السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جزيرة الدمى بين نَسْخِ الظِّل وخِتْم اللعنة!

جزيرة الدمى بين نَسْخِ الظِّل وخِتْم اللعنة!
29 يوليو 2015 21:40
هل حدث أن تبرعت بروحك لدمية؟ قد لا نحتاج في جزيرة الدمى إلى متبرعي أعضاء، بل لن نحتاج حتما، لأن سكان تلك الجزيرة توافدوا إليها من عالم الأرواح على هيئة قبائل من الأشباح! الرعب ليس أن تكتب بين القبور، فقد فعلها شاعر البلاط الملكي البريطاني من قبل، وقد كان يطل من شرفة لغته على مقبرة.. ولكن الرعب الحقيقي هو ألا تستطيع الكتابة سوى بعد ارتكاب جريمة لغة في مقبرة بلا شرفات! إنها العزلة الصارمة التي تتيح لك اللقاء بقرينتك اللغة، فهل ستهرب من لغتك؟ أم ستخاف عليها من نسخ ظلالها في شبحك؟ لتكن هذه المقالة تصفية حساب مع الخوف، عبر تقنية تبديل العقل، التي اطلع بها على أفكار قرينتي، فأوجه حجرها السري خارج المقبرة بشبرين أو أكثر حيث تستلقي جثة (دون جوليان)، جنوب العاصمة المكسيكية «مكسيكو سيتي»..فإن كنت لم تزل عرضة لنوبة رعب، تعال معي إلى أكبر مدينة للدمى:ديزني لاند، المكتظة بالسياح والزائرين والبالونات والموسيقى والشخصيات الكرتونية، بعيدا عن عوالم الخراب ولعنة المقابر، لنمارس اللغة في ملهى على غير عادة العزلة، لأن الحديث عن الموتى لا بد سيفتح أمامي ألف مقبرة، ويوقظ كل الدمى التي قتلتها على مرأى قرينتي.. ديزني لاند للموتى لا تصدق كل ما أكتب.. لأن اللذة كامنة بتهديد الأرواح...والجمال أكذوبة بارعة كما تراها الشاعرة الكندية «سيسل شابو»، ولم يعد هناك ما يثير الاشتهاء من خنازير أو رجال برؤوس نسور، لا عندي ولا عند مارجريت أتوود، كل ما عليك فقط هو أن تقفو أثر الموت وتطرق الأبواب السرية للقصيدة وأنت تعصر حليب اللغة بهدوء على طريقة الشاعرة اليابانية يوسانو آكيكو، ثم تصرخ: (يا أيها العالم لا تكن جميلاً )! لم يكن لغير الشاعرة الألمانية «ماريا جاجر» أن تصرخ هذه الصرخة، التي تقع في منطقة حدودية بين القبح والقبح، يصبح بها الجمال محايدا إلى درجة يتساوى فيها الاستغناء عنه مع الافتقار إليه، ولذا لا بد أن يعود الفضل كل الفضل (لدون جوليان) كأول مؤسس لعالم ديزني خاص بالموتى وحدهم، فتكون جثته آخر السكان في جزيرة مأهولة بالأشباح، والدمى المشوهة، التي كان يجمعها من أكياس القمامة بعد نفاد ذخيرة البحيرة منها. لم يعثر أحد على أي أثر لتلك الطفلة التي غرقت وهي تحاول التقاط زنبقة ماء من على ظهر زورق، تركت وراءها دميتها، التي كانت تعود لتبحث عنها ليلاً في أرجاء الغابة، غير أن الوحيد الذي تمكن من العثور على شبحها كان جوليان هذا، ظنها طفلة، فلما انتشلها لم تكن سوى دمية، ظلت نظراتها تلاحقه في نومه وصحوه، وقد ترك لأجلها عائلته ومدينته وقضى عمره يرعى روحها في جزيرة ملأها بأنيسات لها من بنات جنسها، علقها فوق أغصان الأشجار حتى تحولت إلى جزيرة للرعب، أقسم كل من مر بها على أنه سمع تهامس الدمى ورآها تومئ إليه وتحدق به.. في العام 2001 عثر على جثة الدون في ذات البقعة التي وَجَدَ بها شبح الدمية أول مرة. الخروج من الشبح إذا تعرفت إلى عالم جوليان ذاك لن ترى غيره كلما اضطررت لخوض تنافس ذاكراتي بين دمية الشبح في جزيرة الرعب والدمية الآلية في (ديزني لاند)، لأنك إذ تسيّل دم الأولى تخرج من قمقم وهميّتها في الخرافة اليابانية، إنها مسكونة بروح طفلتها، لم تعد مجرد جماد أو مادة تجارية تلبي غريزة الأطفال التي تعتمد على الألعاب كضرورة إمتاعية ووسيلة للتعلم الذاتي وتنمية المهارات السلوكية والمعرفية وأسلوب تعبيري عن الخبرات المكتسبة. نجح عالم ديزني بأنسنة الدمى، خاصة بالعمل الثلاثي الأجزاء «Toy Story»، لتمثل هذه المحاولة كل الجوانب الحياتية والطبائع البشرية، مطعّما العمل بروح فكاهية ودعابات محببة، بالمقابل، كان دون جوليان سادنا للأشباح، لم يسخّر دُماه للتجارة ولا لجني الأرباح ولا للتعلم ولا حتى للإمتاع، إنه ملكوت غرائبي يدرب الدمى على تبادل الأدوار مع الموتى، يلتقط الأرواح من مملكة الغيب ويوشمها بختم اللعنة، في دأب لا يكن، فطالما أن الموت لا ينتهي فالأرواح لن تموت، كما رأت الشاعرة اليونانية «مارينا زوغروفو» التي نجحت بالخروج من الحالة الوهمية للدمية: «أنا كما الطفل/‏ أحب أن أحطم دميتي ثانية/‏..أعطني يا إلهي تاج البراءة..». شيء ما في هذا البصيص يرفض التعامل مع الدمية ككائن بلا إرادة، لأن تمزيق الطفل لدميته دفاع عن براءته، الدمى أشبه بألواح الروح، تستدعي بها ميتا ما، أو ترسل له رسالة، فيرد عليك الغيب، إنها (ويجا) شيطانية تدخل الجثة في حالة فقدان وعي، أو غيبوبة مؤقتة، لتتولى عنهم مهمة الحياة، الدمى لعبة العرافات في مواسم شمطاء تتخلل أنفاس الخريف بها شجر القبقب وتهمس في قصيدة الروسية «آنا أخماتوفا»: «موتي معي»! الدمى الميتة يتيمة بلا أسماء، لأنها تركت بطاقة هويتها فوق شواهد القبور، وانتحلت هوية الأشباح في الهياكل العظمية للمرايا، وقد تصدق قصة الفتاة اليابانية، التي سرقت منها دميتها شعرها بعد موتها، حين تقرأ لغة مارينا زوغروفو: «امتطيت السماء كما الغيمة بشعري الطويل»، فالنساء الحزينات يهبن روحهنَّ لدمية مسحورة، ويمتنَ في قصيدة ويجا لعينة على طريقة سلفيا بلاث. في ديزني لاند، كانت الدمى فاتنة، بريئة، أنيقة، وطيبة.. تبادل الأطفال فرحتهم غناء ورقصا، وكنت أبحث عن لغتي، حين لم ينتبه أحد إلى دمية تائهة، تحبو بلا قدمين خلف سور منسي، تبحث عن روح نيّئة لقرينة تمشط شعر القصيدة بأسنان جمجمة! رأيتها، حركتُ حجر الموت باتجاه روحها، ورويداً رويداً.. بدأ لوح القصيدة بالارتجاف.. اللعنة الآن ناضجة، والروح مختمرة، والجريمة جاهزة لارتكاب اللغة!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©