الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عواصف أمي ونسمات أبي

عواصف أمي ونسمات أبي
20 يناير 2011 20:11
لم أقف كثيراً أمام تصرفات أمي معي طول ثلاثة وعشرين عاماً هي عمري في الحياة، وتعايشت معها وهي تجرحني بكلماتها التي كانت تلسعني مثل السوط، ودعاؤها الذي كان دائما بالشر والموت والسوء والمرض والكوارث، وفي نفس الوقت لم يسلم إخوتي وأخواتي منها بل أصابهم ما أصابني، لكن كان لي نصيب الأسد، لأنني كنت ولا زلت امثل عقدة في حياتي أمي، فأنا الوسطى بين أبنائها تسبقني ثلاث بنات وبعدي ثلاثة أبناء، وتحولت أنا إلى عقدة لها لأن عائلة أبي كانت عند كل حالة حمل وولادة تترقب أن يكون المولود ذكراً، فالأنثى عندهم سوءة يجب التخلص منها، ولم يحتملوا مجيء ثلاث بنات متتاليات، وزاد الطين بلة بمجيئي إلى الدنيا وأنا غير مرغوب فيًّ لأنني «بنت» وقد اخبروني بأن أمي بسبب سوء حالتها النفسية وما لقيته من أهل زوجها الذي هو أبي، تركتني بلا رضاعة لعدة أيام كي أموت وتتخلص مني، لكنها اضطرت لإرضاعي لأنها لم تتحمل «اللبن» في صدرها ولم تجد وسيلة للتخلص منه، فأرضعتني خوفاً على حياتها. أمي تضع لنا السم في الطعام عند كل وجبة، وهو ليس سماً كما هو معروف، وإنما من نوع آخر، فهي تلقي علينا كلمات مسممة، تخترق أبداننا، بأننا لا نستحق الحياة ولا نستحق الطعام، وليته يكون آخر طعام لنا، وهكذا قاموس طويل غني بهذه المفردات اعتدناه وحفظناه، ولكثرة تكراره اصبح بلا فاعلية ولا يؤثر فينا، ربما احيانا كنا نكمل لها، نقول بمجرد أن تبدأ ثم ننفجر في الضحك ونحول الموقف المأساوي إلى كوميديا قد تستمر ساعات طويلة، وربما نتذكر هذه المواقف في أوقات أخرى، فنعود إليها ضاحكين، فالعقاب عندها لا يخص المخطئ وحده وان كان يناله النصيب الأكبر، إلا أننا جميعا نحصل على جرعات من غضبها. والطامة الكبرى لو احتجت إلى ملابس أو حذاء، فلا أجرؤ على المطالبة بشيء من هذا، وإنما هي تستشعر أنني وصلت إلى مرحلة متدهورة وأن ملابسي قد بليت، ومن العار أن أخرج، فتطلب من أبي أن يشتري لي في أضيق الحدود، وكانت لديها عبقرية فذة في أفساد فرحتي بها حتى أنني اكرهها قبل أن أرتديها، وأتلقى من رصاص كلماتها ما لا يقل بحال من الأحوال عما نتلقاه عند الطعام، وتزيد عليه أمنياتها بأن تشتري لي «الكفن» في المرة القادمة كي تستريح مني، ولذلك تفتق ذهنها عن فكرة توفر المال الذي لا استحقه، وهي أن تخرجني من المدرسة وأتوقف عن الدراسة بعد ان حصلت على الشهادة الابتدائية ورأت أن هذا الحد يكفي، وقد تعلمت القراءة والكتابة وتساءلت ماذا نهدف من وراء تعليم البنات؟ فكل فتاة مصيرها الزواج، وتعليمها مضيعة للوقت والمال. هنا ظهر أبي - الغائب الحاضر - رجل حنون رغم شدته، ملامحه جادة لكنه رقيق، لا يميل إلى الهرج والمزاح، ولا يعرف اللغو، مشغول معظم وقته بتدبير شؤوننا وتوفير احتياجاتنا، وترك لأمنا مهمة التربية، وإن كان تأثرنا به أكثر، لأننا نراه أمامنا نموذجا حيا نقتدي به، مع انه قليل الكلام، يوافق على آراء أمي بلا نقاش، يستجيب لمطالبها وينزل عند رغباتها، حتى استشعرنا انه يعيش بشخصيتين، شخصية أساسية قوية في البيت وفي خارجه، وشخصية ضعيفة منقادة لأمنا، ولكن ثبت أن رؤيتنا غير صحيحة، فعند هذا الموقف الذي أرادت أمي أن تفرضه بتوقفي عن الدراسة رفض بشدة وكنت لأول مرة أراه يقول «لا» حتى خشيت أن يدب بينهما خلاف وفي النهاية تهزمه وتهز صورته في عيني، ولم يحدث هذا، وكانت له الكلمة العليا في الحوار كله، وانصاعت أمي وفرحت لانتصار أبي في هذه المنازلة او المواجهة، وسعدت لأن وقت الدراسة يبعدني عن التوتر وأجواء البيت المشحونة. وأدركت سبب حنان أبي وحسن معاملته، وتأكدت أنها ليست ضعفا في شخصيته، وإنما حكمة كبيرة، فهو يرى أفعال أمنا ولم يرد أن يكون مثلها، وأراد أن يعوضنا عن قسوتها، ويتدخل عندما يحتاج الأمر إلى رأيه، كثيرا ما كان ذلك يغضب أمي لأنه يقف في صفي أو صف احد اخوتي، ترى انه ينصرنا عليها، فيؤكد لها أننا لسنا في حرب، فلا غالب ولا مغلوب، يجب أن نناقش أمورنا ونتخذ فيها الرأي الصحيح، إلا أنها لا تدرك ما يقول أو تدعي عدم قناعتها بكلامه. وبجانب لسانها فإن أمي شخصية مسيطرة، تحب إصدار الأوامر، وتنفيذها على الفور في التو واللحظة ولا حق لاحد في مناقشتها أو مراجعتها، توجه الكلام بصوت جهوري اقرب للصراخ، يضرب بها الجيران المثل في علو الصوت وهم يعلمون كل ما يدور في بيتنا، لأنه يصلهم من دون أن يسترقوا السمع، فلم يعد عندنا أسرار نحتفظ بها، وعندما نعاتبها على ذلك تستنكر كلامنا، وتؤكد أنها ليست مجنونة كي نقدم لها النصائح ولا يهمها أحد وهي حرة فيما تفعل أو تقول. وألقت تصرفات أمي بظلالها على علاقتها بعائلتنا، فهي أيضا على خلاف دائم مع جدي وجدتي وأعمامي وعماتي، الجميع يرفضون أسلوبها، ولا تعجبهم طريقتها في التعامل او الحوار ولذلك يتجنبونها ولا يتدخلون في شؤوننا حتى لا يكونوا سببا في المزيد من المشاكل في بيتنا المتوتر. من المحظورات التي ترقى إلى درجة التحريم في حياتي، تبادل الزيارات مع صديقاتي، أو الحديث في الهاتف مع زميلاتي، أو الخروج لأي أمر مهما كانت أهميته، لا أشاهد التلفاز، ولا اسمع الإذاعة، لا اطلب شيئا صغيرا او كبيرا، وقائمة المحظورات طويلة جدا، كنت انفذها تفاديا لغضبها الذي لا قبل لي به، فاستريح واسد الباب الذي تأتي منه الريح. كل ما ذكرته لم أتوقف أمامه، تعايشت معه، ولا ازعم أنني كنت اعيش مأساة ولا معاناة مع هذه الأحداث لكن الآن بدأت استرجع هذه الوقائع ولا أصدق أنني مررت بها وتحملتها وتخطيتها، وما جعلني أعود اليها هو ما استجد في حياتي بأنني أنهيت دراستي وجاء من يطلب يدي للزواج، وبجانب أنني مثل كل الفتيات احلم بزوج وبيت مستقل وأبناء اود أن أخرج من تحت سيطرة أمي وتحكمها، لذا سعدت بمن جاء يطلب يدي، وضاعف من سعادتي انني أعرفه واستريح له - من بعيد - وتربطنا صلة قربى، غير ان المفاجأة أن أمي ترفضه والسبب لا يصدقه أحد، فقط لأنه من أقاربنا وهي لا تريد أن تكون بيننا مصاهرة وعلى حد تعبيرها كما تقول إنها لا تستريح لأي شخص من عائلة أبي وتجهر بقولها أمام الجميع حتى أبي الذي يكتفي بالابتسام ولا يرد عليها وعندما استشعر أنني لا أمانع في الارتباط بهذا العريس، أعلن موافقته دون الرجوع لأمي، ولم يعتد برأيها ولم يقم له وزنا وحدد موعداً لقراءة الفاتحة والزيارة الأولى، ومع فرحتي بقرارات ابي كنت ايضا حزينة لانني أحب أن يتم كل شيء بموافقة أمي، خاصة ان العريس مناسب ولا يوجد ما يعيبه وهي نفسها ليست لديها ملاحظات عليه، بل قد تثني على أخلاقه وصفاته. في يوم إعلان الخطبة كنت في موقف حرج للغاية فمن عاداتنا يكون هناك مجلسان، أحدهما للرجال والآخر للنساء وهذا الذي كنت فيه، كان باردا، فقد عارضت أمي، والتحفت الغطاء واوت إلى فراشها حتى لا تقابل السيدات ولا تقدم لهن واجب الضيافة كما يتم في طقوس الأفراح، ولم تخف عليهن فعلتها، ولم يسروها وابدوها لها تلميحا في كلماتهن لها بالدعاء بالشفاء العاجل، ومن جانبي ليس عندي ما ارد او ادافع به، فلم اجد مبررا اسوقه، ولا عذرا أقدمه. كان هذا هو أسلوبها في التعامل مع خطيبي في كل زياراته المتباعدة لنا، وقد كانت قليلة لأنه يشعر بأنه غير مرغوب، وقد يجد بعض التعويض عن ذلك من جانب أبي، فلم تهتم أمي يوما بوجوده، ولم تغير تصرفاتها وأسلوبها بل أحيانا تبالغ في الموقف كأنها تريد ان تطرده، وهو في المقابل يتودد اليها ويحاول ان يسترضيها، إلا أنها لا تلين، فمازالت تشعر بالهزيمة، وتحاول أن تختلق أسباباً لفسخ هذه الخطبة التي اجبرت عليها. «أمي» لا تعرف الاستسلام، وتواصل جهودها إلى النهاية ولم تعدم حيلة في اختلاق المصاعب وتعقيد الأمور البسيطة، وفجرت أول مفاجأة حين اشترطت أن يشتري العريس شقة ويؤثثها ويتحمل وحده كل النفقات على أن تكون في المدينة وفي مكان متميز، وقلبت امامنا كل الموازين، اصابني الرعب من انسحاب العريس الذي بدأت ارتبط به، وجاء الرد على طلبها التعجيزي بالموافقة رغم انه يملك شقة في بيت ابيه لا ينقصها الا الأثاث الذي سنختاره معا، تنفست الصعداء، وعادت اليّ روحي التي خرجت بيدي أمي التي لم تتوقف عن الالحاح والاستعجال والتشدد في تطبيق الشروط التي حددتها، وفاجأني ابي كعادته، ولم يتركني كسيرة وساهم في تأثيث الشقة خلافا لرغبة أمي. وكانت الصدمة التالية في سلسلة حلقات الاختلافات عندما بالغت في اختيار الشبكة، وكادت تحدث أزمة اقتربت من إنهاء الزيجة كلها، فلم تفصح عن مطالب مسبقة حول كمية المجوهرات التي تريد أن يشتريها العريس، وراحت تختار من هذه وتلك، ومن الأطقم ما تعلم انه يفوق طاقته وامكاناته، حتى تفوز اما بفسخ الخطبة او تثبت انه غير جدير بمصاهرتنا وغير قادر على تلبية مطالبها، واعتقد انها كانت ترمي إلى اظهار ضعفهم أكثر ولتؤكد انها مازالت صاحبة الكلمة العليا والقول الفصل، ويا له من أب غير عادي، ففي كل مرة يفاجئني بما لم أعرفه عنه، أو لم اتوقعه، فقد اشترى لي كما اشترى العريس تماما - وعلى حد تعبيره - كي لا اكون رخيصة في عيني زوجي فيما بعد. شعرت أنا وخطيبي بأن فرحتنا فسدت بفعل فاعل، فلا تمر خطوة بلا قلاقل، ولولا حكمة ابي لغرقت سفينة حياتنا منذ زمن طويل، وهو الذي يجعل خطيبي يتحمل تصرفات أمي ويمر فوقها، ولا يتوقف أمامها، وقد فاتحني كثيراً في أمرها، وهو لا يجد لذلك سببا، وهو في النهاية له طاقة وقوة تحمل محدودة، وقد اقترب من الانفجار وللصبر حدود، واتخذت من حكمة ابي نصيبا وحاولت اقناعه بألا يجعل ذلك يرقى إلى درجة العداوة بينه وبين امي، ادعيت انها تحبني وتريد تأمين مستقبلي، وتتأكد أكثر من انه متمسك بي. وحتى يوم الزفاف لم يسلم من المحاولات، فقد مارست هوايتها وهي تطالب بأشياء إضافية لا قيمة لها، وانهت مطالبها باشتراط مبلغ كبير كمؤخر صداق في وثيقة الزواج وهددت بأنه إذا لم يتم ذلك فإنها ستترك العرس كله وتذهب الى بيت اسرتها، ولأن الجميع يعلمون انها قادرة على تنفيذ هذا التهديد، وانها بذلك قد تقتل الفرحة في نفوس الجميع، استجابوا لمطلبها باعتبار انه مطلب مؤجل ولن يكلف احد شيئا في الوقت الحاضر. صدقوني وضعت يدي على قلبي، وانا اخشى ان تخرج أمي بحجة جديدة وهي لا تعدم حيلة في ذلك، قد تؤدي إلى افشال الزيجة في اللحظات الأخيرة، ولم أصدق انني انتقلت الى بيت زوجي بالفعل، وكان أول حوار بيننا عن «أمي» وكيف نجونا منها وحمدنا الله على ذلك. مع هذا كله، أقول بكل صدق إنني أحب أمي كثيرا ولم أشعر يوما بكراهية لها، بل انني استيقظت يوما من نومي مفزوعة وانا ابكي في المنام لأنني رأيت أنها توفيت كما أنني متأكدة من انها لا تكرهني، وانما هذه طبيعتها وانا الآن في الأسابيع الأولى من الزواج، فقط أخاف أن تطل عليّ برأسها وتصدمني بمشكلة جديدة.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©