الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رجل من الربع الخالي

رجل من الربع الخالي
3 أغسطس 2011 22:03
منذ ابتكر الإنسان الشعر كانت الصحراء تلهب مخيلته؛ فتحضر في قصائده لا كمكان ذي جغرافية مميزة فحسب، بل كتحدٍّ من الطبيعة للإنسان وقوته وإرادته.. لكن تمثيل شعراء الحداثة لفضاء الصحراء تدرج بها من الواقعة الجغرافية إلى الدلالة الرمزية. وهذا ما يؤكده الشاعر العماني سيف الرحبي (1956) في عمله الشعري “رجل من الربع الخالي” المنشور عام 1994، بعد مجموعة دواوين بدأت مطلع الثمانينيات بـ”نورسة الجنون”، وانضوت تحت لافتة التحديث والمضي فيه حتى آخر أشواطه دون تحفظ، ما أوصل الشاعر منذ الدواوين المبكرة حتى اليوم لتجربة الكتابة بقصيدة النثر، وهو القادم من محيط الربع الخالي المتماثل الهيئة والممتثل للمألوف والتقليد، وحوافه المسكونة بالأسرار والمسربلة بالغموض والخطر والكثافة المصنوعة من تآزر عنصرين: الزمن الملقى على أديمها قدما وعراقة، والمكان الذي يعمل الخيال على تشكيله شعرياً بإزاء سعته وغرابته وصلابته وقسوته أيضا. تحفّ الصحراء بالوعي الإنساني فراغا آهلاً يمتد قَفْراً يخيف تناظره وخلاؤه، لكنه يخفي تحت طيات رماله ورياحه ونباته المر ووحوشه عالما من الدلالات المتولدة من ثقل الزمن ورعب العزلة التي تفتك بالبشر قبل أن تجد وحوش الصحراء وقتا للفتك به. يصبح والحال هذه كل كائن في الصحراء رمزا: الذئب والليل، الرمل والماء، النبت والخيمة، الأفق الشارد في البعيد والسماء التي تناظر امتدا الارض وانفتاحها، النجوم التي تتناثر متباعدة والظلام المتكاثف كالهموم التي تسكن أفئدة الشعراء. وقد تغير وجود الصحراء الجغرافي عبر تمثيلات الشعراء لها كائنا لايخلو من الجمال، ينعتق فيه الإنسان من رتابة المدن ويتحرر خياله المقيد. وقد حضرت الصحراء في شعر سيف الرحبي وكتاباته بقوة تناسب مكانتها في تطور وعيه وتشكُّل شخصيته الشعرية وفي تقويم طفولته ونشأته. في نصه “مدن الملح” ينسل سيف الرحبي من الرواية المعروفة لعبدالرحمن منيف بالعنوان نفسه، ليستحضر راويها، متخيلا عمله (ناحتاً للصحراء أحوالها المريرة التي/ تبدأ من تحديقة ذئب) وهو قريب من عمل الشاعر بخصوص الصحراء التي يجمع ملامحمها من وجودها مكانا وانعكاس الزمن فيها ووحشتها المستدعية وحوشا غير متعينة تهيمن عليها. وبذا تكتمل ابعاد صورة الصحراء كما تمثلها الشاعر، فهي مكان وزمان وكائنات تشكل مجتمعة تلك الصورة الرمزية للصحراء التي عنون بها عددا من كتاباته مثل (قوس قُزح الصحراء، تأملات في الجفاف واللاجدوى 2002)، و(أرق الصحراء 2005) وقبلهما (رجل من الربع الخالي) الذي لفت القراءات النقدية الباحثة في تمثيلات الشعراء لحواضنهم ومنطلقات تجاربهم ومؤثراتها، حيث اعطى الشاعر للصحراء موضعا محددا رغم أنه وسع مدلولها للخروج بها من ثباتها كموضع، إلى الوجود الرمزي المناسب لمكانتها في المخيلة، وما ورثه الفرد عنها في ذاكرته ووعيه وما تتيحه للخيال من نشاط وتفاعل لتوليد الصور المناسبة لحمولتها الرمزية. يلخص الشاعر في شهادة له مغزى الصحراء وتغير منظور الشاعر لها من الوجود الجغرافي إلى الوجود الرمزي، فيقول: :الصحراء تشكل عاملا حاسما في تكويني الشخصي.. فالصحراء في مجالها الجغرافي المحدد عمانيا والذي يشكل منطقة ضخمة من الربع الخالي يجتذبني سرابها ولا نهائيتها كطيف شديد الحضور منذ طفولتي على حواف هذه المنطقة، ومع ذلك التقدم في التجربة والعمر صارت اكثر حضورا على المستوى الذهني والكتابي، وتحولت الى ما يشبه المنطقة الرمزية التي تترامى بالخواء والعدم واللامعنى على صعيد الكائن والوجود البشري والكوني بصورة عامة”. وفي ديوانه “رجل من الربع الخالي” تتخذ الصحراء هذا التكوين المتنافر بفعل عناصر الجمال والخطر التي نسبها لها الشاعر، ويحمل سكانها ايضا التناقض فهم كما يقول (ذئاب الصحراء) فإزاء الشبح الذئبي وإمكان انقضاضه على الإنسان وخوفه من قدومه المؤجل واللامحدد يتحول هو نفسه ذئبا، ويحمل ذلك الوصف فخراً بطبيعة الحال كما حمل لفظ الرجل في العنوان، وفي قراءة لا شعورية، تتسقط ما يند عن الشاعر من تعبيرات لاكتشاف ما تغيبه اللغة أو الصور الشعرية، سنجد أن البور الموصوف لدى الجغرافيين بالربع الخالي سينسب له الشعر رجلا يعلن أنه منه، يتتبع خطوات أهله ويستقرئ أحوالهم مسافرين بلا وجهة ولا قرار، مبقيا وجودهم كالصحراء نفسها غامضا وبعيدا وشاسعاً، رغم انه سيصغر ليغدو وجودا خاصا بالشاعر. أمكنة مؤطرة بالوحشة الوجود الرمزي للصحراء سيفترض له اكسسوارات وتأثيثا مناسبا، فالعتمة فيه تتسع لتصبح ليلا قديما.. موغلا في القدم، فيتحد الدال ومدلوله: عتمة الليل والماضي المسفوح على رمال الصحراء، والمتموضع بكثافة على وجهها. ويمكن أن نتعرف على حقيقة الأمكنة هذه من عنوان القصيدة المعنونة (مطارح) التي ستكون نموذجا لمعاينة وجود الصحراء في شعر سيف الرحبي. يهبنا المعجم دلالة لافتة للمطارح تنبثق من معنى المطرح وتتوسع لتستدعي الطرح والترك، ثم ينشأ البعد والسفر ايضا، فالمطرح في المعجم العربي مكان بعيد وثمة من (قذف به السفر إلى ذلك المطرح ـ هاجر فلم يجد سوى ذاك المطرح) وللطرح معنى قدري فمن (طرح به الدهر كل مطرح: بعُد به عن أهله وعشيرته). وبذا يحيلنا العنوان إلى الهجرة والسفر والبعد، وهي لوازم لا تبتعد كثيرا عن دلالات الصحراء الرمزية ووجودها المتخيل في الذاكرة.. لاسيما وأن الشاعر عاش فيها طفولته. وإذا كانت البداية بالمكان فإن الاستهلال سيكون بالزمن: في الليل المتكرر مع انه حاضر بكونه يقع فيه ما سيقع في القصيدة (غالبا) لكن غالبا هذه منزاحة عن (دائما) التي ربما لم يجد فيها الشاعر ما في (غالبا) من شاعرية واحتمالية، ما يجعلها تهدد عابري الصحراء في كنف الليل. والليل كان عنوان إحدى قصائد الديوان المهداة إلى امرئ القيس للتذكير بليله الطويل وصوره المعبرة عن ثقله، فيراه ليلا غير قابل للاندحار، ولا يمكن أن تقطعه بمنشار أو تعتقله في كأس، بل يؤاخي صورته القاسية بالصحراء نفسها فيصفه بأنه (ليل وعر). يسلمنا الاستهلال إلى حضور الشاعر في النص أو الليل الذي يقتفي فيه (أثر البداة) متبادلا الوظيفة معهم لانهم معروفون بقيافة الأثر، لكن عدوى القيافة تصله؛ فيقتفي أثرهم ليكون راحلا وهميا ومسافرا خياليا يرى كلابهم النابحة ومواقدهم المريبة، معيدا صياغة فعل الاقتفاء الليلي لأثهم مرة اخرى بتقديم وتأخير (في جوف هذا الليل/ الموغل في القدم/ أقتفي أثرهم) معطيا للاقتفاء بعدا ماضويا يناسب الصحراء وليلها المتماهي معها فأصبح موغلا في القدم. وفي مثل هذا الليل والسير في ثر البداة لن يتبين الشاعر الضوء إلا على أطراف أصابعه، مختزلا الرحلة في الليل والهجس بالمكان في ظلماته. بداة راحلون في حشد هائل يصحبهم من الكائنات التي يسري إليها التعب والقدم (تجاعيد نسوره) ويخلق بحضور ثغاء الأغنام ثنائية ستضيف لوجود بداة الصحراء بعدا سحريا فهم راحلون نحو القرى المتاخمة لخط الأفق بينما النسور كائنات الاعالي والأغنام كائنات الارض تسير معهم. القصيدة التي بدأت بالاحتمال (غالبا) صرحت بهدفها فاختتمت بـ(دائماً). وبسبب غيابهم في قرى الأفق المتاخمة للسماء، فإن أحداً لن يعرف طريق مطارحهم القادمة إلا ذئاب مثلهم منسوية هذه المرة للصدفة، تماما كوجودهم الماثل على الصحراء والمتحرك نحو الافق. اللقطة واللحظة يقدم واحد من زملاء سيف الرحبي هو الشاعر عباس بيضون وصفا مقربا لعمل سيف في قصائد مرحلة الربع الخالي، ومراجعة وجود الصحراء في الذاكرة، فيقول إن بنية تلك القصائد: “في الغالب شذرات قصيرة ومقاطع خاطفة. انها لحظات ولقطات وتعليقات وتدقيقات أحيانا، أي انها مقاطع قوامها اللحظة واللقطة”. وهو تشخيص فني لأسلوب الشاعر في تجسيد رؤيته الصحراوية، فهو يكتب القصيدة القصيرة المنقسمة إلى مقاطع غير مستقلة بالأرقام أو بعناوين جانبية، معتمدة المونتاج القائم على لقطات من مشهد واسع يتفنن في رصف مفرداته، ويتسم ذلك البناء بالقصر لأن الرحبي لا يتخذ القصيدة الطويلة شكلا لعالم يريد أن يقتنص ملامحه ويضعها امام القارئ دون تداعيات، فلا يلجأ للتطويل رغم عنايته بالتفاصيل، لكنه يدعها تتشكل عبر تجاور الجزئيات وتقابل صورها، وتكملة بعضها لبعض حتى بعلاقة الضدية أحيانا.. كما رأينا في ارتفاع الأفق وانخفاض القرى المحاذية له، ووجود الأغنام والنسور في الحشد، وتيه الجبال مقابل الهاويات السحيقة بلا قرار. لقد وجد سيف الرحبي في هذه الشذرات والمقاطع ما يسمح بتشكيل حر ومكثف ومجسم للصورة أو الحالة المراد تمثيلها شعريا، وقد كان في إيقاع قصيدة النثر وميزتها السردية والبصرية ما يشجع على استلال اليومي والعابر وكذلك الدفين في ثنايا العياني والمبصَر؛ ليخلق هذا العالم القائم على تخوم الخيال، فبرزت الصحراء في توتر فضائها منعكسة على لغة القصيدة المختزلة والمكثفة بجمل شعرية قصيرة، ولكن المتمثلة لجوانب موضوعها والمحيطة بتفاصيله، مشيرة وملمحة دون ترهل أو إطناب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©