الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«عسل اسود»: لا يكفي الحنين ليصنع وطناً

«عسل اسود»: لا يكفي الحنين ليصنع وطناً
20 يناير 2011 20:21
العسل لذيذ الطعم، طيب المذاق، عميق الأثر في ذاكرة الذائقة، لكنه إذ يغدو أسود تصير له حكاية مختلفة.. الوطن هو كذلك أحياناً، الأصح غالباً، مكان محبب يطيب لأبنائه المقام به، يغادرونه مكرهين، ويعودون إلى أحضانه مشتاقين طامحين إلى تعويض ما فاتهم من التنعم بألوانه والإصغاء لبوح ذكريات الطفولة.. برغم البعاد، وبسببه، يبقى الوطن محط الخاطر الجامح التائه التائق إلى الالتقاء بذاته، النازع دوماً نحو التصالح مع هذه الذات التي قد تغريها الغربة يوماً لكنها دوماً تظل مشدودة إلى موطىء الروح، الوطن هو ذلك المكان السحري الذي نحبه دونما سبب مقنع، ونغفر له كل ما يقع في بند الخطأ أو الخطيئة، دون أن يكون في الأمر تسامح أو تغاض.. لكن الوطن ليس دائماً كما نتمنى أن يكون، وأحياناً يكون للوطن مذاق العسل الأسود! على هذا المنوال ينسج الكاتب خالد مرعي والمخرج خالد دياب وقائع فيلمها «عسل اسود»، حيث نقع في مستهله على المواطن مصري (أحمد حلمي) الذي قاده الحنين بعد غربة استمرت عقدين من الزمن للعودة إلى الوطن، يفعل ذلك مدفوعاً بالرغبة في منح ذاكرته نكهة العسل المطعم بوقائع الطفولة، يأتي الرجل حاملاً لجنسية أميركية، لكنه استجابة للحنين يقرر القدوم إلى بلاده بجوازه الأصلي، وإذ يفقد مصري جوازه المصري، يكون عليه أن يعاقر نمط حياة الآخرين ممن لم يسعفهم الحظ في الحصول على جواز أخضر، ويتعرضون جراء ذلك للكثير من منغصات العيش. أحكام جريئة بين مصري المؤمرك وفق جواز سفر، ومصري الفاقد لفرصة العبور نحو المكانة اللائقة جراء فقدانه وثيقته المميزة، مسافة شاسعة تدور في رحابها أحداث الفيلم وفق نبرة ساخرة حتى آخر الحدود الممكنة، لكنها تلك السخرية السوداء، كالعسل، هي تضحك وتحرض على البكاء في آن.. وذات يوم قال الشاعر: الناس في بلدي من صعوبة البكاء يضحكون.. على وقع رصد بالغ الدقة للسلوكيات الاجتماعية المثيرة للشكوى يصوغ الفيلم خطابه النقدي، يناقش الخلفيات التي تتحكم في الذهنية المهيمنة على المجموع البشري، ليطلق أحكاماً جريئة وغير مجاملة، لمرة نادرة لا تقيد القضايا المثارة ضد مجهول، ولا يجري الحاقها بمرجعية ذات هوية ملتبسة.. ثمة خلل لا يمكن التغاضي عنه يسود العلاقات الانسانية، وهو مسؤولية جماعية بامتياز، لا يقلل من حدته أنه يحصل في ظل تواطؤ مشترك بين مرتكبيه والمتضررين منه، خلل يجدر بالمعنيين (أي بالجميع) الإعتراف به والكشف عنه تمهيدا للتعامل معه بما يستحق، الأرجح ان هذا ما يحاول المواطن مصري ان يقوم به على امتداد اقل من ساعتين من الاستعراض الساخر المستند إلى قدر مواز من المرارة. جلاد وضحية لسنا هنا بصدد الضحك للضحك، على غرار الفن للفن، لكنها تلك السخرية المفتوحة على جدية رصينة وموجعة: البطالة، غياب المنزل الزوجي، تدهور المستوى التعليمي، انتشار الرشوة في المؤسسات العامة، الاستهتار في القيم الناظمة للمرافق المشتركة، وصولا إلى التحرش الجنسي على الملأ المواصلاتي.. كل ذلك مسؤولية المواطن الذي يكاد حرصه على الصمت المطبق أن يجعله شريكاً بمواصفات كاملة في الجرم، مهما ابدى تمرساً بدور الضحية.. لا يتردد الفيلم في إعادة طرح البديهيات على بساط البحث: الوطن مجدداً هل يسعه الاكتفاء بكونه حاضنة جغرافية لأبنائه ليستقيل من سائر مهامه؟ وما هي مسؤولية كل فرد عن تجزئة الوطن بين قاعة انتظار للراغبين في الهجرة ومدافن للعائدين منها، الطامحين لأن ترقد رفاتهم في تراب ارضهم الأولى؟ أيضاً هل يمكن للتواصل العاطفي بين الجيران أن يكون بديلا عن المنظومة القيمية والقانونية التي يجدر بها تنظيم علاقاتهم؟ والأهم: هل يصلح التسامح والتواد الانساني ما افسده المزاج السلوكي المتحلل من الضوابط والمتمرد على أبده قواعد التفاعل العمراني؟ لعبة البازل يمكن التعامل مع الفيلم بوصفه مجموعة لوحات بانورامية تعكس بأمانة انماط حياة سائدة، إلا أن من شأن جمع هذه الشظايا اللونية على طريقة «البازل» أن يؤول بها نحو صورة متكاملة لمحيط بشري غرائبي تنتابه احيانا الرغبة في ان يكون سوياً، لكن تصرفاته اليومية تنجح دوماً في إقصائه عن تحقيق تلك الرغبة، لعل ما يمكن استنتاجه هنا ان المطلوب تخطي النوايا، وان كانت سليمة، نحو الفعل المدروس، وقد يكون الانطلاق من نفي المقولة السائدة، والمصرة على اننا بخير، وان احوالنا لا تشوبها شائبة من انحدار قيمي واخلاقي، قد يكون ذلك ضرورياً للحؤول دون مزيد من التراجع.. ثمة خصوصية للون الكوميدي الذي يقترحه الفيلم تمثل الشراكة الحقيقية أبرز مقوماتها، الجميع هنا مساهمون في صياغة الطرافة، كل وفق شخصيته، وفي الأمر ما يتخطى مفهوم السمة المميزة نحو رؤية سينمائية جريئة متحررة من لوثة وضع الحواجز بين البطل واصدقائه تكريساً لهيمنة الاخير، وهي رسالة تعني العاملين في هذا المجال، وتبدي نوعاً من الاعتراض المهذب على صيغة سائدة تكرس الفردية الآيلة إلى الفشل حتماً.. رجوع وفِّق الفيلم في توصيل رسالته دون افتعال، ولعل المشهد الأخير كان الأشد تعبيراً: بعد صراع مرير مع الذات يقرر المواطن مصري العودة إلى اميركا، لكن إذ تقلع الطائرة تستجد معطيات وجدانية في داخله تجعله يتراجع عن القرار، يتذرع بعارض صحي، إلا أن لهجته المصرية لا تشجع قائد الطائرة على الهبوط بها، هو يكتفي بالطلب إلى المضيفة أن تعطيه بعض المسكنات، حينها يصير بوسع الجواز السحري أن يفعل فعله، يلَّوح به صاحبنا فتغير الطائرة مسارها، وتقفل عائدة إلى أرض المطار! هكذا يسدل الفيلم ستارته على اشارتين موجعتين: محبة الوطن تحتاج أيضاً إلى جواز أجنبي، ومن لم يثبت أقدامه فوق الأرض عليه أن لا يتوقع الكثير من السماء! كلام على الشاشة: طبق الطعام هذا يدور بيننا وبين الجيران منذ أول شهر رمضان حتى أننا لم نعد نعرف مالكه الحقيقي. (جارة المواطن مصري بينما ترسل طبق طعام لجارتها)
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©