الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المفتونون باللغة

المفتونون باللغة
31 يوليو 2013 22:47
كل منهم ينتمي إلى مناخ ثقافي خاص. الفكر، الشعر، الموسيقى، لكنهم يتوحدون أمام اللغة ـ أية لغة ـ بانفتاحاتها التي لا تنتهي، وما ينتج عنها من أفكار ومعاني ومواقف.. تلك هي العوالم المشتركة التي تجمع بين جوته وأدونيس وألفريدة الينيك وميتين أرديتي. حسونة المصباحي بين جوته وأدونيس كان الألماني العظيم فولفجانج جوته (1749 ـ 1832) متعدّد الاختصاصات والمواهب. فقد كان روائيّا فذّا، وكاتبا مسرحيّا من الصّنف الرفيع، ومفكرا قديرا، وشاعرا أخرج الأدب الألماني من محلّيته الضّيّقة مانحا إيّاه أبعادا كونيّة تماما مثلما فعل شكسبير بالنسبة للأدب الإنجليزي. إلى جانب هذا كلّه، اهتمّ جوته بالعلوم الطبيعية، وبالكيمياء، والفيزياء، والرياضيّات، والتّنجيم، وبمجالات أخرى كثيرة ومختلفة. وكان أوّل شاعر ألماني أولى عناية خاصّة بالشرق، وبالثقافة العربية، والفارسية، وبالإسلام في جوانبه الحضارية والجمالية والفنية. وينعكس ذلك في مؤلّفه الشهير “الديوان الشرقي لمؤلّفه الغربي” الذي نقله الى العربية الراحل الكبير عبد الرحمان بدوي. وقبل أن يؤلّف ديوانه المذكور، كان جوته قد تعمّق في دراسة القرآن، ودرس آداب الفرس، وقرأ قصّة “المجنون وليلى” للشاعر نظامي. كما قرأ أشعار حافظ الشيرازي، وأشعار العديد من الشعراء العرب قبل الإسلام وبعده. وعن هجرته الخيالية إلى الشرق، كتب جوته في “الديون الشرقي للمؤلف الغربي” يقول: “دعوني وحدي مقيما على سرج جوادي، وأقيموا ما شئتم في دياركم ومضارب خيامكم. أمّا أنا فسأجوب من الأنحاء قاصيها على صهوة فرسي فرحا مسرورا لا يعلو على قلنسوّتي غير نجوم السماء”. وفي مقطع آخر من نفس الديوان، يقول جوته: “للّه المشرق، وللّه المغرب، والشمال والجنوب، يستظلاّن بالسلام بين يديه”. وكان اهتمام جوته بآداب الأمم الأخرى وثقافاتها ينطلق من فكرة اشتهر بها في زمنه. وترمي إلى محاولة الجمع بين آداب الأمم كلّها. وفي عام 2011، حصل الشاعر العربي الكبير أدونيس على “جائزة جوته” التي تمنح كلّ ثلاثة أعوام. وهو أوّل عربيّ ينال هذه الجائزة المرموقة التي نالها قبله أدباء وشعراء من أوروبا، وأمريكا، وآسيا، والجامع بينهم جميعا هو اهتمامهم بالثقافات العاليمية. وهذا الجانب، أي الاهتمام بالثقافات العالمية، يختصّ به أدونيس. فمنذ سنوات شبابه، خصوصا بعد انضمامه إلى أسرة تحرير مجلّة “شعر” في الخمسينيات من القرن الماضي، لم ينقطع صاحب “الثابت والمتحوّل” عن البحث في ثقافات الأمم الأخرى، القديمة والحديثة على حدّ سواء عما يثري تجربته الشعريّة والفكريّة، ويوسّع آفاقها، وآفاق الثقافة العربية عموما. نلمس ذلك في مساهمته الفعّالة في تقويض البنية الكلاسيكية للقصيدة العربية، مؤسسّا لبنية منسجمة مع العصر، وقضاياه، ورؤاه الحالية، والفلسفية، ومع إيقاعاته. ولم يفعل ذلك في شعره فقط، بل بلوره وعمّقه في كتاباته النقدية الكثيرة التي تعدّ من أعمق الكتب النظرية التي عرفتها الثقافة العربية خلال القرن العشرين. وصحيح أن هناك شعراء آخرين شاركوا أدونيس في بعث القصيدة العربية الجديدة غير أنه لا أحد منهم عبّر مثله عن ذلك نظريّا وفكريّا. في كتابه “زمن الشعر”، كتب أدونيس: «أقول دائما إن على الشاعر العربي الجديد حقّا أن يتأصّل حتى الغربة، وأعني بهذه العبارة أن الشاعر العربي الجديد حقا أن يكون متأصّلا في التجربة العربية بأبعادها الشاملة، في نارها، في لهبها، لكن الى درجة الغربة عن نمطيّة التعبير عنها، أي عن الأثافيد والرماد». وفي نفس السياق، يضيف أدونيس قائلا: “الشعر التجريبي العربي هو وحده الشعر الجديد. وهو وحده الشعر الثوري لأنه أولا ليس متابعة ولا انسجاما، ولا ائتلافا، وإنما العكس، هو اختلاف. وهو ثانيا بحث مستمرّ عن نظام آخر للكتابة الشعرية. وهو ثالثا، تحرّك دائم في أفق الإبداع. لا منهجيّة مسبقة، بل مفاجآت مستمرة. وهو رابعا ليس تراكما في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، بل بداية دائمة. فقيم الشعر ليست تراكمية، بل انبثاقية. وهو أخيرا تحرك دائم في أفق إنساني، ثوري، من أجل عالم أفضل، وحياة إنسانية أرقى”. وتدلّ كتابات أدونيس النظرية على عمق فلسفي لا نكاد نجد له مثيلا عند أغلب الشعراء العرب المعاصرين. وهو لم يتعمّق فقط في أعمال الفلاسفة القدماء، سواء من العرب، أو من الإغريق، أو من الرومان، وإنما أولى اهتماما كبيرا للفلاسفة والمفكرين الذين أثّروا تأثيرا ملحوظا وأساسيّا في العصور الحديثة. ففي فترة التّأسيس للقصيدة العربية الحديثة، تأثر أدونيس بنيتشه. وقد انعكس ذلك التأثير في مجموعته الشعرية الشهيرة “أغاني مهيار الدمشقي”. فمثل زرادشت، كان مهيار يطمح الى عالم جديد لا يمكن أن ينهض، وأن يتأسّس إلاّ على أنقاض العالم القديم. وفي العديد من كتاباته النظريّة الأخرى خصوصا في “المحيط الأسود”، درس بعمق المفكرين والفلاسفة المحدثين من أمثال ميشال فوكو، وليفيناس، وبورديو، ورولان بارت. ولم يكتب أدونيس الرواية والمسرحية مثلما فعل جوته، لكنه اهتمّ بالموسيقى، وبالفن المعماري، وتميّز بالطموح الى كتابة الأثر الخالد. وهذا ما حاول ان يفعله في أجزاء “الكتاب” الثلاثة، والتي سعى فيها إلى قراءة التاريخ العربي المعاصر من خلال التاريخ العربي القديم مزيلا عن هذا الأخير سمات المجد التي يتعلّق بها الكثيرون، كاشفا عن ظلماته، وعن مظاهر الاستبداد، والظلم، والقهر وغير ذلك من المظاهر التي طبعت فترات مختلفة من التاريخ العربي الإسلامي. وفي زمن السّكون والجمود في حياة العرب المعاصرين، لم ينقطع أدونيس عن تحريك السّواكن، مهاجما بشدة النظم السياسية والفكرية، ومظاهر التزمّت والانغلاق، محاولا من خلال ذلك استنهاض الهمم بهدف بعث ثقافة إنسانية جديدة تماما مثلما فعل ادونيس بالنسبة للثقافة الألمانية قبل ثلاثة قرون. في “زمن الشعر”، كتب أدونيس: “ليس التراث مركزا لنا. ليس نبْعا، وليس دائرة تحيط بنا. حضورنا الإنساني هو المركز والنبع”. ألفريدة الينيك والنّمسا في حوار أجرته معها مجلّة “لير” الفرنسيّة قالت الكاتبة النّمساويّة ألفريدة إلينيك الحائزة على جائزة نوبل للآداب عام 2004 إنها بدأت مسيرتها الأدبيّة بكتابة الشعر، واستمرّت في ذلك حوالي ثلاثة أعوام ثمّ تخلّت عنه نهائيّا لتنصرف إلى كتابة الرواية. وقد ورثت عن والديها روح الفكاهة، والدعابة السّوداء اللتين تطغيان على مجمل أعمالها الروائيّة. وفي سنوات شبابها، أقبلت على قراءة الكلاسيكييّن الكبار من أمثال شيللّر، وغوته، وشكسبير، وتولستوي، ودستويفسكي. كما أولت الموسيقى اهتماما كبيرا فكانت تُدمْن على الاستماع إلى السمفونيّات الشهيرة لتستفيد منها في ما بعد في طريقتها في الكتابة بحيث يكون اختيارها للكلمات شبيها باختيار النّغم المناسب. وعن اللّغة تقول ألفريده إلينيك: “لقد سبق وأن ذكرت أن النّمسا تمتلك تقليدا، وإرثا قويّا في مجال التّفكير حول اللّغة سواء كان ذلك في مجال الأدب، أم في مجال الفلسفة انطلاقا من فريتز ماوتنار، وحتّى لودفيك فيتكانشتاين مرورا بكارل كراوس الذي تأثّرت به كثيرا. فعندنا تتموقع اللّغة ضدّ مفهوم هايدغر الذي يقول بإن اللّغة “هي بيت الكائن”. أما نحن فنعتبر اللّغة شيئا خارجيّا. لذلك بإمكاننا أن نلعب بها مثلما هو الحال لدى “مجموعة فيينّا” التي أنتمي إليها”. وتضيف ألفريده إلينيك قائلة: “أنا أشعر أننّي منغرسة في هذا التّقليد المتعلّق بالتّفكير حول اللّغة. فاللّغة الألمانيّة تتكلّم، وتعبّر، وهي تقوم بذلك بشكل جيّد، وتذهب حدّ كشف حقائقها الدّاخليّة. لهذا السّبب أسمح لنفسي عن طواعيّة بالجناس، وباللّعب بالكلمات، وباستعمال الكلمات البذيئة. وأنا أعشق ذلك لأنّ اللّغة تكشف لنا حقيقتها حتى ولو لم نردها نحن. فاللّغة لا بدّ أن تعرّي الأشياء، وتنزع عنها أحجبتها. وقد كان كارل كراوس معلّما كبيرا في هذا المجال”. ومعلّقة على الذين يقولون ساخرين بأنّ النّمساوييّن هم الشّعب الذي أفلح في أن يجعل العالم يعتقد أن هتلر كان ألمانيّا، وأنّ بيتهوفن نمساويا، تقول ألفريدة إلينيك: “لقد سمعت هذه الملاحظة العديد من المرّات. وعليّ أن أعترف بأنها ليست خاطئة تماما. ومن المؤكّد أنّ النمسا هي من أكثر البلدان فسادا في الغرب، ومع العلم أنها ليست غربيّة تماما لأنها تقع على الحدود التي تبدأ فيها بلدان البلقان التي غالبا ما يتمّ الحديث عنها بطريقة سلبيّة. وربّما تمتلك بلادنا بعض مواصفات بلدان هذه المنطقة. وتعتبر النمسا نفسها بلاد الكلاسيكييّن الكبار، حتى وإن كان هؤلاء يحتقرونها، فهي بلد فرويد حتى لو أنه طرد منها في النهاية. كما أنها بلد الحركات الطّلائعية حتى وإن لم تكن فخورة بها “. وفي الحوار المذكور أكّدت ألفريده إلينيك أنها مدافعة شرسة عن قضايا النساء، رغم أنها تعتبر أن الحركة النّسويّة التي نشأت في السبعينات من القرن الماضي في العديد من البلدان الرأسماليّة قد انقرضت، ولم تعد لها أهميّة تذكر. كما تعتبر أن جلّ رواياتها سياسيّة. فقد انتمت في فترة من حياتها إلى الحزب الشيوعي النّمساوي. وكان هدفها من خلال ذلك دعم النضال ضدّ اليمين القويّ جدّا في بلادها. وهي لا تزال مناهضة لليمين الذي تعتبره “غبيّا”. ميتين أرديتي.. أمير الأوركسترا ولد ميتين أرديتي في أنقرة عام 1945. ومنذ فترة الطّفولة فتن باللّغات الأجنبيّة فأتقن الإسبانيّة والفرنسيّة التي كان يجيدهما والداه. كما فتن بالحكايات الشّرقيّة العجائبيّة التي كان يرويها الكبار من العائلة. وكان والده قد دَرَس في فيينا، لكنه اضطرّ الى تركها عندما غزاها النّازيّون، وعاد الى بلاده ليصبح واحدا من أثرياء التجّار. وفي سنّ المراهقة، التحق ميتين أرديتي بمعهد خاصّ في مدينة لوزان السّويسرية ليحظى بتربية راقية مثل أبناء البورجوازيّة الغربيّة، وليحصل على شهادات عالية في اختصاصات متعدّدة. وخلال فترة الدّراسة، أقبل على القراءة بنهم شديد، وراح يلتهم الروايات، وكتب التّاريخ، ودواوين الشعر. كما كان يتردّد على المسارح، وعلى المتاحف الكبيرة في مختلف المدن السويسريّة. وكلّ هذه النّشاطات الثّقافية والفنّيّة كانت تخففّ عنه وطأة الغربة الطويلة. وبعد تخرّجه في جامعة العلوم بلوزان، متخصّصا في الذّرّة، تزوّج ميتين أرديتي من يونانيّة أرثوذكسيّة. بعدها أمضى سنتين أستاذا في جامعة “ستانفورد” في كاليفورنيا، ولم يعد الى سويسرا التي حصل على جنسيّتها إلاّ عام 1972 ليصبح من كبار رجال الأعمال فيها. وفي عام 2009، وبالتّعاون مع الفلسطيني إلياس صنبر، أنشأ مؤسسّة تعنى بتعليم الموسيقى للشبّان الفلسطينييّن والإسرائيلييّن المتعاطفين مع قضيّتهم. غير أن المال والأعمال لم تشغل ميتين أرديتي عن المتابعة. وفي البداية، اهتمّ بتأليف العديد من الدّراسات التّارخية والأدبية في مواضيع مختلفة ليصدر كتابا مهمّا عن ماكيافيلّي. غير أن البعض نصحوه بكتابة الرواية. وهو يقول: “لفترة ظللت متردّدا فمعرفتي بفنّ الرواية كانت محدودة الى حدّ ما. ثمّ إنني كنت أعتقد أن الرواية عمل مسلّ فقط لا غير. مع ذلك وجدتّ نفسي ذات يوم أكتب رواية عنوانها “غرفة زوي”. بعدها انجذب ميتين أرديتي الى فنّ الرواية ليصدر رواية ثانية يتخيّل فيها لقاء بين بروست وكافكا في محطّة قطارات بباريس. وبعد أن أنهى روايته الثّالثة التي حملت عنوان “قاعة فيكتوريا”، وجد نفسه ينفجر باكيا لأنه سيودّع بطلتها تريستين الجميلة، والعاطفيّة. وهو يعتبر أنّ روايته الجديدة “أمير الأوركسترا” أهمّ مغامرة في حياته، وفيها يروي قصّته مع الكتابة، ومع الكتب التي أثّرت فيه أكثر من غيرها. كما يروي فيها رحلاته من دون أن يغفل عن عالمه، عالم المال والأعمال. في هذه الرواية نقرأ: “كان لا يزال ذلك زمن “سيبتيس”. كم عمره في ذلك الوقت؟ سبعة أعوام؟ ثمانية أعوام؟ ثلاثتهم وصلوا الى خليج “كايوس نيكولوس” الصّغير جدار غير عال يفصل الشّاطئ عن الشّارع، وألكسي أراد أن يقفز مثلما يفعل الكبار، فالتوت ساقه. وعندما انقطع الألم بعد أيّام قليلة علّمته كليو الحركة: “ارفع عقْبَكَ... أدره يمينا، والآن أدره يسارا.. وها أنت تعاين أنك لا تتألّم”. والعادة ظلّت كذلك. فكلّما شعر ألكسي بالخوف يدير ساقه اليمنى. مرّت طفولة ألكسي بسرعة التماعة البرق. القسطنطينيّة. أثينا. ثم سويسرا. معهد أندرسون. كان لابدّ ألاّ يترك القسطنطينيّة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©