الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نعمة النسيان

نعمة النسيان
14 فبراير 2008 00:08
النسيان على صعيديه، الحياتي والمعرفي، خطوة عميقة تحفها الموهبة والدربة والمراس· على الصعيد المعرفي، لولا ما دعاه (نيتشه) بالنسيان الخلاق، لاستحالت المعرفة إلى نسخ وتناسخ من غير إضافة وابتكار، من غير ملامح خاصة شخصية، مكانية وروحية· القراءة والهضم، النسيان والمحو، عناصر التجربة الحالمة دوما بالجديد والمختلف، حاضنة الوجود برعونته وتعقيده· حتى تلك الرؤية التي يميل نحوها الأرجنتيني (بورخيس) التي تحيل الكتابة إلى إعادة قراءة، هي في العمق قراءة نسيان وهضم، قراءة بعيدة الأغوار ومتعددة المستويات· نعمة النسيان في المعرفة ربما يجسدها حدث الشاعر العربي الذي لزمه كي يقول شعرا أن يحفظ آلاف الأبيات التي أبدعها أسلافه، وحين حقق ذلك لزمه أن ينسى ما حفظه كي يقول شعرا حقيقيا· في الحياة الواقعية يكون النسيان نعمة بحق، فتراكم الأحداث المؤلمة والمفرحة على السواء، وهذه الأخيرة تتحول مع الزمن إلى مؤلمة وأكثر جراحا وتمزقا·· الكائن البشري رغم عبوره على هذه الأرض، يحمل شيئا من ذاكرة ذلك الأزل الجريح··· النسيان، نعمة النسيان، تلفح الكائن الجريح بنسمات تنعشه وترفده بمياه جديدة، تنتشله من وهدة الماضي والذكريات، تشرع نوافذ بالهواء المتجدد كي ننسى بعض ما عانينا حبا وكراهية، كي نظفر بلحظة حياة جديدة، بلحظة انتصار على سطوة الذكرى والذاكرة والماضي المفتوح دوما على مدارات الحنين··· النسيان، نعمة النسيان، كما يرد في هذا المقطع، الرمزي ـ الواقعي لأحد فلاسفة ''التاوية'' الصينيين· ''كان رجل يدعى هاتسو يعاني من مرض النسيان في خريف عمره، فتراه ينسى عند المساء ما حصل له أثناء النهار، كما تراه ينسى في الصباح ما قيل له أثناء الليل· على الطريق كان ينسى أن يمشي، وفي البيت ينسى أن يجلس فلا يعي ما حصل له قبل دقائق وما هو حاصل معه الآن· كانت عائلته تضيق ذرعا من هذه الحال فأحضروا منجما كي يعرف سبب هذا الداء، إلا أنه لم يعرف السبب، ثم أحضروا (تشامانا) أو كاهنا كي يفعل شيئا من أجله ثم طبيبا لكنه لم يشفه· أخيرا جاء كنفوشيوسي يدعي قدرته على شفاء الرجل· وعندما قام الكنفوشيوسي بامتحانه وتعريضه للعناصر الطبيعية، طلب إليه الرجل أن يلبسه، وعندما كان يجوعه راح الرجل يطلب الطعام، وعندما كان يضعه في غرفة معتمة راح يسأل عن النور· زف الخبر إلى العائلة بشفاء الرجل· عندما استفاق الرجل استشاط غضبا وطرد زوجته وعاقب أولاده وراح وراء الكنفوشيوسي وهو يحمل منجلا· أمسكه أهل القرية وسألوه عن مصابه فقال: كنت في الماضي أنسى، كنت صافيا وحر غير عابئ بوجود العدم والسماء والأرض، أما الآن فقد أصبحت واعيا كل هذه العقود من الربح والخسارة وحب وبغض· أصبحت موجودا في غموض ما بعده غموض· الآن أخاف من المستقبل، فهل سأحظى بلحظة نسيان واحدة بعد الآن؟''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©