الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أوغسطين.. بائع الكلمات

أوغسطين.. بائع الكلمات
29 يوليو 2015 21:35
زاد اهتمامي بأوغسطين أثناء التحاقي بالجامعة البابوية الغريغورية في روما لدراسة اللاهوت المسيحي إبان تسعينات القرن الماضي، حيث تنبهتُ إلى الإسهام الكبير للرجل في الحضارة الغربية. ومنذ ذلك العهد بتّ أرمّم ذاكرتي، وأتساءل عن هويتي التي صارت هويتهم، وعن تراثي الذي صار تراثهم. كيف غاب مؤلَّف «الاعترافات» من ذاكرتنا المغاربية الجماعية، إلى حد التفريط فيه، وهو الكتاب الذي انتحل جان جاك روسو عنوانه لمؤلَّفه «الاعترافات» أيضا بعد مضيّ 14 قرنا، وكيف غاب كتاب «مدينة الله»، عصارة فكر أوغسطين وروحه؟ أسئلة الهوية كنت حين تداهمني أسئلة الهوية، ألجأ إلى قول الشاعر مفدي زكريا أشدُد به أزري: أولئك آباؤنا منذ عيسى وكان محمد صهرا لعيسى ولم نكن ننكر آباءنا أكانوا نصارى أكانوا مجوسا وهل كان بربر إلا شقيقا لجرهم؟ هلا نسينا الدّروسا؟ إذا عرّب الدين أصلابنا فما زال أحمد صهرا لعيسى فقد كان زملائي الطلاب أثناء تلك الحقبة الجامعية، جلهم من الرهبان والراهبات من شتى الأجناس، وكانوا يحيطونني بحفاوة بالغة كلّما تعرضنا إلى التراث الأوغسطيني، لا لشيء إلا لأني بمنظورهم من أحفاد ذلك الهرم اللاهوتي الذي بات أحد آباء الكنيسة العظام. وقليل منهم يدري وكثير لا يدري أني على دين أحمد، ليس تستّرا عن هويتي، ولكن بوصف كافة من يؤم تلك الجامعة الحبرية يدينون بدين المسيح وعلى مذهب الكاثوليك، وقد كنت نشازا في تلك الفترة. صحيح أنني لما درست في جامعة الزيتونة في تونس، في عهد سابق، تخصصتُ في دراسات الأديان، وحين حللت بالغريغورية في روما ما كنت خاوي الوفاض من المعرفة بتاريخ المسيحية ولاهوتها، فقد كانت آي الإنجيل والتوراة تعمر ذاكرتي جنب آيات القرآن الكريم. ولكن تلك الصفحة أو الطبقة السابقة للإسلام ما كانت حاضرة لديّ، كانت مطوية، ما كنا نقلّبها أو نتفحصها، كنا نعمل على طمسها بوعي أو بدون وعي. ولذلك ثمة تراث عميق في بلاد المغرب مهجور بقصد أو بغير قصد. استفقتُ أنه يحوز موضعا أثيرا لدى الآخر، أقصد الغربيَّ. منذ سنوات قليلة حاولت الجزائر استعادة ذكرى أوغسطين من خلال ملتقى دولي، حشدت له جمعا غفيرا من الباحثين والمتخصصين في فكر الرجل ولاهوته. لكن استعادة أوغسطين ما كانت هيّنة، فقد غاب من ذاكرتنا ومن ثقافتنا كمغاربيين، كان جلّ المشاركين من الغربيين. جاءوا من كل فجّ عميق يعلّموننا تاريخنا وينخزون ذاكرتنا، وما كنا ندري أنحتفي بالرجل أم ننكره، فقد جرت في النهر مياه كثيرة، فهل استعادة الإرث الأوغسطيني أمر يسير؟ إفريقي في ميلانو كان أوغسطين قد حصّل ثقافة عالية في أكاديمية قرطاج ما بين 370 و374م، بعد نيله منحة دراسية خولت له الانتقال من ثاغست (سوق أهراس) إلى قرطاج، ليعقُب ذلك انتدابه مدرّسا في الأكاديمية ذاتها حتى العام 383م، وقد كان طيلة تلك الفترة مانويّ الديانة، ولكن قرطاج حينها ما زالت محاصَرَة لغويا وثقافيا من قِبَل روما، وكان أوغسطين تجليا لمدرسة قرطاج المروْمَنة. قضّى أكثر من عشر سنوات مدرّسا متنقلا بين ثاغست وقرطاج، ثم شدّ الرحال إلى روما، وحين حلّ بها لم يطب له المقام، استأنف السير شمالا نحو ميلانو، بعد أن قضى عاما عسيرا في روما، لم يكن رحيل أوغسطين عن فضائه الإفريقي لِفاقةٍ، بل شغفا بمدن الشمال، والمدن مثل البشر تعشق بعضها بعضا ولذلك ابتدع الناس توأمة المدن. قضى هناك في ميلانو سنين معدودة (384/386م) «بائعا للكلمات»، على حد قوله، فقد عمل مدرّسا للخطابة، في زمن كانت فيه الفصاحة صناعة وحرفة. تتكرّر قصة الانجذاب إلى روما مع «الماروكينو» المغاربة والتونسيين في وقتنا الراهن. تلفظهم سفن «الحرّاقة» فينسلّون إلى روما من كل حدب وصوب، جراء شغف دفين يسكنهم. ورُوما ذئبة شرسة، نادرا ما تُرضِع وغالبا ما تَأكُل. لذلك يحزم القادمون حقائبهم ثانية ويرحلون شمالا نحو بادوفا وتورينو وميلانو طلبا للرزق، وبما يشبه ما يفعله أحفاده المغاربة، ركب أوغسطين البحر وحيدا ونزل وحيدا في روما، لتلتحق به زوجه ووالدته وابنه في ميلانو، ما زال «الماروكينو» إلى اليوم يرحل وحيدا ثم يجرّ أسرته حين يتهيّأ له ذلك، ولكلٍّ قصته مع روما، فمنذ دخلتُها استحوذت عليّ ووقعتُ في أسرها، ربما لأن أرواح عظماء من الشرق ترقد فيها. ففي تلك الساحة أُعدِم بولس الطرسوسي وليس بعيدا صُلِب سمعان بطرس، وها هنا قضى يوغرطة النوميدي أسيرا يتضور جوعا، وفي أطراف روما ماتت زنوبيا الأبية كمدا. فعلاً في روما ثِقل التاريخ يشدّني إلى أهلي وإلى جذوري البعيدة، من قرطاج إلى تدمر. في ماضي التاريخ وعَقِب النداءات المتكررة بمحوِ قرطاج «دلندا قرطاجو» (قرطاجة ينبغي أن تُدمَّر)، نُهبت المدينة ودُمّرت ونُثِر في أرجائها الملح حتى لا تنبت زرعا، حينها أذعنت قرطاج إلى قدرها. ذكرى فاجعة حملها التونسيون في ذاكرتهم في اسم «دلندة» الشائع إلى اليوم بينهم. وفي ظل واقع روماني مهيمن وطاغ غدت المسيحية جزءا من أدوات السلطة لترويض قلوب حائرة، بعد قرار ميلانو 313م الذي أعلن المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية، اختار أوغسطين موالاة روما وتحولت لديه إلى قدر الله وسيفه. لم يكن النوميدي أوريليوس أوغسطينوس روميَّ الاسم فحسب بل روميّ الثقافة أيضا ولاتيني اللسان، وكان يتمثّل التاريخ من منظور روماني، وما كان يحسن البونية لغة الأهالي، اللغة التي يُروَى أن عقبة بن نافع حين فتح بونة (عنّابة الحالية) تفاجأ بوجود أناس يتكلمون لغة سامية قريبة من لغته العربية. هويتان تتصارعان كانت روما مع أوغسطين قدرا تاريخيا، ثم تحولت إلى سوط إلهي بعد اهتدائه إلى المسيحية، ويروي التاريخ أن أوغسطين وأربعة أساقفة أفارقة آخرين أرسلوا رسالة إلى أسقف روما أناستازيوس سنة 416م أوردوا فيها أن روما «ينبوع فياض» وأن إفريقيا «جدول صغير» تعبيرا عن ولائهم الدائم للمركز. من هنا كان خلافه مع كل من ينزع للاستقلال عن روما. وعلى ذلك الأساس ناصبَ الدوناتيين العداء، الذين أبوا إلا أن يكونوا أفارقة أولا ثم مسيحيين، ثانيا وفي رفض المسيحية الرومانية رفضٌ للزواج السياسي الروحي الذي عُقِد مع قرار ميلانو الشهير. خلاف فلسفي مع المانويين ونزاع لاهوتي مع الدوناتيين، يلخصان المسار الفكري لأوغسطين. مثّلَ الأوائل تحدّيا فلسفيا حقيقيا للمسيحية، ومن هنا كانت المعركة الكبرى في «مدينة الله» موجَّهةً لترتيب العلاقة بين الزمن والجسد والعالم ضد دورات العود الأبدي اللانهائية التي يدعو إليها المانويون، ومثّلَ الدوناتيون تحدّيا لاهوتيا خطيرا بطروحاتهم التي تنزع للاستقلال عن روما، والتي سرعان ما اتخذت طابعا سياسيا بموجب التداخل بين المسيحية والدولة. فقد أورد أندريه ماندوز في كتابه: «القديس أوغسطين. مغامرة العقل والنِّعمة» أن أوغسطين كان يستعين بالسلطات السياسية لإلجام خصومه الدوناتيين، واللافت أن الدوناتيين، نسبة إلى أسقف نوميديا دوناتو، قد سماهم خصومهم بذلك الاسم وأطلقوا على أنفسهم «كنيسة الشهداء»، كانوا يرَون أنفسهم على دين الحق، وإفريقيا هي الأرض الوحيدة التي صانت العقائد والشعائر من كل دنس، قائلين: «كل العالم تُشتَمّ منه رائحة كريهة إلا إفريقيا». لكن هوية أوغسطين الإفريقية كانت في موضع ثان بعد هويته الرومانية، تطفو إلى السطح كلما سنحت الفرصة بذلك. حوالي العام 391م لام أوغسطين النحويَّ ماكسيموس المادوري الذي بات رومانيا أكثر من الرومان على سخريته من الأسماء غير اللاتينية: «هل بلغ بك الأمر حدّ رفض الأسماء القرطاجية وأنت إفريقي يكتب إلى أفارقة؟». لكن الجلي في ذلك المسار الحافل لأوغسطين، بعد اهتدائه إلى المسيحية في ميلانو وتعميده على يد الأسقف أمبروز، أن صار مؤمنا ولكنه بقي فيلسوفا، ولعل ذلك أبرز درس خلّفه أوغسطين، أن المرء يمكن أن يكون متدينا وأن يكون فيلسوفا، بعد ذلك الانقلاب الديني عزم أوغسطين على العودة إلى إفريقيا، إلى ثاغست، يقول في «الاعترافات» مخاطبا ربه: «كنا نبحث عن مكان نستطيع فيه أن نكون أكثر خدمة لك، فعدنا إلى إفريقيا». سِيم كاهنا سنة 391 في عنابة، ثم عين بها أسقفا سنة 395م. وحين استولى القوط الغربيون على روما ونهبوها سنة 410 بقيادة ملكهم ألاريك الأول، صاح القديس جيروم من بيت لحم: «يا للدمار، الكون ينهار.. لقد تم الاستيلاء عليها، تلك المدينة التي استولت على الكون بأسره...». في ذلك التاريخ شرع أوغسطين في تأليف «مدينة الله» الكتاب الذي ضمنه أطروحته الشهيرة حول «الحرب العادلة»، وحوّل فيه الحرب إلى عمل إحسان، لعله سعيا للحفاظ على إمبراطورية بدأت شمسها تغرب، لم تمض سوى عشرين سنة حتى حاصر الوندال العتاة مدينة عنّابة التي فيها مقرّ أسقفيته، أدرك حينها أوغسطين أن روما ليست قدرا تاريخيا وأسلم الروح لبارئها في العام 430م.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©