الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كيسنجر يتنبأ بحالة العنف غير المسبوق حول العالم

كيسنجر يتنبأ بحالة العنف غير المسبوق حول العالم
6 فبراير 2010 20:10
هنري كيسنجر لم يكن مجرد وزير لخارجية الولايات المتحدة الأميركية ولا مستشار للأمن القومي لها، فهو لم يكن مجرد منفذ لاستراتيجيات ومخططات وضعها من هم أعلى منه في سدة الحكم الأميركية، بل كان واضعاً وموجهاً لتلك السياسات بفضل ما امتلكه من حنكة سياسية جعلته واحداً من أشهر الساسة الأميركيين عبر العصور. عندما يخط وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر مذكراته في كتابه “هنري كيسنجر: سنوات التجديد”، فعلى كل من له اهتمام بالوضع السياسي في العالم بصفة عامة، وبالكيفية التي تجري بها الأمور داخل أروقة السياسة الأميركية تحديداً، أن يقرأ الكتاب بروية وتمعن، علّ ذلك يتيح له معرفة مفاتيح السياسة الأميركية التي ما فتئت تؤثر في مجريات الأمور في بقاع المعمورة من أقصاها إلى أدناها. ويبدأ كيسنجر كتابه بالحديث عن عهد نيكسون الرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية والتي انتهت ولايته بفضيحة ووترجيت التي أطاحت به وسلمت رئاسة أعظم دولة في العالم إلى سياسي لم يكن له نصيب كبير من الدراية السياسية، ولا الكاريزما التي غالباً ما يتمتع بها من يتبوأ مثل هذا المنصب، على الرغم من كونه نائباً للرئيس الأميركي آنذاك وهو هنري فورد. ويعمد كيسنجر إلى تحليل الكيفية التي أوقع بها نيكسون نفسه في فضيحة ووترجيت، رغم كونه، وفقاً لكسينجر، واحداً من أكثر الرؤساء الأميركيين ذكاءً وخبرة بمقدرات السياسة الداخلية والخارجية على حد سواء، بيد أن ثقته العالية في نفسه هي التي أوقعت به في ذلك المأزق الذي قضى على مستقبله السياسي. حوارات وآراء من عهد نيكسون وانحسار الأضواء عنه، ينتقل المؤلف إلى جيرالد فورد الذي تولى الحكم في ظروف خارجية وداخلية صعبة ومتشابكة العلاقات والمشكلات، وهو ما جعل كسينجر على غير توقع منه يقوم بأدوار كان لها الفضل الأكبر في توجيه السياسة الأميركية خلال تلك الفترة، وذلك عبر النصائح والآراء التي كان يوجهها إلى هنري فورد عبر حواراتهما المتعددة، ولم يكن أمام هنري فورد غير التسليم بأي من هذه الخيارات، كونها تصب في المصلحة القومية الأميركية بغض النظر عمن هو قائلها سواء كيسنجر أو غيره. ويستعرض كيسنجر أولى هذه الأزمات التي واجهت فورد في الأسبوع الأول من توليه الحكم وهي الأزمة القبرصية، وتمثلت في انقلاب عسكري قام به بعض القادة العسكريين الموالين لليونان في قبرص في العام 1974 على المطران مكاريوس، من أجل السيطرة على جزيرة قبرص التي كانت تشهد نزاعاً بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين، وهذا الانقلاب أثار حفيظة تركيا، مما حدا بها إلى التدخل العسكري لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب، وهذا التدخل كاد أن يفضي إلى حرب بين اليونان وتركيا، اللذين يمثلان الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلنطي “الناتو” وإذا ما نشب صراع عسكري بين كلتا الدولتين، فالأمر يمثل كارثة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي، كون هذا يؤدي إلى الإخلال بأمن قوات المراقبة وإطلاق الصواريخ تجاه للاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، فضلاً عن أنه سيتيح فرصة ذهبية للاتحاد السوفييتي للتدخل في هذا الجزء الحيوي من أوروبا الغربية، ومن ثم سيؤدي إلى حدوث شقاق مدمر في حلف شمال الأطلنطي ومن ثم في قدرة الولايات المتحدة على المواجهة مع العدو التقليدي المتمثل في الاتحاد السوفييتي ومعه دول الكتلة الشرقية الخاضعة له. الإمساك بالخيوط عبر إدارة الأزمة القبرصية ونجاح كيسنجر في الحفاظ على الوضع القائم بها وإبقاء الولايات المتحدة الأميركية على علاقة قوية ومتوازنة مع كل من اليونان وتركيا حليفتها في حلف الناتو، والخروج من هذا المنزلق بسلام، تظهر واحداً من المواقف العديدة التي بينت بجلاء قدرة كيسنجر على المناورة والإمساك بكافة خيوط أي منازعات تجرى هنا أو هناك بما كفل في النهاية إلى وضع الولايات المتحدة كقوى عظمى ووحيدة مسيطرة على العالم في العصر الحديث. ومن الأزمة القبرصية يعرّج كيسنجر إلى الحرب الباردة، والتي شارك مع نيكسون في وضع الخطوط العريضة للسياسة الأميركية في العقدين الأخيرين من الحرب الباردة، ما ساهم في إضعاف الاتحاد السوفييتي وانهياره فيما بعد، وذلك عبر عديد من الاتفاقيات الخاصة بتخفيض الأسلحة الاستراتيجية السوفييتية، وأيضاً إشراك الصين في دبلوماسية الدول الكبرى، وهي الخطوة التي يعدها كيسنجر حولت الموقف الجيوسياسي لموسكو بين يوم وليلة لأنها عززت تحالفاً قوياً لجميع قوى العالم العظمى ضده. وساعد على ذلك أيضاً التغلب على حرب الشرق الأوسط وتآكل الدور السوفييتي السياسي والاستراتيجي في تلك المنطقة تدريجياً، وأصبحت عملية السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب تحت الرعاية الأميركية قيد التنفيذ، ولعل الإسهام الأكبر، كما يؤكد كسينجر، لفترة ولاية نيكسون أن معظم العلاقات والاستراتيجيات انطلقت أثناء ولايته بمثابة سياسة ثابتة لجميع من خلفه من رؤساء حتى أيامنا هذه. وحشية العالم بالرجوع إلى تلك الوساطة التي كانت بين اليونان والأتراك إبان الأزمة القبرصية والتي شارك فيها إلى جانب كيسنجر بقدر ضئيل رئيس الوزراء البريطاني آنذاك كالاهان، ومن خلال إحدى المحاورات التي دارت بين كالاهان وكيسنجر يتبين لنا مدى النظرة الثاقبة لهنري كيسنجر التي امتدت إلى العالم بأسره وما فيه من صراعات واضطرابات، هذه النظرة جعلته يتوقع حالة عدم الاستقرار والعنف غير المسبوق التي تنتشر في أصقاع الأرض الآن. فيدور الحوار كالتالي: كيسنجر: هل تعلم أحد الموضوعات التي أخط فيها جميع الإنسانيين والليبراليين والاشتراكيين في القرن الأخير أنهم ظنوا أن الإنسان لم يكن يحب الحرب؟ كالاهان: نعم. كيسنجر: إنه لأمر مؤسف ولكن... كالاهان: لقد توصلت إلى هذا الاستنتاج منذ عدة سنوات عندما شاهدت الموقف في إيرلندا الشمالية ياهنري. كيسنجر: إنهم يحبون ذلك. كالاهان: هناك فقط حفنة من الشعوب تفعل ذلك لوقت طويل، فمعظمنا يفضل أن يحدث ذلك ليوم أو يومين، ولكن هناك من يحب ذلك إلى الأبد. كيسنجر: هذا صحيح، هذا لا يعني أن الإنسانيين كانوا على خطأ، إنه يعني أن الحياة أصعب مما كنا نعتقد. كالاهان: نعم أعتقد أن الحياة تسوء يا هنري. كيسنجر: أظنك على صواب. كالاهان: أنا لا أعرف أي نوع من العصور نعيشه أو نمر عبره، ولكن المؤرخين من أمثالك عليهم أن يعطونا تفسيراً حوله أحياناً وكيف سيبدو نصف القرن القادم هذا. كيسنجر: سأقول لك.. أنا سعيد لأنني لن أكون جزءاً منه.. إنه سيكون وحشياً. ظاهرة السراب في موضع آخر من الكتاب، يتعرض كيسنجر تفصيلاً إلى دبلوماسية الشرق الأوسط والصراع العربي - الإسرائيلي في عهد فورد، فيقول: “يعتبر السراب ظاهرة طبيعية في الشرق الأوسط حيث لا شيء يبدو على حقيقته في هذا الجزء من العالم، فعندما غادر الرئيس نيكسون الإدارة كانت “عملية المفاوضات” بين الدول العربية وإسرائيل على وشك البدء بإزالة الآثار المتراكمة لأربع حروب على مدى خمسة وعشرين عاماً”. وكانت كل من إسرائيل والدول العربية تُساق بواسطة القالب التاريخي الشخصي لكل منها، فالإسرائيليون الذين تحولوا إلى جيتو فعلي وحقيقي “كيان قائم” موجود عبر تاريخهم القومي، رهنوا عملية السلام بما يشبه المضمون الغيبي الميتافيزيقي، إذا طالبوا بمعاهدة سلام تقدم لهم علاقات وصلات مع دول الجوار تشبه تلك العلاقات - على سبيل المثال - الموجودة بين بلجيكا وهولندا، وذلك أن هذا التعايش لا يوجد حتى بين الدول العربية ذاتها، ولا يمكن للعلاقة بين إسرائيل وجاراتها من الدول العربية أن تتطور لأكثر من وثيقة رسمية منفردة إلا بعد انقضاء فترة طويلة من العيش السلمي المشترك بين الطرفين. ثمن جرائم الغير في هذا السياق، يقول كيسنجر:”خلق تطلع الإسرائيليين للسلام عائقاً وقابلية للفشل والسقوط في آن واحد، فقد بدا لفترة أن معظم الإسرائيليين يتطلعون للحصول على الكثير من الاتفاقيات الرسمية، بينما كان آخرون منهم، وعلى نحو مناقض مستعدين للمخاطرة بالتسوية مقابل القليل، وللوصول إلى السلام الرسمي والاعتراف بدا قطاع واسع من الإسرائيليين عرضة للإرباك والخلط بين الحيثيات والجوانب الشرعية للسلام وبين جوهره، وبات من الصعب ضمن إسرائيل التوصل إلى توازن بين متطلبات الأمن المطلقة ومتطلبات السلام المطلقة”. من ناحية أخرى، ارتأى كيسنجر أن الصراع الطويل مع إسرائيل شكّل إهانة كبيرة للشعوب العربية، مستنداً في ذلك إلى ما بينه له الرئيس السوري حافظ الأسد مستعيراً مقولة الملك عبدالعزيز ملك السعودية للرئيس فرانكلين روزفلت: “لماذا يجب على العرب أن يدفعوا بأراضيهم ثمن الجرائم التي ارتكبتها أوروبا بحق اليهود؟ ولماذا يتوجب على العرب أن يقبلوا بادعاءات كتاب مقدس لدين هم أنفسهم لا يعتنقونه؟” كوارث عسكرية يقول كيسنجر: لقد أدت جميع المحاولات الرامية لتحقيق تلك القناعات على مدى أربع حروب، إلى سلسلة من الكوارث العسكرية بسبب سوء تقدير جيران إسرائيل لقدراتهم العسكرية، حيث رفضوا خطة الفصل التي أقرتها الأمم المتحدة في نوفمبر 1947، وفضلوا الذهاب إلى الحرب، فكان النصر حليف إسرائيل، مما مكنها من مضاعفة مساحة أراضيها مؤسسة ما عُرف لاحقاً بعد حدود ما قبل حزيران 1967، وفي سياق هذه العملية قامت إسرائيل بنقل العاصمة إلى القسم الغربي من القدس، الذي كان بالإضافة إلى البلدة القديمة تحت الوصاية الدولية للأمم المتحدة، وظلت البلدة القديمة في القدس تحت الوصاية الأردنية إلى عام 1967. وبتأمل الجهود المكوكية التي قام بها كيسنجر بين العرب وإسرائيل لوقف الصراع المحتدم بينهم منذ عقود، والتي أسفرت في النهاية عن تحقيق أول معاهدة سلام عربية - إسرائيلية بين مصر وإسرائيل في كامب ديفيد عام 1978، فاتحة الطريق لمفاوضات عربية - إسرائيلية لازالت تجري رحاها حتى أيامنا هذه، وأيضاً بتحليل سياسة الانفتاح الأميركية على الصين التي أرسى قواعدها هنري كيسنجر، وكذا براعته مع نيكسون في وقف نزيف الدم الأميركي في فيتنام، صفحات الكتاب من خلال هذه الأعمال وغيرها، يتبين لنا وبجلاء المكانة المرموقة التي حققها كيسنجر في التاريخ العالمي وبرهن فيها على أنه واحداً من أفضل العقول التي عملت في السياسة الخارجية الأميركية، وأنه من أذكى الرجال وأكثرهم معرفة ممن عملوا في مراكز السلطة في واشنطن، بحيث أصبح كتابه هذا عن ذكرياته يكمل عملاً كبيراً في التاريخ المعاصر، ويعد وثيقة تاريخية مهمة ورواية رائعة ذات طابع شكسبيري في وقتها، مليئة بالنظرات العميقة غير المعتادة والصادقة وإحساس عميق تجعل من كتاب “سنوات التجديد” بمثابة استنتاج ناجح لإنجاز عظيم سيظل وثيقة تاريخية من الدرجة الأولى. مطرقة الأسد وسندان السادات بين مطرقة إصرار الأسد على الحل الشامل، وسندان تفضيل السادات للتحرك في مسار منفصل، وقع الملك حسين وأصبح شخصاً غريباً خارج اللعبة - ليثبت أن الحياة ليست دائماً منصفة، فقد اصطدم مع منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1970 عندما منع الفدائيين من مهاجمة الأراضي التي احتلتها إسرائيل انطلاقاً من التراب الأردني، وواصل محادثاته السرية مع قادة إسرائيل والتي تجاوزت الخمسة مائة ساعة دون جدوى، ولأنه لم يشارك في حرب 1973 فلم يكن لديه أي أسرى لمبادلتهم، وفي الوقت نفسه كان أضعف من أن يشعل حرباً بمفرده، وبالتالي كان الحافز ضعيفاً بالنسبة لإسرائيل لإجراء مفاوضات مع الحسين، حتى عندما كان واقعاً تحت تأثير بعض الدول العربية الأخرى التي كانت ترعى منظمة التحرير الفلسطينية تارة عن اقتناع، وتارة أخرى من الخوف. هنري كيسنجر القوى المتعارضة “الإنسان مأسور بطبيعته لإحدى رغباته، لذلك فإن العالم متخم بالقوى المتعارضة، الحكمة الإنسانية نجحت في أغلب الأحيان بالطبع في منع هذه المنافسات والعداوات من الانحطاط إلى مرتبة الصراعات الدموية الإجرامية، لكن تنافس المساعي والجهود هو شرط الحياة.. في التحليل النهائي والدائم، لن يجد العالم السلام إلا في التوازن وحده”. شارل ديجول
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©