السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ملكوت الرجال

ملكوت الرجال
20 أغسطس 2014 20:00
إنه ملكوت الرجال! من قال إن الرجل لا يكمله سوى ما ينقصه، ظلم الرجال! ارتباط الرجل باللغة أشبه بخوض حرب دافئة بين جنسين، حرب بعيدة عن العنتريات الجندرية التي تجنح للشوفينية أو التفرقة الجنسية (Sexism)، ولكنها في كل أحوالها استئثار ذكوري بالأداء الإبداعي للرجل في حلبة مصارعة الثيران “كاتدرائية لاس فينتاس في مدريد”، أقوى معاقل الذكورة! الملحمة هنا للرجال فقط، على الأقل حتى عام 1999، حين نجحت إسبانية باختراق الحلبة، لتنافس الرجال في مسرح مزيف، الحقيقة الوحيدة فيه هي الموت، حسب تصور الفرنسي رولان بارت، فأين السؤال! هل هو معترك تنافسي؟ أم ثأريات غوائية؟ وبين هذا وذاك، كيف تطوع الأنثى حلبة الثيران بممارسات اقتصرت في الذاكرة الزمنية على الرجال؟ من ينتصر على الآخر: اللغة أم الملحمة؟ التحدي أم التقليد؟ الغواية أم المساواة؟ الذبح أم الرقص؟! الغياب أم الحضور؟!! اكتمال اللغة عند اكتمال القمر في اللغة، يضطرب مزاج الطبيعة، فيهيج دم الحلبة، إذ يبلغ تأثير الجاذبية مداه، حينها يبدأ الفارس “البيكادور” بتهيئة القارئ لولوج اللغة بعدة الـ”Toreador” (الماتادور أو التوريرو)، مأخوذا بشال القمر الذي ينسل من جرح الأرجوان، ويتصبب من شفاه القرمز، ملتهما جذوة العقيق. . . هذه أحابيل رجال، يجنحون إلى اللغة فتجنح لهم، في احتفال قرباني يُقَدّم فيه “الثور الإله” صنو الرجل ـ أضحية لآلهة الخصوبة، مقوضا برزخ التقسيم الثنائي للمواصفات الإبداعية، بين الذكر والأنثى، لأن التكوين البيولوجي للمايسترو يحفز الهرمونات اللغوية على استنباط خصائص فيزيولوجية جديدة تطيح بالأنماط التقليدية في مجال النقد الأدبي، ضمن تكتيك غوائي، يعزز الثقة بين الجنسين، طالما أن الحلبة ليست مجرد مسرح لعروض ذكورية بقدر ما هي انتماء لفلكلور ثقافي، وطقوس دينية قوامها استرضاء المرأة كآلهة للخصب والعطاء! سأعترف أن بيني وبين (إرنست) علاقة تحضير أرواح، وهي أحد أرقى مزاجات العشق قبيل اكتمال القمر، فكلما تأبطت موتي، دخل هذا اللعين إلى حجرة المقبرة ليحضر لغتي بكأس نبيذ، وشتيمة، وأضحية. . . ثم بندقية محارب قديم يسددها إلى فمي كقُبلة موت! (حكاية تافهة) لن ينكر الصياد، إقصاءه للمرأة عن عوالم البطولات القصصية، ليست لأنها منافسة للرجل في ميدان الفروسية الإبداعي، على طريقة الشوفيني فرويد، إنما لأن تاء التأنيث في معجمه الذكوري، لن تسبغ على المرأة صفتها البيولوجية، بل ستكون عورة لغوية متضخمة في الذات الإبداعية للرجل! إنك بمجرد التقاط العنوان “رجال بلا نساء” ستحل لغز الحدوتة، فكل ما كتبه إرنست همنغواي عن الرجال، كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بالنساء، فـ “لا” المتوسطة بين الجنسين ليست هي “لا” النافية للجنس الثاني بعدها، ولا هي تستثنيه من الجنس السابق لها، إنها جاءت في عنوان المجموعة القصصية، كعروة وثقى بين الجنسين، تعزز حضور الجنس الغائب، بالجنس الحاضر في غيابه، فما ألعن الذكاء! تعال معي إلى ثكنة ذكورية، يؤمها عساكر ومصارعو ثيران وجنود، وفرسان، ومجرمون، ولامهزومون كـ “مانويل جارسيا” الذي مات في حكاية تافهة، وهو يحض العقل على المغامرة بسؤال العبث: “هل للصعاليك آداب سلوك”؟ “كل الصحف في الأندلس خصصت ملاحق خاصة بموته، رجال وأولاد اشتروا صورا ملونة له، ونسوا الصور التي له في ذاكرتهم، مشى في جنازته مئة وسبعة وأربعون من مصارعي الثيران الذين تنفسوا الصعداء بعد رحيله، لأنه كان يقوم بحركات لم يستطيعوا الإتيان بمثلها في الحلبة”، فيا لقهر الرجال! تعال معي أدلك على النخاز “زوريتو” الذي أصاب الثور في كتف الآلهة، على قتلة يسعون في أثر “أولي آندرسون” لسبب يجهله الكاتب، ويعرفه قارئ ما، ورجال يعبرون الحدود بحقائب سفر وحيدة، يستقلون مركبة يعتلي سقفها مسافر أنيق ووحيد. . . يكتفي بنصف المسافة، ويترجل عن ظهر الطريق بلا إيماءة وداع واحدة، على مصابين في حروب لم تعد للرجال رغبة بخوضها، في مشفى معلق بين جسرين، يؤمونه ليرتقوا أعضاءهم المبتورة بآلات بديلة، ويغادرونه ليختبروا حنكة الأقدار بغربال الرفقة. . على رجل يصعد تلالا بعيدة كأنها أسراب لفيلة بيضاء، تمر كقوافل من الغمام في عيون امرأة مهجورة على سرير المطر! “ماذا يقول الوطن” إذن؟! بلاد تتسع لتمتد وترحب في حكايات منتوفة وتضيق برجالها المهمومين بها، فأية أرض تسكن الرجال إذ يرحلون! هناك بين جاك وولكوت، ملاكمون يراهنون على الدم، والليرات، والأحزمة الذهبية حول خصور مترنحة فوق منصة تكتظ بالدوران، ويكتفون بكتابة الرسائل لامرأة وراء الحدود، فلاحون، هنود، مخمورون، وسنيور تينينتي، الآن يتمدد، كي لا ينام، رجل من أرق وقلق يواظب على تقلبه في المضاجع، ليراقب ديدان القز ويصغي إلى حركة الكائنات الليلية، وشخير الجنود في ثكنة العتمة، يحاول أن يتسلى بالذاكرة، لكن النساء يعبرن ذاكرته ثم يتبخرن، كأنهن لم يكن، يفكر بهن مرات قليلة، لكنهن ينطمسن، فيعجز عن استدعائهن، يبهتنَ، يصبحن كلهن صورة واحدة، فيكف عن التفكير بهن دفعة واحدة، يرى مرافقه أن الزواج علاج من التمدد بلا نوم، ويرى هو متعة بالتمدد وحيدا حتى الموت بلا نوم. . . رجال. . . رجال. . . رجال. . . لا تقل لي أن الخشونة التي تستبد بهذه الحكايات مبعثها استئثار الرجل بالبطولة القصصية، إياك أن تفعل! لأن الرقة الصلبة التي تسم هؤلاء الرجال ليست تعويضا عن غياب العنصر الأنثوي القاسي في حكائيات خشنت لغياب القسوة لا لحضور الصلابة، وهناك فرق بين طبائعية النقصان وطبع الاكتمال، لأنك ستتحيز للرجل من تولع بالطبع، يضع الكاتب أمام تحد حقيقي للذات التي تفرض بعدا أنثروبولوجيا يرتكز على جنس بشري واحد دون سواه، في إطار نفسي محكم، يغوص عميقا في التكوين الذهني والعاطفي لهذا العنصر، بمعزل عن الاستناد إلى ضلع أعوج فائض عن حاجة الاكتمال العضوي للتطور القصصي، مما يبعده عن الطابع الثأري للأجناس المتوازية! همنغواي لا يضطهد النساء حين يغيبهن عن قصد عن لا وعيه السردي، لأن الخطاب الذكوري في عمله الإبداعي مشحون بالحالة الوجدانية للرجل بعيدا عن الخضوع لشعارات تقويض العنصر المضاد الذي يخل بالتوازن الجنساني في الأدب، فإن عدتَ لقصائد العرب في الجاهلية تجدها ذكورية بامتياز وإن جنحتْ إلى النسيب والبكاء على أطلال الحبيبة في مقدمتها الطللية، لأن العرف الشعري كان يقتضي الالتزام بها، أكثر منه تعبيرا عن حاجة عاطفية، حتى أن الدكتور نصرت عبد الرحمن اعتبر أن المقدمات الطللية ما هي إلا استعطاف للآلهة بصلوات استسقائية، وليست بكائيات على حبيبة، لما يتبع رحلة الظعائن من مظاهر طبيعية يتجلى فيها الشح والقفر، وقد توافقه تماما حين ترى التسلسل الموضوعي للقصيدة والذي يغرق في وصف الخيل ورحلة الصيد والبلاء الفروسي في المعارك ثم مركز الشاعر من القبيلة، حتى حين تقف بالمتنبي، فإنك لن تجد في شعره سوى قصيدة غزلية واحدة لخولة، لم يثن عليها بأخرى، سوى حين رثى جدته، وحين زارته التي بها حياء، فليس تزور إلا في الظلام! لا بل إن مدحه لسيف الدولة كان غزله الأجمل، في تاريخ الغزليات العربية منذ الجاهلية، وليس أدل على ذلك من قوله الصريح: أحبك يا شمس الزمان وبدره/ وإن لامني فيك السهى والفراقدوقوله: مالي أكتم حبا قد برى جسدي/ وتدعي حب سيف الدولة الأمموليس بين همنغواي والمتنبي ولوركا وتحديداً في قصيدته الرقيقة “مرثية إجناسيو سانشيز ميجاس” مصارع الثيران، وقصائد الشعراء الجاهليين بعد القفز عن المطلع الطللي “حمال الأوجه” في التأويلات النقدية، سوى تقاطع حميم بين لغة الرجال في ذكورية اللغة، وبين رقة الحضور في غياب النقيض، وكلاهما يسعيان لتكريس الجماليات الأحادية في مرايا لغوية لا تتسع لوجهين، أو في أسرة أرِقَةٍ لا تستوعب سوى وسادة خالية! طوبى للرجال إذن، لوجعة الوتر الوحيد على زنار الربابة الصلدة، للغة الكريستال الذي يقدح بحجر غرانيتي مضمر في عزف منفرد. . إنها حمم لا يدري كنهها سوى الرجال، الذين لا يحتاجون لتبريرها أو الدفاع عن شرعيتها كلما راودهم عنها حفيف الناي يتصبب من رقصة الأفعى فوق مذبح النبي، وهو حتما ما سيشكل تعويضاً عاطفياً للأنثى التي تستجلي كنه النقيض بغيابها لا بحضوره، كلما تمايدت حول طبق الفضة كي ترتكب الذبح بالرقص، فويلاه ما ألذ الرجال!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©