الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عمَّ أتحدث حين أمشي؟

عمَّ أتحدث حين أمشي؟
27 أكتوبر 2010 20:58
الأربعون عاماً مرّت علينا كما تمر الجبال التي تحولت إلى سحاب، مرّت الأربعون عاماً وها نحن الآن نتدحرج إلى الهبوط النهائي نحو القبر ومفارقة الأحبة والديار والحياة، غير مؤملين من هذه النهاية غير صيانة أرواحنا عن مزيد من التشطي والتهشيم، وغير طامحين إلا بالمحافظة على أرواحنا قريباً من الموقد الكوني، وبين أدوات الصقل وأنوار المخيلة كي تمضي أيامنا الأخيرة، وهي حية بنا ومملوءة ومتدفقة. ينبوعية وقادرة على طيشان النوافير، وانبثاق دم الحيوية، والإشراق الذي ينتاب الأمواج، والبروق التي تهز قلوب الأحجار. الأربعون عاماً مرَّت علينا، وحين نجلس نحن الذين تخطينا هذا الصعود، وشرعت الأيام بالنزول فينا إلى وهدة النهاية، ونتذكر صبانا، فإن أكثر ما يلح على بالنا، كما لاحظت، هو المشي الكثير الذي صاحب طفولتنا مقارنة بهذه البلادة والكسل وانعدام الحركة الذين تعيشه حياتنا اليوم. لم نترك في صبانا سواحل بحر لم نقطعها طولاً وعرضاً، ولم تعرفها أقدامنا رملاً رملاً، ولم نصافح أمواجها موجة موجة، ونطارد نوارسها ظلًا ظلًا، وتنزعج منا غربانها، وتكاد تهترئ تلالها من ذهابنا ومجيئنا على رملها الملتهب. ولم نترك جبلاً لم نُزعج الغفوة العظيمة التي يعيشها رأسه، ولم نتدل كالأشجار على وديانه، ولم نفتت صخوره الصلدة إلى حصوات تكاد خطواتنا أن تنزلق معها إلى مهاوي السحيق...، كما لم نترك سكة من دروب طفولتنا لم نغشاها كالصبيان وكهبَّات الريح وكالمجانين والعميان والفاتحين. لم نترك حياً مجاوراً لنا أو غير مجاور لم ننتهك عرض جهلنا به.. حمارة القايلة لم نترك شيئاً نراه حتى نصل إلى أقصاه.. نمشي ونمشي وكأننا نمشي نحو الأبد. بالأفكار أم دونها، وأبداً علاماتنا الأسئلة العذراء والأحلام الغامضة ونداءات دواخلنا السرية. خاصة وان مشينا ذاك كصغار كان محمَّل بأساطير الموانع والتخويف، ونصدَّق فعلاً أننا في الظهيرة قد نصادف “حمارة القايلة”، فيفكر الشياطين منا بركوبها، أو أننا سنجد الجنية ملتفة بعباءة الظل السوداء تحت شجرة “الأشخر”، فنسلم عليها ونذهب إلى خواتيم سبيلنا، أو ينسكب الظلام على ساحل البحر فتخرج لنا الجميلة الساحرة العظيمة “أم الدويس” وتقص بمنجلها ما لم ينمو بعد، فنخاف على تلك الحرارة التي بدأت تتكاثر في أجسادنا، ولكن من قال إن تلك “الأم” ستكون أذكى منا، سندخلها كما تدخل القوارب البحر، فنحن صغار في النهاية، والطفولة تحرسها عناية النجوم. ولكن المشي وقتها كان مخلَّفاً علينا، والكبار يمشون، يمشون كثيراً، يمشون طوال حياتهم آباء شباناً أم عجائز، رجالاً أو نساء يمشون ويعبرون النهار، وإذا اضطروا يمشون كل الليل. وثمَّ مثل شعبي لدينا في المنطقة يقول بما معناه “تغذ وتمدد، وتعش وتمش”. السهرات من هنا نوع من المشي وحين نتذكر أنا ورفاقي آباءنا، وإنهم قالوا لنا ـ على سبيل المثال ـ بأنهم مشوا من خورفكان إلى كلبا أو من الرمس إلى الجزيرة الحمراء (ما يقرب من العشرين كيلومتراً) أو من أبوظبي إلى العين، أو من العين إلى دبي (ما يزيد على المئة كيلومتر)، فإن استغرابنا ودهشتنا المعاصرة ينبغي أن تصدقهم. لقد كانوا يفعلونها حقاً. يمشون ويضيعون، ويمشون ويعرفون أنهم لن يضيعوا لأنهم يعرفون المشي مرتبط أبداً بالمعرفة والتفكير. تمشي وتفكر. تفكر بطريقة ليس بمستطاعك أن تفكر بها وأنت جالس. بإمكانك طبعاً أن تفكر عميقاً وأنت جالس، ولكن الصور الفوتوجرافية التي تظهر الأشخاص الجالسين وكأنهم يفكرون بعمق صور أقل ما يمكن قوله عنها إنها دعائية أو شعاراتية وغالباً ما تصور كتّاباً أو مفكرين وقد انتاب تفكيرهم السكون، إذ عند المشي يتحرك تفكيرك كما يُخضّ اللبن، ويتعمق كأس الشاي مع رقص الملعقة الصغيرة، أو كأن التفكير يمشي كما تمشي الأنهار في منحنيات البسيطة، أو الدم في شرايين الأجساد. ومتأخراً وقبل سنين قليلة تعرّفت إلى الروائي الياباني هاروكي موراكامي حين قرأت له رواية “غرب الشمس، جنوب الحدود” وهي رواية قصيرة مقارنة بروايته الأخرى الكثيرة الصفحات: “كافكا على الشاطئ”. وبعد أن انتهيت من “غرب الشمس، ...” انتابتني أحاسيس رقيقة ورقراقة ولكنها متداخلة ومتمزقة. وهي أحاسيس تراود قراء موراكامي الذين يقفون، كما يكتب أحد الصحافيين “أمام مزيج غريب من الواقع والفانتازيا في تركيبة تغري على المضي في القراءة سعياً وراء ما لا يمكن توقعه، كما أن ثمة ذلك الخلط المربك بين الذاكرة والوهم وتغلُّف العالم الواقعي، الفيزيائي، بغلالة من التأمل الميتافيزيقي”. ويكتب ذلك الصحفي (نزار أغري، هاروكي موركامي بين الركض والرواية، جريدة الحياة اللندنية، 25 مايو 2010) بمناسبة الاحتفاء بواحد من كتب موركامي الجديدة، والذي يترجم عنوانه كالتالي: “عمَّ أتحدث حين أتكلم عن الركض”. ولقد سألت احد أصدقائي المترجمين فقال إن العنوان أقرب ما يكون إلى “عم أتحدث حين أتكلم عن المشي”، أو الأقرب: “عم أتحدث حين أتكلم عن الهرولة”؟. حياة راكضة وفي “عمَّ أتحدث ...” يسرد الكاتب، أي موراكامي، و”بشاعرية وتشويق... جوانب من الحياة التي عاشها والمحطات التي صقلت شخصيته”. فهو الذي بدأ في نادي للجاز حيث كان يسجن نفسه كل مساء مع رواد غرباء (تحضر هذه المرحلة وبإلحاح في رواية: غرب الشمس...)، انتهى به الأمر كما يواصل الصحافي القول “كاتب يقرأه الناس في أربع زوايا الأرض. ثم انه انطلق من مستقره الياباني البعيد (هوركامي من مقاطعة كيوتو في الجنوب الياباني القصي) وأخذ يطوف العالم ارتحالاً وركضاً (بالمعنيين الرمزي والفعلي للكلمة، كما يعلَّق الصحافي) حتى وصل إلى اليونان ليشارك في الماراثون (لا اعرف هل هذا مجاز من الصحفي، أم أن هوراكامي فعلها حقاً) ويركض على درب ذلك الإغريقي الذي ركض، والهلع يلحقه لينذر السكان من غزو الفرس”. المشي في الداخل يدعو إلى المشي في الخارج، وكذلك المشي في الخارج يبدأ بحبو إلى الداخل، ثُمَّ يهرول المرء ويركض وينطلق. وبظني فإنَّ الصحفي جاء على ذكر الإغريق لأنه في كذا موقع من أدبهم وفلسفتهم ربطوا بين المشي والتفكير، وبظنَّي كذلك، وفي البدء، يربط هوركامي بين تعب الجسد أثناء المشي وتعب التفكير أثناء الكتابة، التفكير يمشي أثناء الكتابة، كما يكتب الجسد خطواته أو ظلاله أثناء المشي. وفي المشي صعود وهبوط كما في التفكير والكتابة. تصعد إلى الأعالي ولكنك بمجرد ما ترى نفسك في الأعالي تنتابك البهجة، وتنزل إلى القعر، وثمَّ قعور لا يراها أحد، ولا يعثر عليها إلا الندرة ممن صعد وسقط، وواصل الصعود كما واصل الهبوط إلى أبد الأبدين. وإذا ما أحلت تفكيري أو تفكير هوركامي على المرجعية الغربية كما يفعل الصحافي. فإن مفتاح هذا الرمز هو السيزيفية. فالسيزيفية تحدث على الشوارع المعبدة، وليس في الجبال دوماً. وعند موراكامي تعب الذهن في الكتابة يوازي (كآخر مستتر) تعب الجسد حين يركض، فـ”كيف يمكن صفحة بيضاء أن تكون سهلة ثم تظهر كأنياب قاتلة، وكيف يمكن تلة صغيرة أن تبدو سهلة البلوغ في الحالات العادية، فيما تظهر وكأنها جبل عملاق عصي على البلوغ بعد مشوار طويل من الركض” (أو المشي). ... المشي كما يريد موراكامي القول، حسبما فهمت، “يعينُ على التأمل والحفر في الأعماق لاستخراج ما هو مدفون، فكأن الركض (= المشي) ريح عاتية تُزيل الطبقات الراكدة على الروح وتعريها”. وكما أن الجسد يرفض أحيانا الخضوع لإرادة الماشي (= أو الراكض) “فيتظاهر بالتعب وعدم القدرة” على المواصلة، فيخوض ذلك الفرد ضد (= أو باتجاه) جسده” غمار صراع طويل مع العضلات، يحاورها، يسعى في إقناعها، يأمرها، يهددها ويجبرها على الانصياع. يخبرها انه هو السيد”. وكذلك يكون حال الكتابة: “تأبى اليد أن تمسك بالقلم، يأبى الذهن أن يأتي بالعبارات والتعابير، يأبى الخيال أن يأتي بالصور والتراكيب، غير أن الكاتب يقرر أن يكتب ويمارس سطوته قائلا للكل: أنا السيد هنا”. ثم إن لتاريخ ما مشيناه، على الأرجح، أهم من تاريخ ما جلسناه. وكما يمشي المرء بلا هدف، فإن موراكامي بدأ بالكتابة “من دون أن تكون لديه فكرة واضحة وناجزة عما سيكتبه، وهذا ما يسره في الكتابة. هو لا يريد أن تكون الأشياء حاسمة ومنتهية منذ البداية. ذلك أن قيمة النص الروائي تكمن في الأساس في سيرورة الكتابة لا في النص نفسه. ولو أن الكاتب يعرف ما سيكون عليه النص سيغدو الأمر مملاً ولن يكون ثمة حافز كبير للكتابة. الأشياء والأشخاص تنهضُ وتبرز من تلقاء ذاتها في دأب الكتابة. فالكتابة هي الحكاية غير المنتهية لكل واحد منا، ومن دون حكايات ستكون الحياة مملة وثقيلة، ذلك أنَّ البشر يعيشون من أجل أن يرووا الحكايات، ويسمعونها”
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©