السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إقطاعيات أكاديمية

إقطاعيات أكاديمية
31 يوليو 2013 22:45
صدر هذا الكتاب باللغة الفرنسيّة في 130 صفحة عن دار الارتحال للنشر بعنوان: les amphis d silence “مدارج الصمت” للدكتور محمّد الطاهر المنصوري، أستاذ التاريخ الوسيط بالجامعة التونسيّة (كليّة الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة) والملحق حالياً بجامعة الدمّام بالمملكة العربيّة السعوديّة. والكتاب يخترق- لأول مرة- أسوار الجامعة التونسية ليكشف عن بعض مظاهر الخور ويعرّي الأساليب الملتوية كالمحسوبية عند مناقشة بعض الأطروحات أو عند انتداب الأساتذة الجدد، كما لم يتردد الدكتور المنصوري في فضح السرقات الفكريّة لدى بعض الجامعيين ورفع الستار عن شبكة العلاقات المبنيّة على المنافع الشخصية والمادية داخل أسوار الجامعة التونسيّة، علما بأنّ ما يدور في الجامعة التونسيّة وداخل مدارجها كان دائماً محاطاً بجدار من الصمت الرهيب وقلّ وندر أن يتمّ نشر “غسيل” الجامعة على الملأ رغم الخور الموجود. ويقول المؤلف في المقدمة بأنّ أحد أسباب اتّخاذه قراره بنشر كتابه (وهو يسميه النص) هو يقينه بأنّ الوضع في الجامعة لم يتغيّر بعد الثورة، وليس هناك علامات تدل على أنّه سيتغيّر، بل بالعكس فإنّ الوضع في الجامعة التونسية- حسب ما جاء في الكتاب- ما فتئ يزداد سوءاً. ويشير الكاتب إلى أنّ ثورة 14 يناير هي التي دفعته إلى إصدار هذا الكتاب الذي ألّفه قبل أربع سنوات ولكنّه لم ينشره قائلا: “إنّ الثورة حرّرتنا من الدكتاتوريّة ومن أنفسنا أيضاً ومن خوفنا”، معترفاً بأن من يسميهم “الحفاة” الذين قادوا الثورة التونسية ودفعوا أرواحهم ودماءهم ثمناً لها، يعود لهم الفضل لينعم الكتّاب والمفكرون اليوم بحريّة التعبير، وقد أهدى المؤلف كتابه إلى هؤلاء “الحفاة”، مؤكّدا أنّه مدين لهم وقد قرّر مع الناشر اعترافاً لهم بالجميل بأن تدفع حقوق تأليف الكتاب إلى عائلات شهداء الثورة التونسيّة. عقلية إقطاعيّة وكما تؤكد عائدة بن كريم المسلمي في قراءة لها للكتاب، فإن الدكتور محمد المنصوري “قرر أن يقطع الصمت الذي يخنق مدارج الجامعة ليتحدّث عن العقليّة الإقطاعيّة التي تسود خلف الأسوار، ويتحدّث عن “اللوردات” الوهميين الذين يحتكرون فضاء الجامعة ويتربعون على عرشها”. والمؤلف يؤكد في المقدّمة أنّ كلّ ما دونه لا يمكن أن يكشف كل الحقائق اعتباراً للصمت الذي يحيط بهذه المسألة، مضيفا: “...حتّى الصمت تمّ كتم أنفاسه!”. ويشير د. محمّد الرحموني في قراءة له أن هذا الكتاب يقدّم “نبذة من فساد الجامعيين” ويكشف الأدواء التي تعاني منها الجامعة التونسيّة (قسم التاريخ أنموذجاً)، والتي ظلت حبيسة “قانون الصمت” الذي فرض على الجامعة والجامعيين طيلة عقود، مؤكداً “بأن الكتاب هو شهادة عمّا كان يحصل داخل أسوار الجامعة من جرائم- حسب تعبيره- في حقّ العلم وفي حقّ المجتمع وفي حقّ الوطن. شهادة لا تنقصها سوى الأسماء، ورغم أنّ الكتاب مخصّص لقسم التاريخ فإنّ محتواه ينطبق على كلّ الجامعات وكلّ الكليات وكلّ الأقسام وربما كان الأجدر بالمؤلف أن يترك فراغات حتّى يملأها كلّ ضحيّة بما يناسب من الأسماء”. إنّ هذا الكتاب حطّم جدار الصمت وفضح العلاقة المبنيّة على الطاعة بين الأستاذ المتقّدم في السنّ وبين الباحث الشاب الذي يقوم بأعماله الأكاديميّة تحت إشرافه، بل أكثر من ذلك فإنّ هذه العلاقة- وفق شهادة المؤلف- تبنى أحياناً على الوعود التي يعد بها الأستاذ المشرف الباحث الشاب وأحيانا أيضا على التهديد! فإنّ باحثاً شاباً يعدّ أطروحة دكتوراه في التاريخ هو ليس باحثاً مستقلاً ولكنّه يصبح “ملكاً” للأستاذ المشرف على أطروحته، فهو- على حدّ تعبير المؤلف- “لا يتنفّس إلاّ بأمره” فهو الذي يسطّر له طريقه ويحدّد له علاقاته ويملي عليه ميولاته ويشير عليه بصداقاته ويفرض عليه أسماء من يختلط بهم في مجال بحثه الأكاديمي، ولو تجرأ الباحث الشاب وخالفه فإنّ مستقبله “يطير في الهواء” ومناقشة أطروحته يصبح أمراً فيه نظر! والنتيجة أنّه لن يمكن له يوماً أن يصبح أستاذاً جامعيّاً. ويجزم المؤلف من خلال معاينته أن الباحث الشاب يكون راضخاً للأستاذ المشرف المسن رضوخاً تامّاً، وحتّى عند الحديث إليه فإنّه ينتقي كلماته ويصل الأمر إلى حدّ عدم النظر له في عينيه. ويستنتج المؤلف أنّها علاقة مبنيّة على الخوف الشديد، بل وذهب الدكتور المنصوري إلى حد تشبيهها بالعلاقات داخل عصابات المافيا! والمؤلف- وهو شاهد عيان- يقدّم أمثلة دون ذكر الأسماء مؤكداً أنّه كلّما كانت الطاعة أكبر لدى الباحث الشاب إزاء الأستاذ المشرف على أطروحته كلّما كان الجزاء مجزيّاً. والطاعة العمياء- حسب ما جاء في الكتاب- هي دائماً القاعدة، فلا بدّ للباحث الشاب أن يتبنّى أفكار الأستاذ المشرف المسنّ وأن يعادي من يعاديهم هو ويتودّد إلى من يصادقهم حتّى تكاد العلاقة تصبح علاقة العبد بسيّده! والمؤلف حلّل ما يسميها “النزعة الأبويّة” عند أباطرة الجامعة التونسية، وللسن- كما جاء في قراءة الدكتورمحمد الرحموني للكتاب- “أهميّة كبرى لدى الجامعيين، فكلما كان الجامعي “طاعناً” في السنّ كانت تجربته أغنى وعلمه أنفع ومكانته أرفع. ومن ثمّ فالأقدم هو الأعلم والأقدر على توجيه المنتدبين الجدد صغار السنّ وقليلي التجربة. ولكن المؤلف يتساءل بكلّ ألم: ما قيمة الأقدميّة لدى جامعيينا إذا هم قضوها في الجري وراء جمع المال “مثقلين” بالساعات الإضافيّة متنقلين في سبيلها من مؤسسة جامعيّة إلى أخرى. ويضيف محمد الرحموني أنه “في هذه الوضعيّة المزريّة تنقلب الأقدميّة سلاحا يشهره “الكبار” في وجه الباحثين الجدد وعوض تأطيرهم وتكوينهم يدجنونهم و”يستعبدونهم” ويجعلون منهم في أحسن الحالات مجرّد حفظة يرثون “علمهم”. وقد كان من المفروض، لو أنهم استغلوا أعمارهم في البحث والاجتهاد أن يكوّنوا جيلاً يبدع. ويرى الدكتور محمد الرحموني في تقديمه وعرضه لكتاب زميله: “أنه عندما يدير الجامعي ظهره للعلم والبحث العلمي ويتمترس خلف سلطة “شيخوخته” ليفوز بكلّ الغنائم الممكنة فإنّه يخلق نظاما من العلاقات بين الجامعيين ومنظوريهم من الطلبة والباحثين شبهه المؤلف بنظام “الخشداشية”، وهو نظام اجتماعي عرفته مصر في عهد المماليك يتمثّل في الترابط بين مجموعة من الأفراد لا تجمع بينها عصبيّة الدم وإنما عصبيّة الخضوع لنفس السيّد”. أساليب قذرة وخصّص المؤلف جزءاً من الكتاب للحديث عن مسألة “مناقشة أطروحات الدكتوراه”، مبيّنا أنّه لا وجود في قسم التاريخ لموعد محدّد للمناقشة، بل الأمر خاضع لعدّة عوامل غير علميّة حسب مزاج لجنة المناقشة ورغبتها وأهوائها، ومن بين أغرب ما كشف عنه الكتاب هو انتشار الإشاعات داخل أسوار الجامعة فبعض “الأباطرة” يعمدون إلى أساليب قذرة يحاربون بها كلّ من يقف في طريقهم وكلّ من يسعى إلى فضحهم والتشهير بهم، وكما جاء في عرض الدكتور محمد الرحموني “فإن هذه الأساليب تعتمد على بثّ الإشاعات المدمرة.. وتشمل هذه الإشاعات الجوانب الأخلاقيّة والسياسية والصحيّة. كبث إشاعات بالقول: إن “عدوّهم” لوطي أو “مثلي” إذا كان ذكراً وأمّا إن كان أنثى فالتهمة معروفة جدّا.. وإذا كان المعني بالأمر ممن له مكانة علميّة تتجاوز حدود الوطن فإنهم يشيعون لدى الأجانب أنّه “مخبر”. وجاء في الكتاب بأن الولاءات داخل الجامعة تتكون حسب الجهات “الجغرافية” التي ينتمي إليها الأساتذة، ورغم أن المؤلف ينطلق من معاينته ومعايشته لما ينقله إلا أن القارئ يجد أحياناً بعض المبالغة فيما ذهب إليه من استنتاجات، فقد تكون هناك فعلاً حالات تنطبق عليها تلك المقاييس غير العلمية ولكن المؤلف ينحو أحيانا إلى التعميم والمبالغة، ولا شك أنه ينطلق من معاناته الشخصية ومما عاينه وعاشه وهو يكشف مثلاً أنّ الانتدابات للتدريس بالجامعة تخضع في حالات إلى المحاباة، والتلاعب بالقوانين، فالمقرّبون والطيّعون للأساتذة الكبار يجدون لهم السبل لانتدابهم، ومن يكون مغرداً خارج السرب فحظوظه تتضاءل، فالانتماء إلى “حلف”- وفق شهادة الكاتب- ييسّر الانتداب، ويؤكد المؤلف أن الأساتذة الجامعيين هم في صراع من أجل الامتيازات الماديّة وأن مشاعر الكراهية والحقد تسود العلاقات بين البعض منهم والضحيّة هو البحث العلمي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©