الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجبوري: هذه «أتيكيت» المجالس العربية

الجبوري: هذه «أتيكيت» المجالس العربية
1 أغسطس 2013 13:46
الحديث عن المجالس العربية، حديث ذو شؤون، لأنّ للمجالس تاريخا طويلا بدأ منذ عهد النبي الأكرم محمّد صلّى الله عليه وسلم وامتد إلى عهود تلت الخلافة العباسية، وما زالت مستمرة عامرة بجُلاّسِها إلى اليوم في الوطن العربي وفي دول الخليج العربي بخاصة، والتي تُعرف عند البعض بالديوانيات. وللوقوف على معنى المجلس، وشكله ورسومه، ومراسيم دخول المجلس “الاتيكيت”، وآداب المُجالسة فيه، نلتقي الدكتور يحيى وهيب الجبوري أستاذ الأدب الجاهلي في جامعات بغداد وليبيا وقطر والأردن، وصاحب المؤلفات الوافرة وتحقيقاته لأمهات كتب الأدب ودواوين الشعراء العرب الجاهليين والإسلاميين ليحدثنا عن تلكم المجالس في الحضارة العربية الإسلامية. عبدالمجيد عبدالحميد بدءاً حدثنا عن معنى المجلس؟ ?? يعني المجلس مجتمع القوم سواء أكان صغيراً يضم بضعة أشخاص أم كان كبيراً يتسع لعشرات، يجلس كبير القوم أو عالمهم أو رئيسهم ويتحلّق حوله أو بين يديه بقية الحاضرين حسب مكانتهم من السنّ أو المنزلة الاجتماعية أو المنزلة العلمية. وكانت المجالس وما زالت تعقد في البيوت أو المَضافات أو الدواوين الرسمية، يتداول الحاضرون ويتدارسون في أمورهم العامة والخاصة والحديث يجر حديثاً فيما يعرض لهم من قضايا، وقد يكون المجلس مجلس سمر وفكاهة وطرب، أو مجلس علم ودين، أو مجلس أدب وشعر، وفق اهتمامات الحاضرين أو الذين يتصدرون المجالس من ذوي الشأن والسلطان، وقد تكون هذه المجالس عفوية لا إعداد لها، وقد يكون لها إعداد وتنظيم وفق برامج مهيأة وأوقات محددة. ? ما طبيعة المجلس من حيث البساطة والفخامة؟ ?? اتخذ المجلس طابع أهله ومكانتهم من حيث البساطة والفخامة، فمجالس العلماء والفقراء بسيطة ومتواضعة، ومجالس الموسرين والمترفين يسودها الترف والنعمة ويكون فيها طعام وشراب، ومجالس الأمراء والخلفاء لها أصولها ورسومها، وتختلف هذه المجالس شكلاً ومضموناً باختلاف العصور واختلاف البيئات واختلاف الحضارات. وقد بدأت المجالس الإسلامية بسيطة ومتواضعة وتطورت وتعقدت بتطور الأزمان والحضارات، فصار لها رسوم وأصول وآداب. أصناف المجالس ? ما أصناف تلكم المجالس؟ ?? يمكن أن نقسم المجالس إلى أصناف حسب الآداب والعلوم التي تعرف فيها، فمن ذلك مجالس الخلفاء والأمراء، وهي مجالس عامة تناقش فيها أمور متعددة دينية وسياسية وأدبيّة ولغويّة وعلميّة، وفق ما يعرف الخليفة أو الأمير، ووفق المدعوين إلى ذلك المجلس من المهتمين بشأن معين، ومجالس الأدب من الشعر وخطابة وأيام وتاريخ وأمثال، ومجالس الغناء والطرب، ومجالس العلم في اللغة والنحو، ومجالس فلسفية تتناول آراء الفرق والطوائف والمذاهب والنحل وما إلى ذلك. ? هل اختلفت المجالس وتأثرت بموجب البيئات والزمان؟ ?? أجل لقد اختلفت المجالس، حيث كانت مجالس الخلفاء قد تأثرت بالبيئة والزمان والحالة الحضارية، فهي تختلف من زمان إلى آخر ولم يكن في عصر الراشدين شيء من الغنى والترف، بل كانوا يجلسون على الحصير أو البساط أو الجلود حسب ما يتيسر لهم، وقد يجلسون على التراب والحصى ولا يبالون بالنعمة الترف، وليس هناك مراسيم للدخول والخروج، فلا حاجب ولا آذن ولا شرطي، يدخل الناس إلى مجلس الخليفة ويخاطبه احدهم باسمه ويتحدث معه دون استئذان يحدثه حديث ند لنده، يعرض عليه حاجته ويطالبه بحقه، ويستفتيه ويجادله وقد يخالفه ويعظه وينصحه، وبهذه البساطة والشفافية كانت مجالس الخلفاء الراشدين، أما الأمراء والعمال الذين كانوا مجاورين للفرس والروم ولهم حضارة، فقد تأثروا بهم فاتخذوا بعض من وسائل الأبهة والترف، وزادت هذه الوسائل الحضارية بمرور الزمن، فما أن جاء العصر الأموي حتى صار للمجالس أصول ورسوم وأبهة وترف، فرتبوا المجالس واجلسوا الناس وفق مجالسهم، واتخذوا الحجاب، ولم يأذنوا إلاّ لفئة يرضاها الخليفة أو الأمير، وزاد الترف والأبهة في زمن العباسيين وقلدوا بذلك ملوك الفرس والروم وتعددت مجالسهم وتنوعت، فصاروا يجلسون مجلسا للحكم وآخر للأدب والشعر، وغيره للمنادمة وغيره للمناظرة والمذاكرة، وكل من هذه المجالس لها رسومها وأصولها وتختلف هيئة وفخامة من مجلس إلى آخر، وكان الخلفاء يقسمون أوقاتهم في الليل والنهار، ولكل وقت مجلس، فمجالس النهار لإدارة شؤون الدولة وقضايا الناس. ومجالس الليل للسمر والمنادمة والطرب. وصف المجالس ? أوضح لنا عن طبيعة شكل المجلس ورسومه عند العرب؟ ?? لقد اتخذ الأمويون والعباسيون ومن تلاهم القصور والمجالس الفخمة مقلدين في ذلك ملوك الروم والفرس، فصار في المجلس أسِرّة وكراسي من الأبنوس والصندل، مُرصعة بالعاج والذهب محفوفا بالستور الملونة المترفة، ومفروشا بالطنافس عليها الفرش من الديباج والخز، وعليها الوسائد المزينة ونقشت السُتر وصدور المجالس بالأشعار وقد يكون للخليفة أو الأمير مجلسان، مجلس عام لإدارة شؤون الدولة يحضره الوزراء والكتاب ورجال الدولة خاصة، ومجلس آخر خاص للشعر والأب والطرب يحضره الأدباء والشعراء والمغنون والندماء. وكان المجلس في إبّان الحضارة ينعقد في قاعة أو بهو كبير، على جدرانه صور ممثلة بالذهب والفضة لما في البحر والبر من شجر أو حيوان أو جبال، يكسو أرضه بساط واحد أو عدة أبسطة من الديباج أو نحوه وفي أطراف البهو مناور من الذهب أو الفضة، توضع عليها الشموع، ويسبل على أبواب المجلس ونوافذه ستائر من الحرير أو غيره مطرزة بشارة الدولة أو بأشعار أو حكم أو آيات أو أحاديث، أو رسوم مدن أو أنهر أو جبال، وفي وسط القاعة سدّة أو سرير يجلس عليه الخليفة، وكان يُصنع من العاج أو الأبنوس أو الصندل ينزل بالذهب، وقد غالى بعض الخلفاء حيث كانوا يضعون أمام الخليفة المعتمد على الله في الأندلس في مجلسه تماثيل عنبر من جملتها جَمَلٌ مرصع بالذهب واللؤلؤ، وجَمَلٌ من بلّور له عينان من ياقوت، وقد حُلِيّ بنفائس الدُرّ، ولمّا كان الخلفاء يحتجبون عن الناس، كانوا يعلقون في وسط القاعة ستراً بينهم وبين الجلساء، أو يستترون عنهم وراء شباك مُخرَم، وكان فرشهم يختلف في الشتاء عنه في فصل الصيف، فيضاف إليه في الشتاء مواقد النار فيها الندّ والعود، ويلبسون الفِرَاء اللائقة بالوقت على أشكالها. ? ما هي مراسيم دخول المجلس آنذاك؟ ?? كان الدخول على الخليفة في زمن الخلفاء الراشدين أمراً ميسوراً، وحين يدخل الرجل على الخليفة يسلّم عليه أو يقف الرجل بالباب ويقول: “السلام عليكم أأدخل”، يكرر ذلك ثلاثاً، فإن لم يؤذن له لم يعدها. فلما كان زمن الخلفاء الأمويين ومن بعدهم أقيم الآذنون والحُجَاب يتوسطون للناس بالدخول على الخليفة بحسب طبقاتهم في أوقات معينة، ففي المجالس العامة يقدمون الناس حسب مراتبهم، أما في المجالس الخاصة فيؤذن لمن يطلبه الخليفة من الأدباء والشعراء والعلماء ويجلسونهم في مواضع لأكثرهم أدباً، وهكذا، وصار هذا الأمر مُتبعاً لدى الخلفاء والأمراء في سار العصور. ولم يكن الدخول على الخلفاء امراً ميسوراً في العصور الأموية والعباسية، بل كان حسب مراتبهم، ويقال إنّ أول من رتب المراتب في الدخول على الخليفة هو زياد ابن أبيه في العراق، وكان حاجبه عجلان قد أشار عليه بذلك فأخذ بمشورته، وجعل الإذن للناس حسب البيوتات، وحسب الأعمار وحسب الآداب، ثم صار ذلك سُنّة في الاستئذان على الخلفاء في عصر الأمويين. أما إذا كان المستأذنون جماعة، فيؤذن أولا لأشرفهم نسباً، وإذا تساووا في النسب فيؤذن لأكبرهم سناً، فإذا تساووا في السنّ فيؤذن لأكثرهم أدباً، وهكذا، وصار هذا الأمر متبعاً لدى الخلفاء والأمراء في سائر العصور، ولم يكن الدخول على الخلفاء امراً ميسورا في العصور الأموية والعباسية، بل كان الوافدون يقفون على الأبواب يطلبون، فأما يُؤذَن لهم أو يمنعون، فإذا مُنعوا أعادوا ثانية وثالثة، وربما أقاموا على الأبواب أياماً. السلام والتحية ? كيف يبقون منتظرين أياماً على باب الخليفة أو الأمير؟ ?? نعم يبقون أياماً معدودات، ولهذا البقاء فقد جعلوا للوافدين المنتظرين داراً يقيمون فيها حتى يؤذن لهم، وكان أول من فعل ذلك الخليفة أبي جعفر المنصور العباسي، فقد بنى بيوتاً للإذن حين بنى بغداد عاصمة للخلافة العربية الإسلامية، فكان الوافد يقيم في الدار ريثما يستريح وينتظر حتى يؤذن له بالدخول، وجرى الخلفاء بعده على نظام المنصور هذا. وحين يؤذن للرجل الدخول يتقدم ويلقي التحية قائلا: “السلام عليك” ويتجنبون قولهم “عليك السلام”، لأنها تحية الموتى، وقد يضاف إلى التحية كنية الخليفة أو الأمير ولا يزيدون على ذلك، فلما اتسعت الدولة وخالطوا الأعاجم صاروا يقلدونهم في تفخيم رؤسائهم، وكان المغيرة بن شُعبة قد دعا إلى تفخيم الحاكم ومخاطبة الأمراء بألقاب الأمارة، ومن قوله: “ينبغي أن يكون بين الأمير ورعيته فرق”، وأن يحيوه بتحية الأمراء في قولهم: “السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته”، أو: “السلام على الأمير ورحمة الله”، ثم اقتدى بهم سائر المسلمين، وميزوا الخلفاء بتحية الخلافة فكانوا يقولون عند الدخول على الخليفة: “السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته”، أو: “السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله”، وما زالت هذه تحيتهم في العصور الأولى. ? وغير ذلك من الأمور؟ ?? أما تقبيل يدّ الخليفة، أو الأمير فقد كانوا يفعلون ذلك عند التحية أو البيعة أو العفو أو الوداع، ثم ترفع الخلفاء في العصور المتأخرة أن يلمس الناس أكفهم، فصار التقبيل للأكمام والعتبات على حسب الاقتدار، وربما كرّم الخليفة أحد قواده فيمنعه من تقبيل يده أو كُمِّهِ كما فعل الخليفة المهدي العباسي مع مسلم بن قتيبة حين تقدم ليقبل يده فجذبها المهدي قائلاً: “نصونك عنها ولا نصونها عن غيرك”، وزادت الذلة والمهانة في العصور المتأخرة، ففي زمن الفاطميين كان الناس يقبلون حافر فرس الخليفة، ويروى أن القائد جوهر الصقلي لمّا ودع مولاه المعز لدين الله الفاطمي عند قدومه لفتح مصر، انزل المعز أولاده لوداعه، فنزلوا عن خيولهم، ونزل أهل الدولة لنزولهم، فقبل جوهر يدّ المعز وحافر فرسه، ويبدو أن هذه الذلة المتناهية لم تقتصر على فرد أو أفراد، ولا بيئة من البيت، بل صارت ظاهرة يتبعها بعض الناس ممن هانت نفوسهم وكثرت أطماعهم، من ذلك ما يقال أن عبد الله بن مالك صاحب شرطة الخليفة المهدي العباسي كان خائفاً من الخليفة الهادي لأنه سبّه قبل خلافته، فرأى منه رعاية وحلماً فأقبل يُقبّل يدّه ورجله وحافر دابته. ? كيف كانت تتم طريقة جلوس الداخلين إلى المجالس؟ ?? إنّ جلوس الداخلين في مجلس الخليفة، كان يتم عن طريق الحاجب أو الآذن الذي يتولى إجلاسهم حسب مراتبهم، ففي العصر الأموي كان الجالسون قرب الخليفة هم من بني أمية، يجلسون على الأسرة ويجلس بنو هاشم على الكراسي، وفي الدولة العباسية صار الجالسون قرب الخليفة هم بنو هاشم يجلسون على الكراسي، أما بنو أمية فكانوا يجلسون على الوسائد، ويلي هؤلاء في المرتبة سائر طبقات الجالسين من أهل الدولة ويكون جلوسهم حسب مراتبهم. آداب المُجالسة ? هلا حدثتنا بشيء عن آداب المُجالسة؟ ?? بكل سرور، فقد كانت المجالسة في زمن الخلفاء الراشدين لا تختلف عن مجالسة سائر الناس، فليس فيها كلفة ولا تصنع، وكانوا يخاطبون الخليفة باسمه أو كنيته، وكان الحاضرون يخاطب بعضهم بعضاً دون تكلف أو تهيب، فلما صار الأمر لبني أمية تشبهوا بالدول المجاورة، وأرادوا أن تكون للدولة هيبة في نفوس الناس وللسلطان سطوة، وقد كان للولاة في ذلك أثر في نشر الخوف في نفوس الرعية وتفخيم أمر السلطان، ولذلك منع الكلام في حضرة الخليفة، وان لا يُسلم على قادم بين يدي الخليفة، وأول من فعل ذلك زياد بن أبيه إذ أمر: “أن لا يُسلم على قادم بين يدي الخليفة”، وكان أول من منع الكلام في حضرة الخلفاء هو عبد الملك بن مروان، ثم زاد تجبر الخلفاء وتعاظمهم حتى منعوا الناس من مخاطبتهم كما كانوا يخاطبون أسلافهم، وكان من المتجبرين الوليد بن عبد الملك، فحرّم على الناس أن يكلموه كما كانوا يكلمون أسلافه، وبقي الأمر على هذه الحال حتى زمن المأمون العباسي، الذي أذن للحاضرين أن يتناظروا بين يديه، وأباح لهم الكلام وهو يشارك في هذه المناظرات ويسّر بها لأنّ مجلسه كان مجلس علم، وكانوا لا يبدؤون الخليفة في الكلام حتى يؤذن لهم، وأول من بدأ بالكلام في حضرة الخليفة الوزير أحمد بن أبي داؤود وزير المعتصم بالله بن هارون الرشيد. ومن آداب المجلس أن يكون الأمر فيه للخليفة وحده، ولا يجوز لأحد أن يتكلم لأحد دون أن يسأل ولا يتشاغل بشيء، وإذا نهض الخليفة نهض سائر الحضور. وظلت هيبة الحكم طيلة هذه العصور، حتى إذا قويت شوكة القادة الأتراك في زمن الخليفة المتوكل على الله واستولوا على مقاليد الحكم، ضعفت هيبة الخليفة... وكان ممن يحضر مجلس الخليفة يكون حذراً لبقاً في كلامه، يجيد الجواب إذا سُئِلَ، ويتجنب في مخاطبته الكلمات التي توحي بمعانٍ قد تغضب الخليفة، فلا يقال له “لا” في الإجابة، وإنما يحتال على ذلك بكلام غيره، ومن الاحتيال والتحرس في مخاطبة الخلفاء ما يروى أنّ عبد الملك بن صالح أحد أمراء الخلفاء العباسيين أرسل إلى الخليفة هارون الرشيد فاكهة في أطباق الخيزران، وكتب اليه: “أسعد الله أمير المؤمنين، وأسعدني به، إني دخلت إلى بستان أفادنيه كرمك، وعمرته لي نعمتك، قد أينعت أشجاره، وآتت ثماره، فوجهت إلى أمير المؤمنين منه شيئاً على الثقة والإمكان، في أطباق القضبان، ليصل إلى مَن بركة دعائه مثل ما وصل إليّ من كثير عطائه”، فاستحسن الرشيد تكنيته عن الخيزران بالقضبان، لأن الخيزران هي اسم أم الخليفة هارون الرشيد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©