الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المؤنسة أم مفرقة القلوب؟

المؤنسة أم مفرقة القلوب؟
21 أغسطس 2014 15:42
قالوا إنها تؤنس زائرها، فسموها على الأنس. لكنّ عمر ابن الخطاب نهى عن فتحها معللاً بأنها «مفرّقة القلوب»! دخلها الشاذلي بأمر من مولاه الشيخ الموقّر ابن مشيش، فأحبه أهلها وولعوا به ولعا أغاض قاضي قضاتها ابن البرّاء وأوقد الغيرة والتوجس في قلبه، فسعى بوشاية إلى الحاكم الحفصي «إن الشاذلي يشوّش عقول العامة ويدّعي أنه المهدي». فخرج منها مكرهًا، فارّا بجلده إلى بلاد مصر. أبو زيد ومرعي ويونس، ثلاثة جواسيس هلاليين جاؤوا يستبقون السيف والنار ومعاول الهدم؛ حبستْهم متوجّسة كرْبًا تسعى به الإبل على أبوابها. فرّوا من الحبس طائرين على مطاياهم، وكان أن ارتطم حافر دابة مرعي بالسور فجعل فيه فتحة ظلت إلى اليوم تسمى «باب الفلة». باب الفلة، نهج سيدي البشير، باب الجزيرة، بومنديل؛ أكداس خضار وفواكه ودجاج وكَِرش معلّقة على المخاطيف وعربات باعة متجوّلين محمّلة بشتى نتاجات المصانع الصينية؛ ملتقي صاخب لحقول تونس ومصانع شانغهاي وسيشوان، وربّات بيوت يحملن سلالهن حائرات بين قارّتين، يتجسسن دنانيرهن القليلة في حافظات النقود، يوزعنها بأكثر ما يمكن من العدل بين الجزّار والخضّار والبقّال والمصنع الصيني البعيد. إن كنتَ من هواة التجوّل والتسكّع فاسرح بين أزقّتها وشوارعها سترى العجب العُجاب، تبتهج حينًا وتغتمّ في بعض الأحيان. ستتناهى إليك أصوات عديدة إذا ما أجدت الإصغاء؛ أنّات الأقواس وشهقات الحجارة، وأزيز الأبواب تنفرج وتنغلق ومن ورائها وشوشات وهمس وضحكات مكتومة وسعال عجائز، روائح ندّ وعنبر وجاوي وحنّاء وصرغين، وأكلات غامضة شديدة البهار، وحموضة نفايات تنثرها القطط من صناديق وسطول الصفيح في أركان منزوية من الأزقّة. ومن نهج المرّ إلى نهج سيدي البشير، فنهج الصبّاغين ونهج الدبّاغين ونهج سيدي علي عزّوز ونهج الكبدة ونهج سيدي الكشباطي تتناوب وتتجاور، وأحيانًا تتداخل روائح نعناع وملوخيّة تطهى على نار هادئة لساعات عدّة مع لحم البقر المسنّ، وياسمين وفواكه متنوّعة وسمك قديم ولحم وكرش تلفحها الشمس على عتبات المجازر، وفطائر اسفنج وزلابي ومقروظ قيروانيّ مرشوش بالسمسم ومنقّع في سائل السكّر المسمّى عسلاً ـ تمويهًا وتحايلاً ـ وشاي بالنعناع ومقليّات شتّى. منبطحة بين روابي وسباخ وخليجٍ طريق لكل الغزاة؛ فينيق ورومان وبيزنط وفندال وعربان هلاليون وأسبان وتُرك وفرنج في تداول منتظم على إيقاع طبول التاريخ الصاخبة، لكل نوبته، ولكل دولته، فاصطفوا منضبطين يرحمكم الله! قال أحد مجاذيبها يوما: تعدّدت أبوابها وكثر طلاّبها، وكان ذلك مؤشّرًا على خرابها. وقال آخرون: تعدّد المشارب والمآرب من باب الحكمة الطبيعيّة القائمة على الاختلاف والتلاؤم، والتنافر والتجاذب، والتعارض والتكامل، وهي الحكمة التي ترعى التجدّد الدائم القائم على التداول والتناوب. وللّه في خلقه شؤون وفي تدبيره تصاريف. أعود إليها أليفا شبه غريب، غريباً قريباً، كما لو أنني رأيتها في الحلم في سنة بعيدة! أليفة متنكّرة، حبيبة قديمة قد استعاضت عن الألفة بالكلفة! أعبرها الآن قافزا من جسر إلى جسر، ومن طريق سريعة إلى أخرى في التواءات ثعابين هائلة متكورة فوقها؛ أحزمة من إسمنت تطوّقها وتشد رباطها، كأنما توثَق وتُحزم لأمر كريه! أتذكّر قصة فورة الغضب التي استبدت بوليّ من أوليائها يدعى بن عروس وقد ضجّ بفجورها فأقسم أن يربط عمامته في صومعة جامع الزيتونة ويسحبها ليكبّها في البحر. ولولا سماحة محرز بن خلف حارسها وحامي ضعافها ومطلقاتها ويهودها الفارين بجلدهم من أرض الأسبان: «اهدأ يا بن عروس!»، لما بقي منها حجر على حجر. هكذا ذهبت مقولتهم مثلاً : ـ «يحرزْ محرزْ يا تونس!» على خطاي القديمة؛ كاللص الوجل أمضي على خطاي القديمة. نهج الصبّاغين، وما حوله: زقاق يمسك بذراع زقاق، وثالث يغمز لهما من زاوية مواربة؛ باب أزرق عتيق نصف مفتوح، رواشن معلّقة على الجدران مثل أعشاش السنونو؛ رائحة ملوخيّة دسمة، سمك مقليّ، لحم وبصل وتوابلَ مزيجًا من كزبرة وكمون وجوز مسك وزنجبيل وأعشاب الجبل؛ لولبة تدجّن صبوة الثوم، تلفها بلحافها، تصهرها، تنتشي بحرارة فحولته المنقادة توا لغواية شبقها الطائش النزق: لها سحرها، وعطرها الذي لا تتقاسمه حتى مع أقرب الشقيقات. أفاجؤها صباحاً، وهي تنهض من نومها متكاسلة تدفع عنها غيمة النعاس في خشْخشة سعال الشيوخ وأصوات العجائز المرتعشة بتعاويذ غامضة وأدعية وتضرعات ذاوية. بائع حليب مبكِّر يدفع عربته مبوقا بمنفاخ من المطاط الأحمر، قطٌ يقفز من سطل قمامة، يفرّ قذيفةً من وبر، مطاطيًّا ينزلق في المنعرج. تكاد تقع آنية الحليب من يد المسكينة التي مر كالسهم بين قدميها، تستعيذ بالله من الشيطان وتواصل طريقها متمايلة ترنحًا عرجًا، خطوات وئيدة كأنها تغازل إسفلت الزقاق، لا تُفزع سكون المدينة العجوز كي تظل في مأمن من حمّى جارتها الطائشة الهادرة الزاعقة من تحتها. قباب من حجر الكلس العتيق، أعمدة قضمت منها أسنان الزمن النهمة ما استطاعت ولم تأتِ على شيء من مهابتها؛ حجر خام يؤنسه جوارُ الزخرفِ المحتشم للخزف الأندلسي ـ Azulejoكما يسميه البرتغاليون في غرب الأندلس ـ حجر يشع بهيبته الخام مع شيء من وساطة أزرق الأبواب والنوافذ، وبعض من آيات مسطرة بيد غير واثقة أحياناً، تفشي ارتعاشاتُ حروفها توهجاً دافئاً بملمس الحرير على الروح. في هذا البيت الملتفّ على صمت الحجر، الجاثم في سكينةٍ بين شدقي الزمن كان يقيم عبد الرحمان ابن خلدون، وفي هذا الجامع الصغير المندس في عمق الزقاق كان يلقي دروسه. تربة الباي: حجر العتبات كأنه يومئ لك أن اجلس قليلاً تجدْ قسطاً من الراحة وجرعة سكينة؛ قد لا تكون سكينة الروح التي تنشدها، لكنّ أجمل الفتيات لا تستطيع أن تمنح أكثر مما تملك، كما يقول الفرنسي. عتباتٌ حجرية ملساء يلحسها لسان الزمن فيكون لها ما يشبه البريق الخافت المحتشم، مقاعدَ لمحادثات الجارات، لتبادل صحون الكعك والملوخية؛ صحون، وأطباق، وصحاف في حركة ذهاب وإياب أبدية؛ الجار لا يأكل دون «ذواقة» الجار، احتياطا لشهوة عذراء أو حامل «بين روحيْن» أو معوزة لا تعرف طنجرتها لحما إلا من العيد إلى العيد. يعييك الركض بين شتى المدن من شتى الأصقاع، فتعود إليها بين الحين والحين، تتفقد وفاءها، تتفقد روحك فيها، لتجدها: هي المدينة، في هيأة عجوز هرمة، خاوية الفم، تنهج وتزفر وتتقدم بخطى وئيدة، عرجا أحيانا، لكنها تلك الوقورة دوما: مكابِرةٌ، تبتسم بسماحة للغرّات الطائشات من حولها، متوسدة مهابة عز قديم وبقايا سخاء تقتره الآن تقتيرا احتياطاً لأيام مقبلة غير مأمونة. *** شيء شبيه بجفوة متبادلة. أعبر شارعها الرئيسي مسرعاً مثل لص، أو مشرد معدم تخجله الأضواء وبريق واجهات المحلات. أنت متنكر، وهي جحود. ستنام في الخلاء إذنْ، أما هي فستتوسّد حجراً. ***أجل، أنام في الخلاء! بيننا جفوة، هي الهديّة الوحيدة التي نتبادلها في كل الأعياد. ولنا ما يكفي من الملل كي نجدد اللقاءات مجامَلةً حينا، وأحيانا لأن ليس لدينا من شيء نفعله وقد أعيانا الجلوس صامتيْن كل في ركن مثل زوجين عجوزيْن متنابذيْن. أفرك الصدأ عن ولع قديم في زاوية معتّمة من الذاكرة، دون قناعة، دون مزيد طمع؛ بينما تفرك هي بظفرها في قاع علبة قديمة للزينة، تشحذ شيئا من حمرة لوجنتيها الشاحبتين أمام الزائر الضجِر المملّ. أقف أمام عتبة بيتها، لا تومئ لي؛ أمر أمامها، لا أحيّي. لا أبتسم. نسلم على بعضنا دفعا للملامة، أو لمجرد واجب غامض لم نعد ندرك له معنى أو مبررا. أدخل مقهى ماريوس؛ أشرب كأساً، كأسين، ومن حولي صمت، نظرات مواربة، أسئلة باردة. . نتعامل بأدب موجز مختصر يكاد لفرط تأدّبه ينطق نفوراً. ***بائع السمك في السوق البلدية المسماة هنا «سوقاً مركزية»، يدرك، أو يتوهم أنه يدرك أنني متطفل. وأنا حقا لست هنا من أجل بيع أو شراء. . بل متسكع أسواق كعادتي في كل بلد. لكنني، نكاية في عينه الوقحة، سأشتري اليوم سمكاً. ***بيت الضيافة، يا بيت الضيافة! لستَ بيتًا، وأنا لستُ ساكنا؛ لأنني لست مقيما. لبيوت الضيافة كلها طعم الأشياء النكرة، طعم حياد بارد. وأنا المسافر دون انقطاع بين بيوت الضيافة من مغارب الأرض إلى مشارقها، هل غدوتُ محايداً، بارداً، نكرة، أنا أيضاً؟ أجل، أنام في الخلاء وما من حجر أتوسده.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©