الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الذاكرة والعقاب

27 أكتوبر 2010 21:00
يحدّثنا ابن قتيبة في “الشعر والشعراء” عن الكيفيّة التي رحل بها عمر بن أبي ربيعة عن الدنيا فيذكر أن عمر بن عبد العزيز “سيّره إلى الدهلك فغزا في البحر فأحرقوا سفينته فاحترق”. أما الأصبهاني فيذكر أنه تشبّب بامرأة شريفة فقال فيها: الرّيحُ تَسحَبُ أذيالاً وتَنشُرُها يا ليتَني كُنتُ مِمَّن تَسحَبُ الريحُ كَيما تَجُرَّ بنا ذيلاً فتطرَحنا عَلى التي دونَها مُغبَرَّةٌ سـوحُ فقالت المرأة “اللهم إن كان نوّه باسمي ظالما فاجعله طعاما للريح”. ثم كان أن عمرا غدا يوما على فرس فهبّت ريح فنزل فاستتر بسلمة فخدشه غصن منها فدمي وورم به ومات من ذلك. كان عمر شاعرا غزلا مولعا بالحسن يتبعه. والحسن هو الذي دفع به إلى كسر الأعراف. كان محبوباً خَلَبَ عقول الناس بشعره وظرفه. وكان مدانا لأنه تخطّى حدود الممنوع. ويبدو أن الذاكرة الجماعية قد حرصت على إبقاء هذا الالتباس حين نسجت الفصل الأخير من حياته. ههنا بتنزّل الخبر الذي يلحّ على أنه إنما مات غرقا وحرقا فلقي مصرعه بأشدّ العناصر إتلافا وهي النار والماء. وهذه نهاية تليق، لشدّة عنفها، بشاعر انتهك الحرمات. أما الخبر الثاني فيذهب إلى أنه مات بأشدّ العناصر رقّة أي بخدشة غصن أوقعته ريح. وهذه نهاية تليق بشاعر غزِلٍ جسّد هشاشة بني البشر. والناظر في هذه النهاية الفاجعة يدرك أنها تتماشى مع الحكايات التي نسجتها الذاكرة الجماعية حول الحبّ والعشاق. وسواء نظرنا في أخبار قيس بن الملوح أو في أخبار وضاح اليمن أو في كتب مثل كتاب “مصارع العشّاق” وكتاب “طوق الحمامة” و”ألف ليلة و ليلة” وكتب السير وكتب التصوّف والأخبار فإننا نجدها ترسم للحبّ صورة مأهولة بالضنى والوجع والحرقة واللوعة. والحبّ في هذه المؤلفات جميعها كثيرا ما يقترن بالجنون ويمضي بحامله قُدُمًا الى حتفه. وبذلك ينفتح مفهوم الحبّ نفسه على أبعاد رمزيّة ويلتحف بتلاوين الرمز وكثافة الرمز. إنه تعبير رمزي عن قدر الكائن في مواجهة رعب الوجود لأنه تجربة تضع الكائن في محاذاة الموت وبإزاء العدم. فلقد أهدر دم جميل بثينة مثلا وأهدر دم قيس بن الملوح وقُبر وضاح اليمن حيّا. إن حكايات شعراء الغزل وقصص العشاق إنما تمثّل لحظة صراع بين خطاب جماليّ تجسده الحكايات بأحداثها، وخطاب أخلاقي يعمل لايكلّ. وهو خطاب يصدر عن وعي حاد بأن الحب ذا طابع انشقاقي. إنه هوى جارف وانفعال لجوج. وهو، من جهة كونه هوى، يمكن أن يجمح بحامله ويزيّن له الخروج على قيم المجموعة وسلطة الممنوع. لذلك أجمعت كتب تاريخ الأدب التي عنيت بشعر عمر على أنه مثل السّحر يسلب المرء إرادته ويخلب عقله. وتعدّدت الأخبار التي تحذّر منه. ولذلك تفننت الذاكرة الجماعية في نسج نهايته نهاية ملتبسة تجمع إلى الفظاعة والعنف الرقة والهشاشة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©