الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

منظومة الإنتاج الكبير تتحكم بالثقافة

منظومة الإنتاج الكبير تتحكم بالثقافة
31 يوليو 2013 22:52
في كتابه “الثقافة في عصر العوالم الثلاثة” الذي يحتوي على مجموعة من أوراق الدراسات البحثية، يحاول الكاتب الأميركي مايكل دينينغ المنتمي لتيار اليسار الجديد أن يتقصى حال الثقافة والتحولات التي طرأت على وضعها ووظيفتها في العالم، لا سيما في القرن العشرين الماضي، حيث احتلت في النصف الأول منه مؤخرة المشهد، في حين شهدناها في النصف الأخير منه تتصدر واجهة المشهد. في مقدمة الكتاب يبين الباحث معنى هذا التحول الذي خضعت فيه الثقافة لقواعد الإنتاج الكبير، كما هي حال سيارات فورد، إذ أصبحت للكتل الجماهيرية ثقافة، كما أصبحت للثقافة كتلة بعد أن أصبحت موجودة في كل مكان ولم تعد ملكية خاصة بالمثقفين أو المتأدبين. هذا الانتشار الواسع للثقافة استدعى وجود دارسين ونقاد لها بصورة مضطردة في الحياة السياسية والفكرية؛ ولذلك بات يطلق عليها في السنوات الأخيرة الانقلاب الثقافي في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. الدراسات الثقافية يركز الكتاب على دراسة نشوء الثقافة في الوقت نفسه الذي يحاول فيه أن ينأى عن أغلب دارسي الثقافة ومنتقديها من الكتاب المعاصرين من حيث طبيعة النظرة الواسعة والضيقة في آن معاً للدراسات الثقافية، كما يتجلى ذلك في في اعتباره للانقلاب الثقافي في الحياة السياسية في عصر العوالم الثلاثة بوصفه ظاهرة أكبر مما جرى تصويرها له. وقد انتشرت في مختلف مناطق العالم على الرغم من الاختلاف الظاهر على مصطلحاتها. يرد الباحث هذا الانقلاب إلى تفاوت مستويات التطور في الثقافة العولمية التي انبثقت عن النضالات الثقافية الأيديولوجية في العوالم الثلاثة. لكنه يشير إلى التباينات في المصطلح الذي يطلقونه على معنى الثقافة بسبب الاختلاف في اللغات. أما النظرة الضيقة التي يقدمها المؤلف لمفهوم الدراسات الضيقة، فهي ترتبط بما تعرض له مفهوم الثقافة من تحول شامل منذ منتصف القرن الماضي ما دفع بالكثير من الدراسات الثقافية آنذاك إلى استبدال كلمة الثقافة بعدد من المصطلحات البديلة، الأمر الذي يجعل من محاور هذا الكتاب أبعد ما تكون عن دراسة فكرة الثقافة، بل هو بحث في الثقافة ومترادفاتها في عصر العوالم الثلاثة بعد أن تولى عصر انتصار الدراسات الأكاديمية للثقافة في تسعينيات القرن الماضي. إن تمايز الدراسات الثقافية في ذلك العصر كان نتيجة لظهور جوانب من الحقيقة الاجتماعية والصناعات الثقافية والإعلام الجماهيري ووسائل الاتصال التي كان لها منطقها الخاص واستقلالها الذاتي. اليسار الجديد ظلت عين اليسار الجديد مع هذا الانقلاب الثقافي مركزة على الإعلام الجماهيري؛ ولذلك لم تكن مسألة الثقافة تعبيراً عن توافر التكنولوجيات الجديدة للمعلومات وأدوات الاتصال الجماهيري ما جعله مشغولاً بإعادة تشكيل الحيوات والنضالات اليومية للطبقات والشعوب الأدنى مرتبة عبر تلك الأشكال الجديدة، في الوقت الذي ارتكز فيه المفهوم الجديد بعد الحداثي للثقافة على تعميم شكل السلع في مختلف مناحي الحياة. ويؤكد دينينغ أن الانقلاب الثقافي قد ساهم في إطلاق شبح السياسات الثقافية والراديكالية الثقافية والثورة الثقافية الذي لازم العوالم الثلاثة، حيث بات الانقلاب الثقافي سمة اليسار الجديد في هذه العوالم جميعاً، لكن الموروث الفكري لهذا اليسار حاول أن ينظر إلى العالم بوصفه واحداً، في حين أن التحول في تثمين الثقافة كما يراه يمثل حالة سياسية جديدة. من هنا ينطلق الباحث في محاولة فهم دواعي ظهور الثقافة الكونية، الأمر الذي يستدعي منه إلقاء نظرة فاحصة على هذه اللحظة بما تمثله من قطيعة مع عصر العوالم الثلاثة. الفصل الثاني من الكتاب يبحث في في مفهومي العولمة والثقافة من حيث السياق والمرحلة الناجزة، كاشفاً عما تعنيه التفسيرات المحكمة للعولمة بوصفها سياقاً من دلالة على حدوث نقلة تاريخية، بينما العولمة لا تدل على معنى نهاية التاريخ بل لنهاية عصر العوالم الثلاثة. كذلك يتناول موضوع الاشتغال على الثقافة من خلال تفحص الأفكار التي تقدمها المناظرات الدائرة حول مفهومي الثقافة والسياسة التي ترافقت مع الانقلاب الثقافي الذي حدث في الحياة الفكرية إبان الربع الأخير من نهاية القرن المنصرم. التحليل السوسيولوجي يقدم الكتاب محاولة لإعادة النظر في الكيفية التي حدث فيها الانقلاب الثقافي، لكنه قبل هذا يعود للبحث في الجذور التاريخية لمصطلح الثقافة ذي المنشأ اللاتيني، حيث سادت المفاهيم الحداثية عن الثقافة في النصف الأول من القرن العشرين، ظهرت بعدها بدءاً من بداية النصف الثاني من نفس القرن تعريفات جديدة بعد حداثية شكلت نوعا من القطيعة الحاسمة مع المفاهيم السابقة. بعد هذا العرض يجيب المؤلف عن سؤالين مركزيين يطرحهما عن دواعي ظهور مفهوم الثقافة وأسباب تغير معناه مبيناً في البداية التناقضات التي وسمت طابع الدراسات الثقافية، انطلاقاً من عملية فرز لنظريات التحليل الاجتماعي للثقافة وفق التواريخ الثقافية والمورثات الوطنية، ما جعل من الصعب إيجاد مصطلحات جامعة لكل هذه التيارات. الباحث يركز على نظرة اليسار الجديد إلى الثقافة بعد ظهور عصر وسائل الاتصال الحديثة، حيث يكشف في هذا السياق عن التناقض بين مفهومي وسائل الاتصال باعتبارها «الميديا» الجماهيرية ووسائل الاتصال كأشكال ورموز يتحقق بها لاتصال وفي هذا الصدد يتناول مفهوم الهوية الثقافية. وفي سياق المتابعة التاريخية للتحولات التي طرأت على مفهوم الثقافة، يبحث في فصل خاص نهاية الثقافة الجماهيرية التي امتدت من نهاية السبعينيات حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي مستعرضاً الأطروحات المختلفة للعديد من المفكرين والدراسين لمفهوم الثقافة الشعبية والهيمنة الثقافية وعلاقات التكوينات الطبقية بالسلع الثقافية، ومطالباً بعد ذلك بضرورة البحث عن طرق جديدة للتفكير بالطيف المتنوع للأشكال الثقافية؛ لأنه ليس هناك شكل ثقافي ثابت في موقعه. في النهاية، يوضح الغاية التي يقصدها من مطالبته بإنهاء الثقافة الجماهيرية كمفهوم بعد أن ساهم الإنتاج الصناعي الرأسمالي وإعادة الإنتاج والتوزيع الواسع للنصوص والمشغولات والأداءات الثقافية في خلق ثقافة جماهيرية ذات نظام متدنٍ أعطي شكل كتلة من المعايير والقيم والمعتقدات وباتت الثقافة الجماهيرية أشبه ما تكون بالسلعة. الدراسات الثقافية يعيد المؤلف تاريخ ظهور الدراسات الثقافية إلى العقد الأخير باعتبارها مجالاً مشتركاً للدراسات الإنسانية، لكنه يركز على الدراسات الثقافية الأميركية التي وجدت في مجموعة من المجلات بعد الحداثية التي ظهرت آنذاك فضاء لها، وكانت تعبيراً عن عودة السياسات الثقافية للديمقراطية الاجتماعية اليسارية والسياسات الثقافية للجبهة الشعبية. وعندما يحاول البحث في الخلل الذي تعانيه تلك الدراسات يجد أن هذا الخلل يكمن في الصيغة، وهنا يرسم بإيجاز واضح الخطوط العامة للدراسات الثقافية مدافعاً في الآن ذاته عن مشروعيتها باعتبارها نقداً للتخصصات وليست تخصصاً جديداً، وأنها قد أهملت مفهوم الطبقة الماركسي واستبدلتها بمصطلح العرق باعتباره المشكلة الكبرى التي لم تحل في المجتمع الأميركي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©