الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

روبن ويليامز.. صانع الضحك الكئيب

روبن ويليامز.. صانع الضحك الكئيب
20 أغسطس 2014 20:00
من الصعب توصيف الصراع الذاتي والنوازع والنوايا الخفية التي دفعت الممثل روبن ويليامز، نجم الكوميديا الأشهر في عاصمة السينما هوليوود إلى الانتحار استنادا إلى روايات متضاربة حول إصابته باكتئاب حاد نتيجة الإدمان، أو نتيجة مرض مستعص، أو تفسيرها سيكيولوجيا بفوبيا النسيان وذبول الشهرة، وهناك من أرجع دوافع الانتحار إلى انتكاسات مادية متوقعة كانت ستقوده حتما إلى إعلان الإفلاس. وبعيدا عن حدود الوهم والمصداقية في هذه الروايات، فإن حادثة انتحار ويليامز (63 عاما) في منزله بصمت ودون مقدمات صارخة، أتت كي تقطع وبعنف شريط النهاية الواقعي جدا، بخاتمة سوداء ومغلقة لشخص استطاع خلال أربعين عاما من الابتكار والارتجال والتنويع الأدائي والاستعراضي الساخر والمبهر في التلفزيون والمسرح والسينما أن يشيع طاقة ديناميكية متدفقة من البهجة، ومن سحر اللحظة الكوميدية الفارقة والملفتة بين جمهوره، وخصوصا بين فئة المراهقين والأطفال الذين كبروا مع ويليامز من خلال هذا الإرث الحافل لسينما الترفيه ورسوم التحريك في المعقل الهوليودي العتيد، وصولا إلى شاشات العالم وقلوب المشاهدين. خرج ويليامز الأيرلندي الأصل من مناخات طفولته الملتبسة بالخوف والوحدة و"متلازمة البحث عن الحب"- كما وصفها ويليامز نفسه- بعيدا عن والديه المنشغلين بالوظيفة وسط مناخ اقتصادي صاعد وتنافسي في أميركا الخمسينات، وفي معية خادمات المنزل اللاتي كنّ يتحولن في خياله الطفولي إلى كائنات غرائبية وشريرة، جسدها بعد ذلك في أفلام صورت هذه التحولات الذهنية والانطباعية الأقرب إلى "مسرح الجروتسك" كما في فيلم: "جومانجي" وفيلم: "ليلة في المتحف" بأجزائه المختلفة (الجزء الثالث بانتظار عرضه الرسمي الأول خلال الأشهر القادمة) ميكانيزمات التوحش قد يكون لميكانيزمات التوحش التي تنتجها طبيعة الحياة الخاصة لمشاهير السينما الأميركية دورا هنا في وصول نجوم كبار ومنتشين بشهرتهم ظاهريا إلى حافة الانهيار الداخلي، وإلى صعوبة التكيف مع فكرة الانعزال والاعتزال بسبب المرض أو الشيخوخة وخفوت البريق السينمائي وضمور الفلاشات الساطعة، وضياع فرص استقطابهم في أفلام جديدة من قبل أباطرة الإخراج والإنتاج في هوليوود. يبرز تحدي الفنان هنا من خلال شرطين ملزمين: أن تبقى حيا ومتألقا تحت الأضواء، وأن لا تتعرض لانتكاسات مادية! وهذا الإيقاع الاحترافي المنهك والشرس والمتطلّب دوما، قد يكون من المسببات الخفية لإقدام كثير من هؤلاء النجوم على الانتحار النفسي قبل الجسدي، ونذكر منهم الممثل الشاب هيث ليدجر صاحب دور الجوكر في فيلم "باتمان" الذي تناول جرعة زائدة من العقاقير المخدرة، والممثل الأربعيني المميز فيليب سيمور هوفمان الذي رحل قبل أشهر بعد تعاطيه جرعة زائدة من الهيروين، وفي ظروف مشابهة توفيت الممثلة بريتني ميرفي (32 عاما) صاحبة الأدوار اللافتة في أفلام حاضرة مثل: "مدينة الخطيئة" و"كلوليس" و"ثمانية أميال"، كما لا يمكن إزاحة فرضية الإرهاق المزمن والإيقاع الداخلي الضاغط عن مسببات رحيل ملك البوب مايكل جاكسون إثر تعرضه لأزمة قلبية حادة بعد تناوله عقاقير زائدة من المهدئات والمسكنات قبل جولته العالمية في العام 2009 والتي ظلت حبيسة البروفات الأولية وكواليس الحفل الموثقة في فيلم تسجيلي عابر، حمل عنوان: This is it. بالنسبة لروبن ويليامز فإن الانفصام بين حياته الشخصية وأدواره الكوميدية كان أشبه بقناع التخفي الذي ازداد سماكة في السنوات الأخيرة، رغم أن أدواره الجادة في أفلام سابقة مثل دور القاتل في فيلم "أرق" مع الممثل آل باتشينو، ودور المعلم في "مجتمع الشعراء الموتى"، والطبيب النفسي في "جود ويل هانتنج"، ودوره المميز في فيلم "يقظات" و"فيشر كينج"، ودور المجرم السايكوباتي في فيلم "ساعة واحدة لتظهير الفيلم"، وبنحو متوازن بين الكوميديا والنبرة الذاتية المؤلمة في دور الأب المتنكر بثياب المربية في فيلم "السيدة داوتفاير"، كانت أدوارا نابعة من ظلال وتهويمات وتقاطعات الحزن الشخصي والكآبة الموجعة التي طالما أخفاها ويليامز عن المحيطين به، وبالأحرى طالما أذابها في هدير وضجيج أدواره الكوميدية المتلاحقة وفي تصديه للأداء الصوتي لأفلام الكرتون وأفلام الخيال العلمي الشهيرة وذات الميزانيات الضخمة مثل: "علاء الدين"، و"الذكاء الاصطناعي" مع المخرج ستيفن سبيلبرج، وفيلم الرسوم عن حياة البطاريق "الأقدام السعيدة"، و"الخطّاف" و غيرها. مسيرة متنوعة بدأت مسيرة ويليامز مع الأداء التمثيلي بعد تخرجه في مدرسة جوليارد في العام 1976 بصحبة طالبين آخرين نالا شهرة كبيرة في السينما الأميركية بعد ذلك، وهما كريستوفر ريف أشهر من تصدى لدور سوبرمان عن راوية الكوميكس الأكثر تداولا بين الأطفال والمراهقين، وهو الممثل الذين استمرت صداقته مع ويليامز دون انقطاع حتى وفاته في العام 2004 بعد معاناة طويلة مع مرض الشلل الرباعي بعد سقوطه عن ظهر حصان. الممثل الثاني هو ويليم هيرت صاحب الأدوار المميزة في أفلام مثل: "تاريخ العنف" و"قبلة المرأة العنكبوت"، و"القرية"، و"سائح بالصدفة". وكانت الاستعراضات الكوميدية الحية أو ما يتعارف عليه بـ: (الستاند آب كوميدي) هي المجال الاحترافي الأول لروبن ويليامز، والذي فجّر من خلالها ديناميكيته المذهلة ومواهبه الأدائية وأسلوبه الخاص في التقليد والمحاكاة والإرتجال والتعليق الساخر على الأحداث المحلية والعالمية في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، فتحوّل في فترة قياسية إلى ظاهرة كوميدية طاغية في الوسط الفني الأميركي، أما دوره السينمائي الأهم في تلك الفترة فتمثل في تجسيده لشخصية البحار (باباي) للمخرج الفذّ روبرت آلتمان الذي أراد أن يستثمر قدرات ويليامز لصياغة فيلم غنائي وتهكمي مغاير لقصة ومغامرات (بوباي) التقليدية. خلال الأعوام بين 1978 وحتى 1982 عمل ويليامز على تنفيذ دور كائن فضائي في سلسلة حلقات تلفزيونية بعنوان: (مورك وميندي) والذي تحول بعد ذلك إلى ماركة تجارية رائجة، وتم تحويل فكرة المسلسل إلى فيلم بعنوان: "أيام سعيدة" شارك ويليامز في بطولته مع بعض التغييرات في الحبكة والتفاصيل الفنية والتقنية. أفلام علامات ولكن الدور الأدائي الأهم الذي تصدى له ويليامز ولفت نظر النقاد السينمائيين كان مقترنا بشخصية المذيع الذي يتفرغ لتسلية الجنود في فيلم: "صباح الخير فيتنام" مع المخرج العبقري باري ليفنسون وهو الدور الذي أهّله للمنافسة على جائزة أفضل تمثيل رجالي في منافسات الجولدن جلوب العام 1987، وتتالت بعدها الأدوار التي ترشح من خلالها لجوائز الأوسكار مثل دوره في فيلم: "فيشر كينج" و"مجتمع الشعراء الموتى" و"السيدة داوتفاير"، وفاز بجائزة الأوسكار الوحيدة في مسيرته الفنية كأفضل ممثل دور ثان، من خلال أدائه المبهر لشخصية الطبيب النفسي في فيلم "جود ويل هانتينغ" العام 1998. ورغم غلبة الأدوار الكوميدية على أعماله السينمائية، إلا أن ويليامز قدم أدوارا أخرى صعبة ومركّبة في أفلام ذات صبغة أدبية، أو تدخل في سياق الأفلام المهتمة بتحليل دوافع الجريمة اعتمادا على التاريخ الشخصي المريب والمتأزم للقتلة المتخفين وراء أقنعتهم الظاهرية العادية والمسالمة، وكان أداؤه في فيلم: "ساعة واحدة لتظهير الفيلم" معبرا بدقة عن ملابسات التحول الخطر والمفاجئ لشخصية القاتل والتي لا يمكن التنبؤ بردات فعلها بعد وصولها لذروة العنف والانتقام من الذات ومن الآخرين في لحظة جنونية متفجرة، أما فيلم الرعب الصريح الذي شارك به ويليامز فكان بعنوان: "المستمعون ليلا" وجسد فيه دور مذيع يعمل بدوام ليلي متأخر كي ينصت لقصص واعترافات المستمعين كنوع من التنفيس أو التعبير الذاتي عن المشاكل اليومية والعائلية والشخصية التي تواجههم، عندما يكتشف أن أحد المراهقين الذين أسس معه علاقة صداقة من خلال البرامج هو شخص غير موجود أصلا في الواقع، فيبدأ رحلة البحث المنهكة والمرعبة لمعرفة حقيقة هذا المراهق الشبح! في آخر أفلامه بعنوان "أكثر رجال بروكلين غضبا" والذي لم يعرض بعد إلا على مستوى ضيق بين النقاد، جسّد ويليامز دور مريض يخبره طبيبه الخاص بأنه مشرف على الموت خلال 90 دقيقة فقط، ليبدأ هذا المريض وبمراجعات ذاتية منهكة في ترميم ما تبقى من حياته، وتصحيح المسارات الخاطئة التي اتبعها رغم الفترة الضيقة الممنوحة له لتقييم علاقته مع الآخرين والنظر إليها من زوايا جديدة وغير مكتشفة من قبل، ولكنه يصطدم بمفاجأة غريبة، وهي أن تشخيص الطبيب لحالته الصحية كان خاطئا، وأنه بات يملك الكثير من الوقت كي يتصالح مع ذاته مجددا ومع الحياة التي لم يشعر بقيمتها إلا خلال تلك الدقائق العابرة والحرجة. ولكن على عكس المسار الدرامي المبهج للفيلم، سقط ويليامز في اختباره الواقعي والحقيقي مع الحياة عندما لجأ للانتحار كمعبر للخلاص من أزمة ذاتية بدت بالنسبة له شديدة وضاغطة جدا، ولا يمكن معالجتها سوى بإطفاء الشمعة الأخيرة لحفلة صاخبة امتدت لأكثر من أربعين عاما، وبكثير من النجاحات والقليل من الإخفاقات، والتي يبدو أنه راكمها طويلا تحت أضواء الشهرة والثروة والإدمان العبثي والمتواصل على الكحول والمخدرات، كي تتسيد هذه الإخفاقات المشهد برمته وتتحول إلى ثمرة مسمومة، ويتحول معها صانع الضحك إلى ضحية لكآبة غائرة لا يمكن الفكاك من تبعاتها ودماراتها. ============ عن انعطافة ويليامز المدهشة في "صباح الخير فيتنام" صوت الضحية وحنجرة القاتل يمكن اعتبار الدور الذي أداه روبن ويليامز في فيلم: "صباح الخير فيتنام" (إنتاج 1988) واحدا من أهم وأفضل الأدوار التي تصدى لها مبكرا وظلت لصيقة به ويأعماله الاخرى، رغم كل التنويعات والابتكارات الأدائية التي قدمها في أفلامه اللاحقة. في هذا الفيلم الذي أداره المخرج الظاهرة باري ليفنسون ثمة ملمح سينمائي فريد تجب الإشارة إليه، وهو أن ليفنسون اختار السيناريو كهيكل عام وخارجي للفيلم، أما التفاصيل المشهدية والحوارات وردات فعل الشخصية الرئيسية فأوكلها جميعا لويليامز كي يملأ الشاشة بطاقته الأدائية، وقدراته الخاصة على الإرتجال واعتماد المفارقة والمحاكاة والتقليد وكوميديا الموقف التي أبدع سابقا في توليفها على مسارح الاستعراض الحي، كي تكون هي قوام وأساس الفيلم، واللافت أن هذا الفيلم لم يبن على استعراض تاريخ الشخصية الرئيسية فنحن لا نعرف أي شيء عن طفولة الشخصية أو أحلامها وطموحاتها والعقد التي يعاني منها والمصاعب التي تقف في طريقها، ولم يحتو الفيلم على إضاءات حول الحبكة الأصلية أو نقطة اللاعودة التي يجب على الشخصية أن تجتازها كي يقطع الفيلم مساره الدرامي المقنع وصولا إلى مشهد الختام. يؤدي روبن ويليامز هنا دور (أدريان كرونيوار) الجندي في سلاح الجو أثناء الحرب الفيتنامية والذي يكلف بالترفيه عن الجنود في مواقع القتال المختلفة من خلال تقديمه لفقرات فكاهية ومونولوجات ساخرة تبث إذاعيا لهؤلاء الجنود. وفي إحدى جولاته الخارجية والاستكشافية تتعطل سيارة المذيع كرونيوار في غابة فيتنامية نائية، حيث يبدأ في التخاطب مع وحدته العسكرية من خلال جهاز إرسال بحوزته، وعندما لا يجد ردا يبدأ في التعليق وبشكل فكاهي صارخ على تفاصيل المكان المحيط به، يصادف بعدها فتاة فيتنامية تعبر بالقرب منه فيسترسل في الحوار الساخر معها، دون أن تفقه منه شيئا، ثم يقرر الذهاب معها إلى القرية التي تسكنها وهناك يتعرف على الجانب الآخر المشوه لهذه الحرب المفروضة على أناس بسطاء ومسالمين أجبروا على الدفاع عن أرضهم وممتلكاتهم وسط صراعات سياسية وأيديولوجية بين قادة الحرب في فيتنام وأمريكا والتي يذهب ضحيتها هؤلاء الأبرياء دون ذنب ارتكبوه. يقرر المذيع هنا إيصال صوت هؤلاء الضحايا ويقوم بتعليم الفتاة الفيتنامية التي أحبها ومعها أفراد القرية بعض المفردات الإنجليزية بعد أن يتعاطف مع مأساة عائلتها، كما يساهم في الدفاع عن القرية في وجه عصابات إجرامية مسلحة تحاول الاستفادة من الفوضى الشائعة أثناء الحرب، ومع وصول الفيلم لمشاهده الختامية تتوضّح لدى المذيع بعض الجوانب الخفية لهذه الحرب القذرة والعبثية ويتحول إلى ناقد ومناهض لها بعد أن استشعر عن قرب كل الفظاعات والآلام المترتبة من هكذا صراعات وحشية تقوم على الجشع والأوهام السياسية المريضة. احتشد فيلم "صباح الخير فيتنام" بالكثير من الشخصيات الثانوية التي بدت للوهلة الأولى وكأنها محايدة وبريئة وخصوصا في الجانب الأميركي، ولكنها كشفت بالتدريج عن ردّات فعل شرسة وغير إنسانية لشخصيات معقدة ومهووسة، عندما يتعلق الأمر بالنظرة الدونية والعنصرية للعدو، بغض النظر إن كان الطرف المقابل هم من مجموعة من الفيتناميين المدنيين أو المحاربين في ساحة القتال، بينما كان الدور الذي أداه ويليامز في هذا الفيلم ملفتا من ناحية الانعطافة الدرامية لشخصية المذيع من النقيض إلى النقيض، حيث يتحول الحس التهكمي المفرط ضد الفيتناميين إلى حس إنساني وتفاعلي مع المأساة الكبيرة التي لمس جوانب عديدة منها شخصيا. استطاع ويليامز من خلال هذا الدور الاستثنائي الترشح لجائزتي الجولدن جلوب والأوسكار في السنة الني عرض فيها الفيلم، وكان أداؤه الناجح بمثابة انطلاقة مشجعة له ولمخرجي الصف الأول في هوليوود، كي يمنحوه المساحة الأدائية التي يستحقها، والتنقل بين ضفتي الكوميديا والتراجيديا في أفلام شاهدناها له خلال العقدين السابقين، وما زالت مشاهدها المضحكة والمؤلمة حاضرة ومؤثرة، وكأن روبن ويليامز ومن خلال هذا الشريط الطويل من المسرات والأتراح استطاع أن يستدرجنا لسحر السينما ودهشتها رغم المشهد الختامي المعتم الذي أنهاه بقرار شخصي غامض ومناقض لصورته المعتادة على الشاشة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©