الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مشاهدات في طابور الحياة

مشاهدات في طابور الحياة
3 أغسطس 2011 22:07
ضمن كوكبة كتبت القصة في السعودية خلال العقدين الماضين، يبرز اسم جارالله الحميد القاص الذي لاذ بالعزلة كثيراً بعد أن وجد فيها حالته وطريقته كي يستمر في كتابة إبداعه. وأمامي الآن مجموعة الأعمال الكاملة في القصة، التي صدرت مؤخراً عن دار الانتشار العربي ونادي حائل، والتي شملت تجربة جارالله الحميد طيلة ثلاثة عقود مرت من الزمن، بدءاً بمجموعته القصصية: “أحزان عشبة برية”، والتي كتبها القاص ليقارب الكثير من قضايا مجتمعه ويفتتح بها أسئلة ناقدة عن الحياة والحب في مدن وقصص تلقي بشخوصها على قارعة الانتظار والقلق. قدم جارالله الحميد تجربة القصة الحديثة في وقت مبكر في تجربة الكتابة السعودية، حيث كان المشهد يرتب أوراقه ويستعد لانطلاقة أخرى سوف تشهدها سنوات قادمة، ولم ينتظر الحميد كثيراً، بل تبع تلك المجموعة بسنوات، وفي عام 1985، مجموعة قصصية أخرى تحت عنوان: “وجوه كثيرة أولها مريم”، وهي أكثر التصاقاً بالحالات الإنسانية ومفارقات الحياة التي يقدمها بلغة مميزة. ولا تخلو بعض النصوص من حس ساخر ربما عرف به جارالله الحميد في كتابات أخرى. الحميد كتب هذه المجموعة ليكون أكثر قرباً من محيطه، حيث يغوص في هموم ذلك المحيط ويسائله ويحاوره، بل ويكتب بطريقة أكثر حداثة قصته متخذاً من المقاطع والمشاهد الراجعة طريقة للكتابة، حيث فضاء القصة والتجريب مفتوح على مصراعيه أمام مبدع استطاع أن يصل بقصته إلى دهشة رسمت اسمه في خريطة المشهد الإبداعي، وهذا ما سيحققه أيضاً في مجموعة قصصية ثالثة جاءت تحت عنوان “رائحة المدن” عام 1997، وفيه علاقة إنسان اليوم وإنسان القرية والريف بالمدن الكبيرة وطريقة الحياة فيها في نصوص مثل “بنت الجيران” و”ورق الخبيز” وقصة “مانجو”، بل ويمضي الحميد في هذه المجموعة إلى القصة القصيرة وأيضاً القصيرة جداً في عوالم تتكئ على الخاطف والإيحائي بعيداً عن التفاصيل، بل تعتمد على حس القارئ واصطياده للمفارقات المدهشة فيها، كما نجد ذلك في قصص مثل “موت” و”المسجد” و”اللاعب” تلك القصة التي لا يسيطر عليها حدث ولا محور محدد، بل معيار دهشتها هو انسجام الحالة والقبض عليها من بين آلاف ما يمر علينا من مواقف صغيرة، يكاد لا ينتبه لها أحد في ضجيج الحياة. والحميد من الكتاب الذين يدركون أين يقف المبدع تماماً في طابور الحياة، ومن أي نافذة سيطل ليلتقط هذا العابر والوامض الذي قد يشبه تقنية كتابة القصيدة الحديثة كثيراً في قدرته على خلق مساحة فضفاضة وانزياح لغوي قادر على تحريك الجهة إلى الدهشة، ومع مجموعة “ظلال رجال هاربين” التي صدرت عام 1998 والتي اشتملت على تسعة قصص، تنتهي هذه المجموعة الكاملة، ويبحر بنا الحميد في عوالم لها علاقة وثيقة بالمعاش وقراءة أوجه الحياة المختلفة، وبلغة مقتصدة تدرك ما يحتاجه النص تماماً، في قصة “خماسية الأيام الأربعة”، يعتمد على طريقة المشاهد التي تكون في ما بعد صورة ما تعكس واقعاً لأحد الحالات المرضية في مستشفى وتحرر الجسد وتكبيله وكيف يستنطق كل شيء حوله في صراع داخلي عميق، مع صورة خاطفة لا تعير اهتماماً بالتفاصيل، بل بالتركيز على استجلاء هذه الحالة ـ البطل ـ في القصة، وهذا سيحدث مع قصص أخرى مثل قصة “شجيرات العتمة الصفراء”، وفي قصص أخرى قصيرة سنقرأ ذات اللغة المقتصدة والحالة ـ البطل ـ في تكثيفها.. وفي قصص مدهشة كقصة “فندق الأحلام”، يقدم باقات الزهور التي تشترك مع قصص أخرى مثل “أسفار” و”ثلاجة على شكل غرفة” و”متواليات” و”الكوب” في كشف العلاقة بين الإنسان وشعوره الجديد مع ما يطرأ ويستوقفه في مدن حديثة، حيث تكبر الأسئلة ويعانق إنسان اليوم فيها معرفته الجديدة بما حوله في دهشة بالغة محاطة بالصمت والقلق. في “فندق الأحلام”، ذلك الرجل الذي يسيطر عليه الوهم الذي يريد أن يستمر في فصوله فقط لأنه وهم جميل، ومثل كل قصص جارالله الحميد سنقرأ أسئلة الإنسان البسيط وتفاعله مع الحياة في أوجهها المختلفة، ذلك الإنسان البسيط الذي يوظفه جارالله الحميد غير بعيد من أفكاره وهمومه، بل ويقودنا سياق القصص إلى العديد مما يسقطه ببراعة حول قضايا شائكة في مجتمعه، بما فيها النقد اللاذع للعادات أو التقاليد البالية أو الأفكار التقليدية، وما يكرس في عقول الناس حول مفاهيم الحياة المختلفة في الحب والزواج والدين والحرية وخبايا القرى البعيدة والمدن الكبيرة الحديثة، وتلك اللغة المبدعة لغة القصة اليوم واللهجة التي لا يتوانى في استخدامها كلما كان الحوار أكثر انفلاتاً في ضوئه. الأعمال الكاملة للقاص والكاتب جارالله الحميد الذي يطل من حائل ليقرأ في مرآتها كل الأمكنة، كتاب مهم؛ لأنه يوثق لجميع أعماله القصصية تلك التي شكلت علامة بارزة طيلة هذه العقود.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©