الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاعر يتوجّع بعذابات الآخرين

الشاعر يتوجّع بعذابات الآخرين
27 أكتوبر 2010 20:45
لوحة “سيدات فرحات” للرسام باولو آكيكي بأقل عدد من الكلمات وببساطة آسرة تنزع قصائد الشاعر إيثلبيرت ميلر قبضة الألفة عن الأشياء من حولنا وتعيد لنا متعة الدهشة الأولى للاكتشاف من خلال إعادة خلق للعلاقات التي تربط بيننا وبين موجودات العالم وتفاصيل الحياة اليومية. الإنزياحات التي تحققها قصائد الشاعر ليست إنزياحات لغوية أو جمالية فقط، إنها إنزياحات وجودية بالدرجة الأساس تجعل من فعل القراءة مغامرة تدفع بوعي القارئ الى مستويات أعلى من التكثيف والرهافة. في قصيدة بعنوان “غصن يبحث عن كأس” نقرأ: “أنا غصن أجوف فبثي في الحب و انصتي الى الموسيقى ثم ارقصي”. يتحول العاشق الى غصن أجوف يجتاحه اليباس، والانثى هي الطبيعة بجمالها وبهائها وهي الوحيدة القادرة على بث الحياة في الغصن الأجوف ليتحول الى ناي يطلق موسيقى مبهجة تصلح للرقص والاحتفال. بهذه الكلمات القليلة يكتب الشاعر ملحمة الموت والحب والحياة. تعتمد هذه الدراسة على الترجمة العربية التي أنجزتها وصال العلاق لمختارات شعرية من قصائد الشاعر ي. أثلبرت ميلر والصادرة عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث (كلمة) عام 2009 بعنوان “في الليل كلنا شعراء سود”. ولا يبدو الشاعر مترددا أمام الخوض في مغامرة ترجمة قصائده الى لغة أخرى مع ماتتضمنه هذه المغامرة من إشكاليات على مستوى الموسيقى الشعرية والأصوات والدلالات الإيحائية والثقافية للمفردة الشعرية. يصرح ميلر في مقدمته للترجمة العربية لهذه المختارات، “أحيانا لا وطن لقصائدي، ولا مأوى، وفي أحيان أخرى، آمل أن توفر قصائدي ملجأ من العاصفة لمن يحتاجه. وحين تترجم القصائد الى لغة اخرى، فهي تكتشف شفاها جديدة”. وتأتي هذه النظرة الى طبيعة الترجمة الشعرية منسجمة مع الرؤية الإنسانية الشمولية عند الشاعر، والرغبة في تجاوز الحدود الضيقة للتجربة الشعرية على الصعيد الفردي والجغرافي والثقافي والإثني في محاولة لملامسة جوهر المعاناة الإنسانية بغض النظر محددات الجنس والعرق واللون. فهو يؤمن بأن “الحب لا يضيع أبدا عند ترجمته”. يعد الشاعر ي. أثلبرت ميلر من أشهر الشعراء الأفارقة الأمريكان المعاصرين. وقد أحدث شعره تأثيرا كبيرا على الحركة الشعرية في أمريكا وحصل على جوائز عديدة و”منح شهادة دكتوراه فخرية في الأدب من جامعة أموري أند هنري، ويشغل حاليا منصب رئيس مجلس إدارة معهد دراسات السياسات”. والقصائد التي ضمها هذا العمل المترجم هي مختارات من أعماله الشعرية للفترة 1986 ـ 2009. وفي مقدمة المترجمة وصال العلاق لهذه المختارات نجد توصيفا نقديا عاما لشعره: “لاينشغل شعر ميلر بضجة الحياة وهمومها فحسب، بل يصغي، أيضا الى الداخل وحنينه، وضعفه. إنه شعر يرتبط بشدة مع اليومي، والمحسوس، ليجسد الفكرة، والموقف الفلسفي من الحياة و البشر”. غير أن من يقرأ قصائد الشاعر قد لا يتفق مع ما تؤكد عليه المترجمة في مكان آخر من مقدمتها من أن ميلر “كثيرا ما يترك في نسيج قصيدته العديد من الفجوات، التي يبدو معها النص، للوهلة الأولى، غامضا وغير مترابط”. إذ أن شعر ميلر لا يتعمد الغموض ولا يتجه نحو التعتيم الدلالي الذي قد يقف أمام فاعلية التواصل الشاعري بين وعي المتلقي وعالم القصيدة. إن الفجوات التي تنتشر على جسد قصيدة ميلر هي ليست مساحات من العتمة بل هي مفاتيح دلالية تقترح على القارئ المشاركة الواعية في خلق المعنى الجمالي المقصود. إن قصيدة ميلر لا تمتلك حضورا كليا يتجسد على الورق من خلال اللغة والتراكيب والأنساق الشعرية، بل هي أقرب ما تكون الى مثير حسي يحفز الطاقات التأملية والحساسية الجمالية عند القارئ. وتقترح هذه الدراسة للمختارات الشعرية المترجمة للشاعر ميلر المنهج النقدي الظاهراتي، أو مايعرف بالفنومينولوجيا، كنوع من الاستجابة النقدية لطبيعة النص الشعري وما يفترضه من آليات التواصل والقراءة. إذ أن عملية الفهم في النقد الظاهراتي “ليس مجرد تقنية في القراءة، وإنما أيضا وظيفة عملية تتبدى في أخلاقيات التفاهم وفي السماع الشاعري للنصوص والفنون”. شعرية المفارقة إن من أبرز المضامين الشعرية التي تتصدر تجربة ميلر الشعرية الحس الإنساني العام ورفض كل أشكال الاضطهاد والقمع والديكتاتوريات الفاشية. يقول الشاعر في مقدمته للمختارات الشعرية “فإن شعري عالمي بطبيعته: أردت أن ألامس هموم الناس في السلفادور وتشيلي، ونيكاراغوا، وجنوب أفريقيا أيضا”. في قصيدة بعنوان “السلفادور” يصف الشاعر مايحدث هناك من خلال صور متتالية سريعة للموت المجاني: “هناك أصابع تطفو حيث كانت أوراق الشجر طافية ذات يوم، هناك ذباب صائم بعد أن اتخمته كثرة الجثث. حين يحل السلام ستمتلئ الأرض بالمزارعين لا بالجنائز”. وتظهر هنا شعرية المفارقة من خلال التناقض بين الاصابع التي تطفو وبين أوراق الشجر، والأرض التي ستمتلئ بالمزارعين لا بالجنائز. أنه التناقض بين فعل الحياة و بشاعة الموت. وفي قصيدة أقرب ما تكون الى الومضة الشعرية بعنوان “يتيم في بيروت” تظهر قدرة الشاعر العالية على توصيل شحنة شعرية عالية من خلال عدد محدود جدا من الكلمات: “بالأمس كان لي أم وأب بالأمس كانت لي يدان”. يتجلى البعد الجمالي للنص في ارتباط صيغة الامتلاك (لي) بالزمن الماضي من خلال مفردة (الأمس) والفعل الماضي الناقص (كان)، بينما يفتح غياب أي إشارة الى الزمن الحاضر أو المستقبل الأفق الدلالي للقصيدة ويفعل من طاقتها الإيحائية في التناقض الصارخ بين الماضي الذي جسد الامتلاك والاكتمال وبين الحاضر والمستقبل والذي يجسد فداحة الفقد والبتر. لاتجد القصيدة اكتمالها في كلماتها على الورق، بل هي تتشكل وتكتمل في وعي القارئ وتدفعه الى المشاركة الوجدانية للحالة الشعورية للمؤلف. إن هذه القصيدة تقف بقوة كإصبع إدانة موجه نحو تلك القوة الغاشمة التي سببت ذلك الفقد والبتر والمعاناة للأبرياء. وفي خضم هذا الحس الإنساني الثوري لا ينسى الشاعر الإشارة الى أوسع الرموز الثورية انتشارا في الثقافات السياسية والشعبية العالمية، وهو تشي غيفارا. ففي قصيدة “تشي” لا يستطيع الشاعر ان يتجنب رؤية وجه غيفارا في كل مكان من العاصمة البوليفية (لاباز): “أوتذكر لحظة توقفت لتلتقط أنفاسك؟ هل كان ذاك هو اليوم الذي، قررت فيه أن لا تنام أو تموت أبدا؟ هل تدرك أن الرياح لا تنسى قط؟ فوجهك في كل مكان”. حلم روزا ويمتلك ميلر رؤية شمولية لتفاصيل المعاناة الإنسانية أمام قوى الاضطهاد والقهر تتيح له القدرة على الربط الشعري بين قضايا متباعدة على صعيد الزمان والمكان ولكنها متداخلة على صعيد الدلالة والمضمون النضالي. في قصيدته “حلم روزا باركس”: “حلم يراود روزا باركس عن حافلة في مدينة القدس: هناك إمرأة دون رأس تشغل مقعدها، وليس من سائق اليوم لهذه الحافلة التي تطاير سقفها كله”. وروزا باركس هي سيدة أفرو أمريكية رفضت التخلي عن مقعدها في الحافلة لرجل أبيض فتعرضت للضرب والإهانة ثم السجن لفترة طويلة. أصبحت فيما بعد رمزا للنضال ضد العنصرية. إن التداخل الدلالي المقصود بين روزا باركس والسيدة دون رأس من القدس متأتي من وحدة الموقف والقضية. إن السلوك العنصري هو سلوك مدان بجميع حالته وأمكنته. وبنفس المهارة الشعرية يستحضر الشاعر مأساة أحد ضحايا العنصرية في أمريكا وهو الشاب أميت تيل الذي أطلقت عليه النار عام 1955 وكان في الرابعة عشرة من عمره لأنه صفّر لامرأة بيضاء مارة في الشارع. ويضعها في سياق تاريخي وسياسي مغاير ينتمي للاحتلال الأمريكي للعراق ومعاناة الأسرى العراقيين من الانتهاكات البشعة في سجون ابي غريب. “أنظر الى الصور في هذا الكتاب، فأرى نفسي وأنا أصفّر للمجندة المكلفة بالحراسة، تلك التي تشير بإبهاميها الى الأعلى، الحياة تابوت مفتوح حين نعيشها بعيون مغمضة”. ويتنقل الشاعر بين أسماء أشخاص وأماكن عديدة أرتبط جميعها بقضايا النضال والتحرر مثل مالكوم أكس في أمريكا وأوسكار روميرو في السلفادور وضحايا العنف في سيراليون وبيروت والقدس والعراق. غير أن الشاعر لا يستسلم لليأس أمام هذا العنف والقسوة المفرطة ضد الإنسانية، بل نجده يعبر عن نزعة فيها نوع من التفاؤل. ولايصدر هذا التفاؤل عن رؤية سياسية أو آيديولوجية، وإنما يصدر عن رؤية شمولية ذات أبعاد وجودية للحياة التي لايمكن لها أن تنهزم أمام الموت. ففي قصيدة “كانت ترتدي ثوبا أحمر اللون” يقول الشاعر: “في الصباح أرى الجثث ممدة على الأرض كقنان وعلب مرمية وعند الظهيرة يبدو كل شيء عاديا: تزدحم الشوارع ويعود الأطفال من مدارسهم والأمهات يذهبن للتسوق”. انفتاح ديني ومع هذا الحس الإنساني الشمولي الذي يتجسد شعريا في قصائد ميلر، نجده ينفتح أيضا على مختلف الديانات السماوية والروحية. فالشعر عنده كالدين له طقوسه وصلواته وله طاقته الروحية الهائلة التي تمكن الإنسان من الاستمرار في هذه الحياة. في قصيدة “صلاة”: “الشعر كالصلاة، كالضوء يرقص وسط الكلمات. أحاول أن أكتب خمس مرات في اليوم، وخطوة تلو الأخرى أتجه صوب المحراب”. يظهر واضحا الترابط الدلالي بين فعل الصلاة خمس مرات في اليوم وبين طقوس الصلاة في الدين الإسلامي. وفي أكثر من قصيدة يكرر الشاعر الإشارة الى الإسلام ويربطه دلاليا بقيم الحرية والإنسانية والمساواة. وغالبا ماتأتي الإشارة الى الإسلام من خلال التوظيف الشعري لشخصية مالكوم أكس، فيرد ذكر للقرآن والكعبة ومناسك الحج وشهادة (لا إله إلا الله) في أكثر من قصيدة. كما ترد الإشارة الى البوذية كديانة روحية تنبذ العنف والقتل وتعلي من شأن الروح الإنسانية، كما في قصيدة “بوذا برأسين” و”بوذا دون رأس” و”بوذا ينتحب في الشتاء”. ويؤكد ميلر سعيه للانفتاح على الجوهر الإنساني للحياة والوقوف الى جانب قيم الحرية والعدل والمساواة. فنجده يصرح، “لقد بذلت، وعلى مدى سنوات، جهودا واعية لازاحة الحواجز والحدود التي تفرق البشر. هناك الكثير من الموجهات التي تحدد مسار حياتنا وتقيدنا. إما ان نحيا أحرارا أو نموت”. وكشاعر أفرو أمريكي تحتل إشكالية الهوية واللغة والإزاحة من الوطن والمنفى الاختياري مساحة كبيرة من النتاج الشعري للشاعر. ففي قصيدة “بنما” يستحضر الشاعر تجربة المهاجرين الى أمريكا: “في أوائل العشرينيات جاء قارب بأبي الى أمريكا وقد عبر عن انطباعاته الأولى بالإسبانية وبمرور السنين، وعندما نسي اللغة لم يعد يذكر ماكان قد رآه حينها”. يجسد الشاعر استسلام المهاجر لنوع من القدرية التي تسيره دون إرادة منه في عبارة “جاء قارب بأبي الى أمريكا” ويتحقق نوع من التكثيف الدلالي في غياب (ال) التعريف عن مفردة قارب. كما أن انمحاء اللغة من الذاكرة يعني هنا انمحاء للذاكرة نفسها بما تحمله من أحداث وموجودات وأشخاص. إن فقدان اللغة الأم هو فقدان للهوية. وفي قصيدة رائعة بعنوان “محادثة إسبانية” يجسد الشاعر الحيرة الوجودية أمام ضياع الهوية القومية ويحاول مساءلة التقسيمات العنصرية في الحضارة الغربية الحديثة للبشر على أساس لون البشرة والعرق: “في كوبا، سألتني سيدة سمراء البشرة إن كنت من أنغولا أحاول أن أخبرها، وبما لا أجيده من الإسبانية، أنني أمريكي فتجد السيدة هذا الأمر صعب التصديق أحيانا، أشعر، أنا، بالشيء ذاته”. ويستفيق المهاجر من نشوة الحلم الأمريكي بالرفاهية والثروة على واقع لاإنساني بائس يسرق روحه ويحوله الى آلة بدون إحساس لتصبح حياته كومة من الغبار. هذا المشهد الشعري المكثف يحضر في قصيدة “عامل الصيانة”: “بعينين فارغتين يرفع ممسحته من سطلة الماء تتناثر القطرات هنا وهناك، ينظف المكان وحيدا في قاعة مستأجرة”. أميركا المنفى أمريكا كما تظهر من خلال قصائد ميلر هي ليست أرض الفرص والنجاحات التي يحاول الإعلام الامريكي أن يروج لها. إنها منفى قاس يجد فيه المهاجرون أنفسهم وقد سلبت منهم هويتهم ولغتهم وذاكرتهم، فيفقدوا فيها شعورهم بالانتماء ويتحولوا الى أرواح معذبة. في قصيدة “مدينة” تظهر تلك الصورة الجحيمية للواقع: “كلنا ضحايا الأحياء منا والأموات ندع مخاوفنا تفرقنا ونسمح لها بتلويث مالحق بنا من جروح، حتى في المدينة نفسها ندع صمتنا يتحدث بصوت عال جدا ونترك أصدقاءنا للموت وحيدين”. ومن البديهي أن تصبح الحياة الإنسانية مشوهة في ظل تلك الظروف اللاإنسانية. فتتفكك الروابط العائلية وينسحب الحب تدريجيا من البيوت حتى يتحول الأزواج الى أغراب والأبناء الى أعداء لا يحلمون إلا بفرص ترك المنزل والمضي بعيدا. في قصيدة بعنوان موحي “كيف ننام في الليالي التي تخلو من الحب” يتساءل الشاعر وهو ينظر ذات ليلة الى والديه وهما نائمان في غرفتهما عن سر موت الحب الذي جمعهما يوما ولم يعد يربط بينهما إلا التواجد في نفس المساحة المكانية: “كانا يبدوان وكأنهما غريبان نائمان في محطة باص أو على متن طائرة، ولا يمكنني تصديق أنهما كانا حبيبين يوما أغلقت الباب، كي أبقي أسرارهما طي الكتمان”. مع الوقت تنطفئ شرارة الأحاسيس وتتسرب الألفة من بين أفراد العائلة ليحل محلها شعور طاغ بخيبة الأمل، بينما تتهشم الأشياء والذكريات الجميلة ويتحول رباط الزوجية الى عبء روحي على الزوجين. نقرأه في قصيدة “المزهرية”: “ولذا، فليس الغضب هو ما أعتراني هذا الصباح: إنها خيبة الأمل فحسب هدية عرس أخرى قد كسرت شيء ماكان جميلا ذات يوم”. وفي محاكاة ساخرة للتفاصيل اليومية للحياة الزوجية يعبر الشاعر عن درجة كبيرة من البؤس العاطفي يبدأ بالهيمنة على أبسط مفردات الحياة الزوجية، مثل إعداد وجبة الإفطار صباحا. العنوان هو “فطور الأبطال”: “زوجتك بالمطبخ تنتظر تسخين وجبة أخرى من الشجار، وأنت لا ترغب في ذلك. تشم رائحة السنين المتعفنة، أم إنها رائحة أنفاسك وأنت تناديها بـ(عزيزتي)”. إن التبادل الدلاليين: عملية إعداد الفطور وطبيعة المشاعر الداخلية لكل من الزوجين، تعكس الحالة الانفعالية السلبية التي تطغى على علاقتهما ببعض. وتكشف القصيدة عن مهارة الشاعر في قدرته على التصوير الشعري الذي يمكنه من استحضار مشهد عادي من الحياة اليومية و توظيفه جماليا لتحقيق الأثر الشعري عند المتلقي. وفي قصيدة “خطاب الى زوجة من الورد” يحاول ميلر خلق نوع من التوازن في رؤيته للحياة الزوجية. فيعمد الى إسقاط أسباب كل ذلك الجفاء والتصحر العاطفي بين الأزواج على ظروف الحياة القاسية والتي تبدو كعاصفة ترابية تضرب الحياة الزوجية وتسرق منها بريق الحياة: “عزيزتي، إن آلمتك رياح قلبي، فليس من سبب لذلك إلا هذه الرحلة الترابية. لا تفقدي أوراقك الصغيرة من أجل الحب فالشمس والمطر سيرقصان ذات يوم”. لا يتخلى الشاعر عن الأمل لصالح اليأس، ويظل محتفظا بمساحة للفرح تنتظر في المستقبل، فعبارة (ذات يوم) تخفف من قساوة الواقع وتجعل الإنسان أكثر قدرة على الاحتمال. ويبقى للحب مساحة خضراء في عوالم ميلر الشعرية. وهو القوة العاطفية التي تجعل الحياة في ظل الحضارة الحديثة محتملة. ففي إحدى قصائده، وهي قصيدة بلا عنوان، يقول: “إن كان لابد لي أن أتعذب وأعيش وحيدا بين أطلال مدينة ضائعة أو منسية، فلتكن مدينة عرفت حضارة حبك”. والحب مغامرة اكتشاف متجددة بالنسبة للشاعر، كما إنها تجربة ذات خصوصية عالية تجمع بين إثنين في عالم من الدهشة والسحر. الحب هنا هو حالة من الاتحاد الروحي الذي يجمع بين ذاتين في روح واحدة ويكون هذا الاتحاد مصدرا لسعادة غامرة. “لنقل إنه السحر ولتتملكنا الدهشة لان هذا الاكتشاف، أعني حبنا هذا، لم يسبق ان رآه أحد”. ويبدو ان الشاعر عندما يتحدث عن الحب يغرق في رومانسية مثالية يتم تصعيدها بصورة قصدية تحاول أن تأكد، بطريقة غير مباشرة، على عدم إمكانية تحقق مثل ذلك الحب الروحي في واقع لاإنساني يسحق الفرد ويصادر روحه ومشاعره ليتحول الى “إنسان ذو بعد واحد”. يقترح الشاعر على ذلك الانسان أن يتسامى بعاطفته ويرتفع بروحه بعيدا عن هذا العالم. في قصيدته “زوجة من الورد”: “سر ساميا جد لنفسك زوجة من الورد وتزوج بشذاها”. ومن معرفتنا للطبيعة الحسية لقصائد الشاعر ميلر ونزعته الواقعية التي تتجسد في كتابته لقصيدة التفاصيل اليومية القصيرة والمكثفة، يمكننا القول ان الشاعر هنا يخفي نوعا من السخرية والتهكم على ذلك النوع من الشعر الرومانسي الذي يقترح على الإنسان حلولا مستحيلة ويطلب منه أن يتجاوز محددات عالمه المادية نحو حالة من التسامي غير الحقيقية. إن المضامين الشعرية التي احتوتها التجربة الشعورية والإدراكية للشاعر ميلر يمكن ان نعثر عليها عند العديد من الشعراء. فالحس الإنساني الشمولي وإشكاليات الهوية والهجرة والتفكك الأسري والحب، كلها من المواضيع الأساسية التي عالجها الشعر الحديث والمعاصر. إلا أن ماميز تجربة ميلر الشعرية هو نجاحه في التحرر من النزعة الخطابية والموقف الآيديولوجي والحس المأساوي ونزعة المبالغة في التعامل مع تلك المضامين. فميلر يكتب شعرا يتسم بالبساطة والوضوح ويبتعد عن الإطالة والاستطراد، ولكنه يكتسب شاعريته من قدرته العالية على الكشف عن تناقضات الوجود الإنساني على صعيد الحياة اليومية واستحضار خيبات صغيرة يحاول الإنسان إخفاءها بعيدا في اللاوعي ويتعمد تجاهلها. إن العملية الحوارية التي تقوم بين وعي المتلقي وبين نصوص ميلر تجعل هذا المتلقي يقف وجها لوجه مع كل تلك الخيبات والإخفاقات دفعة واحدة ليتحمل مسؤوليته عنها وليتخذ موقفا ما منها. إن الشاعر يتجنب أن يملي علينا حلولا معينة لتلك الإشكاليات، فهو لا يفترض لنفسه موقعا فكريا أعلى من قارئه. فلكل منا خصوصيته التي تميزه عن غيره. غير أن المواجهة للمشكلة تمثل نصف الطريق الى الحل. * ألقيت في أمسية نقدية نظمتها جماعة الادب في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ـ أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©