافة إلى الحلول التقنية التي جعلت المطبخ المفتوح ممكنا جعلت مع هذا الممكن نضوجاً ملفتاً لثمرة تغير النظرة الثقافية له، لقد أُخرج من أطره التقليديّة إلى عالم أوسع ينظر إليه كنشاط إبداعي اجتماعي متخلياً بذلك عن ماهيّة «وظيفة أو خدمة»، ورحبت النساء خاصّة ربات البيوت بهذه المطابخ التي قللت من مسافة صبّ الطّعام والطاولة التي يُعرض عليها، وانتشرت المطابخ المفتوحة بعدها في الكثير من المطاعم، صحيح أنّ بعض المطاعم فتحت مطابخها على زبائنها حتّى تشركهم مسؤوليّة النظافة وخبرة الإعداد لكنّها أيضاً تريد بذلك تقديم ثقافتها والتباهي بالطرق الوطنية في فن الطبخ، وقد أدت فلسفة المطابخ المفتوحة هذه إلى نشاط كبير في صفوف حتّى المصمّمين الذين راحوا يبتكرون المعدات اللازمة ويضيفون تصاميم جديدة على المطابخ تنقلها بالضرورة على مستوى جمالي يليق برضا الرواد، فكان المطبخ المفتوح وراء تطور صناعة جديدة لم تكن موجودة قبل نصف قرن.

عبودية
وبدوره اهتمّ الفنّ التشكيلي بالمطبخ من أيام الإمبراطورية الرّومانيّة، إذ عثر في مدينة بومبايي الإيطالية على لوحة جدارية تعود إلى العام 70 تمثل ثلاثة أوعية في كل واحد منها على التوالي: فاكهة، سمن، حبوب، ولوحة موزاييك من القرن الثاني للميلاد في متحف الفاتيكان تمثل دجاجة، أسماك، وبعض الخضار استعداداً للطهي، رغم هذا يقول مؤرخو الفن أنّ المطبخ ظهر في الفن التشكيلي في أواخر القرن السادس عشر للميلاد ويعود هذا التاريخ إلى تاريخ تحوّل المطبخ إلى مصدر إلهام شبه دائم وجد فيه العديد من الفنانين انطلاقهم بداية من هولندا معمّماً بعدها في أوروبا ككل.
هل استطاع الأكل أن يكون فخاً نفسياً؟ هل الجوع البيولوجي وحده من يتحكم في أكلنا؟
نحن خاضعون للعواطف في زنازين مختلفة، ومهما تحرّرت المطابخ تدريجيًا من فكرة «غرف للاضطهاد» فإنّ الأكل يصبح شكلاً لذلك مع الوقت، يهرب الإنسان للأكل حينما تسوء نفسيّته، ويُصبح عبداً للأطباق حيث لا يهتّم بشعوره بالجوع بالقدر الذّي يهتم فيه بتعويض نقائصه من حب على وجه الخُصوص، فالدافع هنا انتقل إلى حالة مسكن سيكولوجي لإشباع العاطفة عن طريق إساءة تناول الطعام من خلال تفعيل وحدة الجهاز العصبي الودي للجهاز العصبي المستقل فتصاب الشهيّة بالاضطراب ونقع داخل فخّ الشراهة، ولا يتوقف العامل النّفسي عن توريطنا واضطهادنا، فقوائم المطاعم المعدّة من طرف خبراء نفسيين تخدعنا أيضاً، وتوهمنا بالحريّة المطلقة في اختيار أطباقنا، لكن الحقيقة هي أنها هي التي تضع أصابعنا على ما تريده لا نحن، ويقول تشارلز سبينس أستاذ علم الاجتماع بجامعة أكسفورد في هذا الخصوص: «حتى الإطار المزخرف حول قائمة الطّعام يمكن أن ينقل لنا رسائل مهمة جداً عن نوع التجربة التي نوشك أن نخوضها».

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©