الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القدوة الحسنة تتأسى بأخلاق الأنبياء لتكون منارة يهتدي بها الناس

القدوة الحسنة تتأسى بأخلاق الأنبياء لتكون منارة يهتدي بها الناس
25 يوليو 2012
أبوظبي (الاتحاد) ـ القدوة لها أثر كبير في التربية والسلوك يفوق أثر الكلام الجميل والمنمّق؛ لأنَّ الإنسان بطبعه يميل إلى تقليد الكبار والعظماء والاقتداء بهم، وأكثر الناس تأثراً بالقدوة الأطفال؛ لأنهم يعتقدون صحة كل ما يفعله الكبار، وخاصة الآباء والمربين، جاء في موسوعة العناية بالطفل: “يبدأ الطفل في سن الثالثة يدرك بوضوح أكثر أنه من الذكور، وأنه سيصبح يوماً ما رجلاً كأبيه، وهذا ما يحمله على الشعور بإعجاب خاص بأبيه وبغيره من الرجال والصبيان، إنه يراقبهم بدقة ويسعى جاهداً للتشبه بهم في مظهره وسلوكه ورغباته. بينما تدرك الطفلة بنت الثالثة أنها ستصبح امرأة فتندفع إلى التشبه بأمها وباقي النساء، إنها تركز اهتمامها على الأعمال المنزلية والعناية بالدمى على هيئة عناية أمها بالمواليد وتقتفي أسلوبها بالتحدث إليهم…”. فالقدوة - إذاً - هي المؤثر الذي يحرِّك القلوب، ويستثير الهمم، ويؤثر في النفس أكثر من تأثير المواعظ والبيانات، ويزوّد المرء بقوة الاندفاع نحو العمل بمزيد من الهمة والعزيمة والتحمل الذي لا يمكن أن يتوفر في غياب مؤثر القدوة، ولذلك حينما جاء الأنبياء - عليهم السلام - بأمر ربهم لهداية الخلق لم تقتصر دعوتهم على التبليغ - لأن التبليغ وحده لا يغني عن مثال تربوي حي، يجسد بسلوكه وأخلاقه الأهداف والغايات والقيم التي يدعو إليها - بل كانت مهمة الأنبياء الكبرى التي لا تعدلها مهمة هي أن يكونوا قدوة لأقوامهم في تطبيق المنهج الإلهي التربوي الذي جاؤوا به، لما للقدوة من أثر كبير جداً على سلوك الآخرين، ومن هنا تتعاظم المسؤولية على الآباء والمربين في أن يكونوا قدوة حسنة لمن حولهم؛ لأنَّهم العنصر الأساسي المؤثر في عملية التربية، فالأبناء والطلاب يميلون إلى محاكاة آبائهم ومربيهم، وينطبعون بمجمل طبائعهم، ويتأثرون بالكثير من أخلاقهم وصفاتهم أكثر من تأثرهم بما يسمعونه من التوجيهات والنصائح، ولذلك لما اختار عمرو بن عتبة مؤدب ولده، قال له: “ليكُن أوَّلَ إصلاحِكَ لولدِي إصلاحُكَ لنفسِكَ، فإنَّ عُيونَهُمْ مَعْقودةٌ بعَيْنِكَ، فالْحَسَنُ عندَهُمْ مَا صَنعْتَ، والقبيحُ عندَهُمْ مَا تَركْتَ”، إلا أننا نجد اليوم كثيراً من الآباء والمربين يجيدون بيان النصائح والتوجيهات، وهم أبعد الناس عمَّا يقولون! وهذا التناقض بين القول والعمل يُعتبر من أكبر مشكلات الجيل المعاصر، لأنه يحدث فجوة بين الأب وابنه، سببها غياب المصداقية في السلوك، وبالتالي تفقد النصائح أثرها. لذا ينبغي أن يحرص المربي كلَّ الحرص على أن يكون قدوة حسنة، وأن يُعلِّم بِحَالِهِ قبل أن يعلِّم بِقَاْلِهِ، فإن الولد إذا وجد القدوة الفاسدة تربى على الانحراف والعصيان، وتتأكد القدوة عند الوالدين، لأنَّ الولد الذي يرى والديه يكذبان لا يمكن أن يتعلَّم الصدق، والولد الذي يرى أبويه يتعاملان بالقسوة والغلظة والجفاء لا يمكن أن يتعلم المودة والرحمة. وهكذا، وهذا يتطلب من الوالدين توفير الجو الديني والروحي في البيت الذي يعيشون فيه، وذلك بتطبيق أوامر الله أمام الطفل، فلا يأمرانه بطاعة ثم يرتكبان معصية! كما ينبغي أن يقوما بتأدية الشعائر الدينية أمام الأبناء كالصلاة والصوم وقراءة القرآن وذكر الله؛ لأنَّ الطفل مفطور على محاكاة بيئته، وأخصّ بيئته أبويه وأهله، فحيثما كان الأبوان قدوة صالحة، نشأ الجيل على ما نحب أن ينشأ عليه، وحيثما تخلى الأبوان عن دورهما في التربية، كان الأولاد أكثر عرضة للضياع، وقد نبّه النبي لهذه القضية عندما رأى امرأة تنادي ولدها وهي تومئ له بشيء في يدها، فخشي أن تكون يدها فارغة، فيكون هذا السلوك بداية تعلم الولد للكذب، فقال لها: “وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟” قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَال: “أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ”، تربية لهذا الغلام على الصدق والحق. والإنسان كلَّما علت منزلته ورتبته في المجتمع توجّب عليه أن يراقب أقواله وأفعاله مراقبة حثيثة، لأنَّ عيون الناس تتعلق به، ولذلك لم يُؤثر عن رسول الله أنَّه فعل أمراً مشيناً، أو قال قبيحاً، أو ذكر شيئاً ولم يطبقه، بل كان أول آخذ بما يقوله؛ لأنه كان يمثّل القدوة الأولى لكل المسلمين وفي كلّ زمان ومكان، روى أنس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: “لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ”، فكان قدوةً في الصبر، وقدوة في الثبات، وقدوة في الشجاعة، وقدوة في الرحمة، وقدوة في اللين، وقدوة في السخاء، بل كان المثل الأعلى في كل ما دعا إليه، فمثلاً: في غزوة الأحزاب وفي ظل الظروف القاسية التي رافقت تلك الغزوة من شدة الجوع والبرد والتعب، جاءه ثلة من الصحابة وكشفوا عن بطونهم، فإذا بكل واحد منهم قد ربط على بطنه حجراً يخفف به ألم الجوع، فكشف لهم عن بطنه، فإذا به قد ربط عليه حجران! فكان لهذه القدوة أثرها الواضح في ثباتهم وتحملهم، إذ اشتدت عزائمهم، فما زالوا يضربون الأرض بمعاولهم حتى أتموا حفر الخندق قبل وصول المشركين إلى ساحة المعركة. وفي صلح الحديبية أيضاً كان للقدوة أثرها الكبير في إنقاذ الأمة من الهلاك، فبعد أن أمر النبي أصحابه بنحر هديهم ثم التحلل بالحلق، لم يقم منهم أحد، فأشارت عليه زوجه أم سلمة - رضي الله عنها - بأن يخرج إليهم، ثم لا يكلم أحداً منهم حتى ينحر بدنه ويحلق رأسه على مرأى عيونهم، فأخذ بمشورتها، وقام إلى هديه فنحر عدداً كبيراً منها بيده الشريفة، وأمر الحلاق فحلق رأسه، كل ذلك والصحابة ينظرون، فما كان منهم أمام ذاك المشهد العملي إلا أن قاموا يتسابقون في الاقتداء به عليه الصلاة والسلام. أما أنس بن مالك خادم رسول الله، فقد قال: خدمت رسول الله عشر سنين، فما ضربني ضربة، ولا سبني سبة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي!”، وقد استفاد أنس من خدمته وملازمته لرسول الله كثيراً، حتى كان أبو هريرة يقول: “ما رأيت أحداً أشبه بصلاة رسول الله من ابن سليم” يعني أنساً. ولكي نفعّل دور القدوة في حياتنا لا بدَّ من مراعاة الأسس التالية: أولاً- العلم: فلا يمكن أن أكون قدوة صالحة بلا علم؛ لأن العلم يدفع باتجاه اكتساب الصفات الراقية والخصال المحمودة، بشرط أن يتناغم علم المرء مع عمله، فالعلم بلا عمل لا يفيد، ولذلك كان السلف الصالح لا يأخذون العلم إلا ممن يعمل بعلمه، قال إبراهيم النخعي: “كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته، وإلى صلاته، وإلى حاله، ثم يأخذون عنه”. ثانياً- حسن الخلق: كالصدق والأمانة واللين وحسن الاستماع والبشاشة والتودد والكرم والشجاعة... لأنَّ الناس جبلوا على حب من أحسن إليهم، وكره من أساء إليهم، وبالتالي لا يمكن أن يتأثروا بإنسان سيئ الخلق، وهذا ما يفسر انجذاب الناس إلى الأنبياء والصالحين؛ لأنهم كانوا أحسن الناس أخلاقاً، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). ثالثاً- التخلق بأخلاق الأنبياء: فهم القدوات الكاملة التي نصبها رب العزة، لتكون منارات يهتدي بها الناس، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، وكذلك التخلق بأخلاق الصالحين والصالحات في تاريخنا الإسلامي. وكما أنَّ للقدوة الصالحة ثمرة دنيوية تتمثل في نشر الخير وكسب ودّ الآخرين واحترامهم. كذلك لها ثمرة أخروية، وهي أنَّ صاحب القدوة الصالحة له من عظيم الأجر والثواب الذي يصله من تأثر الناس بفعله وقوله الشيء الكبير، فهي رفعة له في الدنيا والآخرة، قال الحسن:”من استطاع منكم أن يكون إماماً لأهله، إماما لحيه، إماماً لمن وراء ذلك، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك منه نصيب”، وكان من دعاء الصالحين: واجعلنا للمتقين إماماً، قال البخاري: أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا. إننا اليوم في أمس الحاجة إلى القدوة التي تجذب القلوب بصلاحها واستقامتها، وتصرفها عن التعلق بقدوات ليس لها رصيد أخلاقي أو معرفي، فالقدوة هي الأساس الذي يقوم عليه بناء المجتمع، وبقدر ما يكون الأساس متيناً يكون البناء راسخاً. د. أنس محمد قصار
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©