الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مصحف الأناضول.. شاهد على تأثير الفن الإسلامي

مصحف الأناضول.. شاهد على تأثير الفن الإسلامي
24 يناير 2014 21:41
أحمد الصاوي (القاهرة) - لم يقيض لهضبة الأناضول أن تكون جزءاً من ديار الإسلام إلا بعد ظهور السلاجقة الأتراك على مسرح الأحداث في القرن الخامس الهجري، فبعد معركة ملاذكرد الشهيرة وهزيمة البيزنطيين المذلة اضطر سكان الأناضول من الروم لمغادرة أراضيهم، لتزحف إليها قبائل الترك تدريجياً حتى ليظن بعض الدارسين اليوم أن الأناضول هي موطن الترك الأساسي. وقد تنازعت دول عدة السيطرة على مدن الأناضول المختلفة، ودارت بينها صراعات قبلية دامية قبل أن تستقيم الأمور لسلاجقة الروم في تلك المنطقة. تقاليد الفن الإسلامي وعلى الرغم من الاضطراب السياسي، فإن هذه المنطقة شهدت استقراراً كبيراً لتقاليد الفن الإسلامي حتى قبل ظهور سلاجقة الروم بمنشآتهم الحجرية الضخمة وفنونهم التطبيقية التي تمتلئ بها قاعات المتاحف العالمية. ولدينا منذ نهاية القرن السابع الهجري «13م» وبداية القرن التالي عدة مصاحف أنتجت في مدينة قونية، أقدم وأوسع مدن هضبة الأناضول شهرة، من أهمها مصحف تم نسخه في عام 714هـ «1314م» بأمر من الأمير القراماني خليل بن محمود بن قرامان، وقد ظل طابعه الفني من جهة استخدام خط الثلث المحقق والزخارف النباتية في الفواصل بين السور وبدايات الآيات مهيمناً على تقاليد نسخ المصاحف التي نسبت لقونية في الفترات اللاحقة. ومن المصاحف النادرة التي أثبتت الدراسة الفنية نسبتها إلى قونية في هذه الفترة مصحف يتوزع بعض أجزائه الثلاثين بين عدة متاحف ومجموعات خاصة، منها مجموعة جون ريلاندس التي حظيت مقتنياتها باهتمام خاص من الباحثين في اللغة التركية لأنها تحتوي على ترجمة لألفاظ القرآن الكريم باللغة التركية القديمة، كتبت بالحروف العربية قبل عدة قرون من ظهور اللغة التركية العثمانية. خط الثلث وتتميز تلك النسخة الفخمة بأن كل واحدة من صفحاتها لا تحتوي سوى على ثلاثة أسطر فقط بخط الثلث المحقق، وهو ما يعني أن كل جزء من الأجزاء الثلاثين كان أشبه بنسخة كاملة من المصحف الشريف إذا نظرنا إلى حجمه. واللافت في تلك النسخة التي أنتجت لأحد الأمراء أن حرف الميم فيها إذا جاء في نهاية كلمة تم مده لأسفل برشاقة ملحوظة، بينما يكتب حرف الكاف بطريقة تجعله قريباً من تقاليد كتابته في الخط الكوفي، فضلاً عن أن لفظ الجلالة يكتب دائما باللون الذهبي. وقد ظل الجزء السادس المحفوظ بتلك المجموعة الخاصة معتبراً من إنتاج ممالك سلاطين الهند نظراً لتزويده بترجمة لمفردات القرآن الكريم باللغة الفارسية، وهو أمر شائع في مصاحف الهند قبل عصر المغول إلى أن لفت بعض علماء الآثار النظر لوجود ترجمة تركية أيضاً لتلك المفردات إلى جانب الترجمة الفارسية، ومن ثم تمت مقارنة هذا الجزء مع بقية الأجزاء المتفرقة وخاصة تلك المحفوظة بمكتبة شيستر بيتي بدبلن في أيرلندا، وبدا واضحاً وقتها أنها تشكل أجزاء من مصحف واحد وأنه أقرب شبهاً بالمصحف القراماني المنتج في مدينة قونية عام 714 هـ. صفحة يسرى ومن أجمل الصفحات زخرفاً وتنوعاً في الخطوط صفحة يسرى تضم الآية 38 من سورة المائدة، وهي مكتوبة بخط الثلث المحقق بلون أسود وتحت كل سطر ترجمة للألفاظ باللغة الفارسية كتبت بخط دقيق وبشكل زجزاجي، وهي تشبه مثيلاتها من صفحات تلك النسخة فيما عدا إطارا زخرفيا أضيف إليها في وقت لاحق وربما كان ذلك في مكان بعيد عن قونية، حيث قام المالك الجديد في بادرة فنية تعبر عن اعتزازه بتلك النسخة بعمل شريط في ثلاث جهات من الصفحة، به كلمات بالخط الكوفي لعبارات مأثورة من الحكمة على أرضية من زخرفة باللونين الذهبي والأحمر، فضلاً عن مربعين زخرفيين في طرفي الصفحة بهما زخارف هندسية بالألوان الزرقاء والحمراء والذهبية. ولعل تلك الإضافة الزخرفية كانت العامل الأبرز في تضليل العلماء الذين نظروا إلى هذا الجزء نظرة عابرة، إذ توهموا أنه من عمل الفنانين بأحد ممالك الهند، بينما في حقيقة الأمر هو نسخة أناضولية صميمة. تشابه ونستطيع أن نرى ذلك التشابه الكامل بين تلك الصفحة وغيرها من الصفحات إذا تغاضينا عن الشريط الزخرفي، وهو أمر يبدو بدهياً عندما نطالع على سبيل المثال صفحة تضم عنوان سورة لقمان مع البسملة الكاملة، فهي مكتوبة بذات النسق سواء فيما يتعلق بخط الثلث المحقق أو الترجمة الفارسية الزجزاجية. ويلفت النظر طابع الزخرفة في الإطار المستطيل الذي كتب به اسم السورة بخط نسخي مغاير تماماً لخط الثلث، وهو خط يشابه الخطوط التي اعتاد أتراك السهوب الآسيوية في الشرق استخدامها، حتى أننا نرى أشباهاً لها في منطقة سينغاينغ الصينية «التركستان الشرقية»، ومن الواضح أيضاً أن الزخرفة في هذا الإطار تختلف كليا عن الزخارف الهندسية المضافة في الصفحة السابقة، إذ تعتمد على عناصر نباتية باللونين الأحمر والذهبي مع لمسات خافتة باللون الأزرق الفاتح. أمر منطقي أما القول الفصل بأن تلك النسخة تركية الأصل، فقد برهنت عليه بشكل قطعي تلك الصفحة التي تضم بداية سورة المائدة، ففيها ترجمة من سطرين بأسفل كل كلمة سواء من خاتمة سورة النساء أو من كلمات البسملة، ويحتوي السطر الأول على ترجمة فارسية وهو أمر منطقي في ظل اتخاذ كل بلاطات الشرق الآسيوي من الفارسية الإسلامية لغة ثقافية لها، أما السطر الثاني فبه ترجمة تركية كتبت بالحرف العربي ويعتبر ذلك المثال من الأمثلة المبكرة لكتابة التركية بالحروف العربية. ولعلَّ تلك الترجمة المزدوجة والنادرة والمبكرة كانت وراء الاهتمام الكبير بهذا المصحف الضخم، أو بالأحرى لما تبقى من أجزائه المتناثرة بين أرجاء المعمورة. الزخرفة النباتية ونرى تلك الترجمة المبكرة لألفاظ القرآن الكريم باللغتين الفارسية والتركية أيضاً بين تضاعيف الزخرفة النباتية لأرضية صفحة تضم سطراً واحداً من الآية 28 من سورة النساء، والقيمة الفنية لتلك الصفحة لا تقل عن قيمتها اللغوية إذ تضم زخرفة كثيفة نادراً ما نراها في رسم المصاحف، فالأرضية حافلة بزخارف الرسوم النباتية الملونة. وهناك إطار علوي به أشكال دائرية تضم زخرفة نباتية وهناك شريط آخر بأسفل الصفحة تتكرر فيه الأشكال الدائرية مع مربعين على الجانبين، أما الجانب الخارجي من الصفحة فبه رسوم الأرابيسك داخل مناطق زخرفية وكلها حافلة بالزخارف النباتية والهندسية. ويظل هذا المصحف علامة على تأثير حضارة الإسلام في هضبة الأناضول منذ أول عقود اندماجها في ديار الإسلام.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©