Friday 19 Apr 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ذكريات فيلم مع عمر

ذكريات فيلم مع عمر
29 July 2015 21:30
سنحت لي الفرصة الجميلة، لأعمل في بداياتي بالسينما مع الممثل المصري الأشهر/‏‏ عمر الشريف، وذلك عبر العمل في فيلم أميركي ضخم الإنتاج (أسرار مصر–Mysteries of Egypt) من تمويل (ناشيونال جيوجرافيك –National Geographic)، الفيلم من نوعية (الوثائقي/‏‏ الدرامي) عن الحضارة المصرية الفرعونية، وأسرارها الغامضة والملهمة للخيال، وقد تم التصوير في مصر عام 1997، ثم تم عرض الفيلم بعدها بعام، في دور العرض العملاقة النادرة، والمخصصة لعرض الأفلام المصورة بتقنية (الآي ماكس- I Max)، وهي طريقة وأسلوب تصوير يستخدم على سبيل المثال: لأفلام البراكين، والظواهر الطبيعية، وأنواع الحضارات القديمة، وأفلام الخيال العلمي الكبيرة التكلفة، فتبهر الصورة عين وذهن المشاهد، باتساعها المضاعف، ومزاياها البصرية، مقارنةً بالصورة في الفيلم العادي (35 مم).. الفيلم إخراج المخرج الأميركي/‏‏ بروس نايبر، وشارك في بطولته الممثل الأميركي/‏‏ تيموثي دافيز، والممثلة الناشئة وقتها/‏‏ كيت مابرلي، مع بطل العمل الأول والمحبوب عمر الشريف. (تفاصيل الفيلم، وأسماء كل أفراد فريق العمل، تجدها على الموقع السينمائي الشهير (IMDB). غضبة عمر كان عمر لا يمانع أن يناديه الكل تقريباً. بسيطاً بالفعل، إلا في حالات معينة، منها أول أيام التصوير. كنا بدأنا التصوير قبله بعدة أيام على ضفاف نيل أسوان، وكان العمل شاقاً جداً لكثرة المجاميع (الممثلون الثانويون)، والإكسسوارات الضخمة، والمراكب المنتشرة بأنواعها المختلفة التي تروح وتجيء على نيل أسوان لنقل ملابس التصوير الفرعونية، بالإضافة إلى أفراد فريق العمل (الأميركي/‏‏ والمصري/‏‏الانجليزي). وحان اليوم المخصص لبدء تصوير أول المشاهد التي يظهر فيها بطل الفيلم، وانخراطه عمليا مع فريق العمل، فانتظرنا قدومه عبر المركب المخصص عند مرسى فندق (كتراكت) الكلاسيكي، وكانت المفاجأة أن عمر رفض المجيء، وأخذ يزعق في غرفته بالفندق، ويلعن عدم الالتزام بالمواعيد، وامتنع عن مرافقة المسؤول المكلف بمصاحبته، لمكان التصوير، فتكهرب الجو، وتوتر المكان - نوعا ما - دون تعطيل للعمل، لكني لا أنسى وجه المخرج الذي كان يشوبه بعض الاضطراب، وهو يتناقش مع مساعده الأول المخضرم، خاصة وأنه لم يكن هناك مبرر لثورة نجم العمل، فلم يحدث تأخير بهذا القدر الذي يستدعي غضبته، وفي أول يوم له، (كانت المواعيد كعادة الأمريكان، يتم تنفيذها في الوقت المحدد، بالدقيقة، والثانية، وفي كل مراحل العمل بالفيلم).. نعود لعمر الذي غاب عن المشهد، وخذل كل أفراد العمل المتشوقين لرؤيته، وبدأنا بسرعة في تنفيذ مشاهد أخرى بديلة، ولكن لم يطل الوقت ألا ووجدنا/‏‏عمر الشريف يأتي بصحبة المنتج، والمساعد، مبتسماً، ومحييا طاقم التصوير..وبدا لي من أول وهلة أنه شخص يتحكم فيه - ولو الى حد ما - تقلب مزاجه ونفسيته، وينعكس ذلك في تصرفات له غير مقبولة، ومرفوضة من محبيه، لكن ما لا يعرفه الكثير أنه أحياناً عندما يشعر أن الحقّ معه، لا يكبح غضبه العاصف أبدا، إلا بعد أن يشفي غليله، وليس أدلّ على ذلك من الموقف المعروف له، الذي ظل يتندر به من عملوا معه عن قرب، مع سفير دولة إفريقية في احتفال رسمي، حيث تبادل السفير كلمات الترحيب والمجاملة، مع نجم العرب العالمي الجالس بجواره، واستمر الجو بينهما دبلوماسياً مريحاً، حتى أتت ممثلة مصرية شهيرة لتحيي عمر الشريف، وفور ذهابها عائدة لمقعدها، باغت السفير أذن عمر بكلمة جارحة، أو وصف خادش، ومعيب عن جسد تلك الممثلة، فانبرى عمر يصبّ جام غضبه على أم رأس السفير، وعلا صوته - غير مبال- يفضحه، بعدما سمع منه ما يسوءه في حق زميلته الفنانة، وكان الوضع غاية في الإحراج لهذا السفير المتهور الذي لم يكن يتوقع رد فعل النجم العالمي المتحضر، الذي يبدو أنه عاد في لحظتها إلى فطرة تكوينه، إلى طبيعته السكندرية الشهمة، يذود كأي رجل غيور على كرامة بنت بلده، وزميلة المهنة!! لطيف ومتواضع عايشته بعدها كأحد مساعدي الإخراج، الملازمين له بطبيعة المهمة، في أمور عديدة طوال أيام التصوير، وتعجبت أنه يروق مزاجه جدا، عندما يحاور (عم أمين) فني الملابس أو بلغة أهل السينما (اللبيس)، الذي كان يعمل معه في بداياته في السينما المصرية من سنوات مديدة، وكان يحاوره بود، ويمزح معه أحياناً في ألفة حقيقية، ويتذكرا الماضي برموزه وناسه، وكذلك كان - دون مبالغة - مع أي عامل بسيط في طاقم الفنيين، أو من أهل النوبة المرحبين بوجوده بينهم. سافرنا معه وتنقلنا في صحراء الأقصر، وأسوان، يصحبه ويلازمه ابنه (طارق)، وكان مثل أبيه بشوشاً ولطيفاً. وعندما رجعنا للقاهرة حاولنا فرش غرفته في (ستوديو نحاس)، الذي كان في حالة سيئة جداً وقتها..فقمنا بتغيير كل ما فيها تقريبا لتلائم استراحة عمر وقتاً ليس بالقصير، وعلقنا له على الحائط أفيشات أفلامه، تحت إشراف مدير موقع التصوير/‏‏ زكي فطين عبد الوهاب، وعرفنا الأفلام التي يحبها، والأفلام التي لم يكن يحبها مثل (المواطن مصري) الذي لم يكن يطيق دوره فيه، بعدما شاهده، وتغيرت الحجرة بعد تجهيزها، واختيار ستائر، وإكسسوارات مناسبة، وبألوان هادئة، فظل في غرفته يعيش عصراً يحبه مع صور أفلامه القديمة، ويستقبل زواره من زملائة النجوم، وقدامي الفنيين، ومرت أيام التصوير الداخلي في الأستوديو بسلام ونجاح... وفي قهوة (الفيشاوي) تم تأجير القهوة لفريق التصوير طوال اليوم، وكان عمر حريصاً بحق على سلامتنا، عندما كنا نتعرض للمخاطر، لحمايته من تدافع الجماهير عند خروجه، أو أثناء تحركاته، وغير ذلك، وكان مطيعاً، يجلس كأنه وجه جديد، ملتزماً بتعليمات المخرج، ومرة ضايقه واستفزه وجود (مصور فوتوغرافي ناشئ) يلتقط له صوراً كثيرة دون داعٍ داخل القهوة، فأسرعنا نبعده عنه، لكنه طلب منا أن نتركه، ليتناقش معه، وليتفهم وجهة نظره، ومكث يستمع إليه في صبر غريب.. المهم أنه رغم حاجته للمال، وافق على أجر زهيد جدا في هذا الفيلم، كما أخبرنا المنتج الأميركي، لسبب واحد وهو أنه فيلم عن.. مصر، ليعرف العالم قيمة تاريخها، وحضارتها. عمر الشريف إنسان لا يعرف التكلف، والتكبر، والمداراة، هو كما تراه غالبا في حواراته التلفزيونية، بعيوبه وحسناته.. لو سألتني عن رأيي الشخصي في أجمل أدواره على المستوى الفني، فسرعان ما يندفع لذاكرتي دوْران أثبت فيهما أنه ممثل قوي بجد، بعيداً عن الوسامة والكاريزما. وهو دور(الضابط حسنين) في فيلم (بداية ونهاية)، ودور المناضل (إبراهيم حمدي) في فيلم (في بيتنا رجل)، دون إغفال أدوار أخرى جيدة جدا له في السينما العالمية، والمصرية.. والآن يعود عمر إلى ربه بعد حياة حافلة، ينتظر مصيره، مثل أي عبد فقير من عباد الله.. نتمنى له الرحمة، كما نتمناها لكل أمواتنا المسلمين المجهولين، والمعروفين. .......................................... * مخرج سينمائي مصري
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©