الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الماضي والحاضر

17 سبتمبر 2006 01:12
جميعنا لديه ذلك الشوق والحنين الجارف والمتأصل الذي يشده إلى ماضيه الجميل وبكل ما يحمله بين جنباته من عبق الماضي الجميل إلى ذلك المكان الذي ولد فيه وأسمع صرخته البريئة للعالم بأسره، تلك الصرخة التي خرجت من جوفه الصغير عبر فمه الجميل لتعانق وتخاطب أسماع الدنيا بأنني ها أنا ذا قد أتيت من عالم آخر مليء بالصفاء والنقاء الى عالم جديد لا أدري ما شكله أو لونه أو مصيري فيه·· كلنا يختزل بين جنبيه حنين الماضي الذي يشده دائماً وأبداً لأن يكون متواصلاً مع كل ما يمكن أن يتذكره من تلك الطفولة البريئة التي شيدت لها مكاناً راسخاً في عمق ذاكرة هذا الإنسان وبنت لها قصراً عظيماً مليئاً بالذكريات والحنين عبر كل تلك السنين المتعاقبة· هناك ترابط وتجاذب حقيقي يعيشه الإنسان ويربط فيما بينه وما بين ماضيه القديم ولعل أقرب مثال على ذلك قرانا القديمة المعتقة بعطر الماضي ورحيق الذكريات الطيب الذي لا ينسى فمن منا لم يجره ويجذبه الشوق والحنين لأن يعود مرة أخرى الى تلك البيوت القديمة ذات الفناء الواسع والدور الصغيرة في حجمها الكبيرة في معناها، تلك السكك الضيقة الملتوية التي تربطنا معها علاقة وذكريات قوية وطيدة فقد تسابقنا فيها ولعبنا فيها الى جانب تلك الساحة الرملية الهادئة وهي تنام هادئة بين هذه البيوت القديمة نسميها - البراحة - قضينا فيها زمناً طفولياً وشبابياً فلعبنا فيها أنواعاً وأشكالاً من ألعابنا الشعبية المحلية، كرة القدم آنذاك كانت هي المسيطرة علينا رغم انها لعبة جديدة الا أنها كانت محبوبة لدينا بل ومعشوقة عندنا كنا نتجمع من أجل عيونها وخاطرها كل يوم شتاء وصيفا حتى وقت هطول المطر فقد كان هو الوقت المحبب لدينا احتضنتنا تلك القرية الجميلة بين مجموعة البيوت المختلفة ما بين سعف النخيل والجريد وما بين بيوت الطين والطابوق القديم موقف سيارة المدرسة قديما كان هو أيضاً من المعالم والأماكن التي لا يمكن أن تغيب عن ذاكرتنا ابداً ولا ننسى فيه أول يوم في حياتنا ونحن نركب سيارة - اللاندروفر - أو كما نسميها محليا ''الجيب'' في أول رحلة لنا في البحث عن العلم والمعرفة وادراك الحقيقة العلمية والخروج من عالم التخلف والأمية الى عالم النور والمعرفة كانت سيارة واحدة نركبها جميعاً أولاداً وبناتا جيئة وذهاباً من والى المدرسة، الذاكرة عامرة لدرجة التخمة ليس بالإماكن فقط ولكن حتى بالأحداث وبالناس وبأحوال قريتنا القديمة فما زلنا نتذكر ذلك الدكان القديم المنزوي في وسط الحارة بين تلك البيوت فهو المكان الوحيد القريب منا الذي نتزود منه بما نحتاجه في المعيشة اليومية، لم يكن بهذا الطراز وبهذا المستوى الراقي الحديث الذي عليه الآن الأسواق في المدينة بل كان بسيطا متواضعاً يضم بين جدرانه المتهالكة كل ما يحتاجه الإنسان في ذلك الوقت في معيشته اليومية من أكل وملبس وكساء، حقائبنا المدرسية هي أيضاً كنا نشتريها من ذلك المكان قريتنا الجميلة تلك كانت دائماً ما تتزين وتعشق اللون الأخضر من كثرة مزارع النخيل والبساتين الخضراء الوارفة الظلال حيث تجود علينا بعطائها في كل ساعة وحين فاحتضنتنا بين جذورها وسيقانها الخضراء صغاراً وكباراً فجادت علينا بالخير الوفير والعميم من نعم الخالق على الإنسان من خلال هذه الطبيعة النقية النظيفة فقد ظلت النخلة هذه الأم الرؤوم هي صديقة وفية وحنونة على الانسان ما تزال نغمة الطبيعة والمياه العذبة نستمتع بها كثيراً ونحن صبية صغار بذلك اللحن والشدو الرائع الجميل لخرير الماء وهو ينساب متدفقاً يمشي مهرولاً أحياناً والهويني أحيانا أخرى بين شقوق وقنوات كل تلك الأفلاج المنتشرة في المزرعة قريتنا تشبه الدلتا تماماً فهي من الجهتين شمالاً وجنوباً تقع بين مصبين لواديين كبيرين ما أجملهما وهما يجريان بكل كبرياء وعنفوان قادمين من أعالي الجبال الشاهقة متجهين الى ذلك العملاق الآخر البحر الذي يقف أمام قريتنا المنظر رائع وهو يلقف هذه المياه المتفقة من بين أحضان وقمم الجبال المنظر خلاب فكأن العمالقة الكبار يحتضنون بعضهم البعض في منظر بهي بهيج ولوحة ربانية طبيعية قد غابت عن أنظارنا في هذا الزمان عمالقة كبار لا يجاريهم أحد كما قلت فالجبال العملاقة تطل على قريتنا بكل شموخ وكبرياء وكأنها تقف حارسة لها من عدو أو غاز، ذلك البحر الخضم الواسع كانت تنام على رماله الناعمة مدينتنا القديمة أولئك الصيادون وهم في رحلة صيدهم يشدون بذلك النشيد الرائع خاصة حين موسم الأسماك الصغيرة فلا تغيب عن ذاكرتنا أبداً طيور النورس المحببة لدينا القادمة من أقاصي الأرض ليتشارك معها الصياد سوية في تقاسم لقمة العيش وهذا الرزق الوفير الذي حبانا الله إياه فصوتها الرائع وهي مجتمعة في مجموعة كبيرة لتأخذ رزقها الذي ساقها الله اليه كان بمثابة سينفونية غنائية يعجز عن تشكيل ألحانها أكبر موسيقار على وجه الأرض هناك في قريتنا الجميلة المتواضعة الهادئة كانت توجد ثلاث أشجار كبيرة معمرة من نوع - السدر - كانت مرتعنا وملعبنا وملاذنا الذي نلجأ اليه في وقت الظهيرة في القيض الحار حيث لا وجود للمكيفات بل لا وجود للكهرباء أصلاً فنلعب تحت ظلها الوارف نصنع سيارات صغيرة من العلب والصفيح واطاراتها من النعل القديمة المنتهية الصلاحية فنجرها خلفنا بذلك الحبل أو الخيط الرفيع أزقة وشوارع قريتنا القديمة ما زلنا نتذكرها وتجول في خواطرنا ومداركنا حتى هذه اللحظة فلن ننساها أو تغيب عنا مهما كبرنا أو أخذتنا السنون والدهور ومهما تعالت علينا الدنيا بزخرفها· حمدان محمد- كلباء
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©