الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه أنطونين أرتو: مثلّث الفزع

وجه أنطونين أرتو: مثلّث الفزع
29 يوليو 2015 21:40
كابوسيٌّ هو وجه أنطونين أرتو، مسرنمٌ ومتحوّل باستمرار، منفرط بوحشية صوب الحافات المنذورة لخطورة الحلم والموت. وجه فجائعيّ يتغذّى بغبار القسوة، يمتصّ جذور القلق ويثوّر حجر الصمت. إنه الوجه المنشطر بفزع مئة سنة، فأمام استهداف أبشع الأمراض هذا الكائن الهش، من التهاب السحايا، والنوبات العصبية الحادة، والاختلال الذهني وسرطان الأمعاء والزهري.. ظلّ هذا الوجه المؤرّق بحالات الهلع الماجنة، يجابه مراياه العمياء بقدر هائل من العبث الصلد والجنون العاتي. في وجه أنطونين أرتو تتلاطم المآلات الجذرية لتاريخه السري. الوجه الذي يغوص في جحيم العصر حدّ القرارة، ويطفو على السطح مثقلا بأدغال الرؤيا وأغوار الحقيقة الكارثية للوجود. ثمة محنة ضالعة في القتل تتحصّن بتحولات هذا الوجه المتأرجح بين الكآبة والمحو. كآبة تفضح عهر الأمل، ومحو يعرّي حماقة التفاؤل. مع وجه نفخت في ثقوبه غير المرئية، ساحرات البحر الأبيض المتوسط، نصطدم ببشاعة الجمال إذ يهاجر حقله البكر، وينشد الحدود الشائنة للقبح. من يصدق أن وسامة أنطونين أرتو كانت تضمر كل هذه التشوّه المارق. إنها بشاعة غير متصالحة مع الانحطاط في كل الأحوال، بل هي البشاعة التي استهلكت الجمال حتى ثمالته. الشرّ المتربص بهذا الوجه البائس، يوقظ في خياله غابات مشتبكة من الرؤى الهاربة. رؤى هلامية عن حروب ماحقة في الخارج تتهارش مع الألم المستشري في الداخل. وكأن وجه أرتو يدفع ثمن ضريبة فادحة، لعبور أوروبا من حلقة سوداء، إلى حلقة أشدّ سوادا. وأما أثر المعضلة في نظرته الشهلاء، الممهورة بزمهرير شتاءات قوقازية، فجذورها كامنة في أصوله اليونانية الدامغة وإن كان ملاذ جنونه قد انسلخ عن أساطير الإغريق زاهدا فيها، بانحيازه لأساطير المكسيك والقوى المجهولة لجمال تراث الأزتيك. قد ينبغ وجه أرتو في إخفاء كدماته وبثوره وندوبه، وقد ينجح في محو أطوار من كتاب قسوته، لكنه أبدا، لا يستطيع حجب أثر الشهور التسعة التي خاضها أرتو في جبهة الحرب (الحرب العالمية الأولى). الشهور التي انشطرت فيها ذاته وانفصمت بحدة، فطفق يمشي في مناماته ويشرد طويلا... فعرف بسرنماته المتعاقبة والموشومة.. كأن ما كتبه أرتو من قصائد ومسرحيات فيما بعد، هي ترجمة فعلية لتجارب سرنماته الضبابية، وكذلك هي لغته السديمية. لا يمكن النظر إلى هذا الوجه الذي تضيئه نيران الجحيم، دون أن يسترعي انتباهنا فقاعات الصور المتطايرة من عينيه المنطفئتين، وهي صور لحكايات مغامراته مشيا في تلال المنامات الوحشية... هكذا وجدت السريالية في أرتو الثمرة الفاسقة لجنَّة كوابيسها. يكفي وجهه المثلوم بصوديوم الفزع ليكون العنوان الشيطاني المختصر لمتحف هرطقاتهم الحلمية. الهرطقة الأفصح من لغة العقل التي واجهها أرتو بكل ما أوتي من هذيان. إنه الثقب الأسود في رئة الوجود الأوروبي. النفق السري إلى أوروبا الأخرى، اللامعلومة والمجهولة التي نفتها مركزية العقلانية وأحادية المنطق. ما يلفت النظر في وجه أنطونين أرتو هو سحريته المربكة، كأنه يقوض معدن الناظر إليه بشكل ساحق، أو يجوّف الأشياء التي تنزلق عليها نظرته الفسفورية. ثمة ألم لقيط يفسخ هذا الوجه وينضح منه كعاصفة جرثومية، توقظ الموت الذي يحنط الأحياء. كيف لا وهو الذي امتشق الطاعون وأعلنه بلا هوادة في معركته الضارية مع أشباح عصره. كم نفتقد لسجلات التدوينات الغائرة التي خططها طبيبه النفسي إدوارد تولوز، في لحظات هلوساته المضطرمة. إنها السجلات التي توثق بأمانة مرعبة لغرابة وجهه، السجلات الشبيهة بعلبة بانادورا، المكتنزة لشرور لحظته التاريخية. في سجلات المهلوسين العظام، تنام الحقائق الصادمة لمطابخ الإنسانية وانحطاطها. كم نفتقد أكثر، لخربشات أنطونين أرتو على حيطان غرفته في المصحات التي استضافت كوابيسه. إنها القصائد الأشد هولا في تاريخ الشعر المعاصر. وأما رسائله الهوجاء التي أحرقها أو مزقها في لحظة انهيار، فليست إلا كتابا ضائعا عن الهاوية أو القيامة. إنها الهاوية أو القيامة التي تقهقه في وجهه القاسي، الوجه الذي يتألق بالمرايا المقعرة، المدجج بأسلحة أقبية النصف الأول من القرن العشرين. الوجه المهلوس الذي تنزلق على حجره اللزج الأقنعة ولو ثبتوها بمسامير الصلب. الوجه المشبع برطوبة العالم السفلي. الوجه الذي يتشعب في امتدادات تقمصه لليأس والنهاية. الوجه الطقوسيّ المطهَّم بنار الهنود في ليالي الصقيع. الوجه الذي تقشره النظرة تقشيرا متواصلا، كبصلة سوداء، دون الوصول إلى جوهر أو نواة أو جذر، فالتعرية مستأنفة لمدار لا نهائيتها. الوجه الهذيانيّ الذي يكشف في إيماءة واحدة عن أبدية من الفراغ واللاجدوى. الوجه قرين مسرحه، مسرح يصخب بعراء توحشه وبدائيته وأساطيره المندمغة برائحة الأفيون... من مرايا هذا الوجه المقعرة، تنهمر وجوه المنتحرين، ليس من انتحروا قبل ولادة أرتو أو في غضون حياته، بل من سينتحر مستقبلا بعد موته. كل تلك الوجوه ترطن بجملة مهولة، تهمس لي: لقد خذل أنطونين أرتو صديقه فان غوغ، إذ فشل بدوره في قتل طبيبه النفسي!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©