الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فنون المرايا بدأت شرقية وانتهت غربية

فنون المرايا بدأت شرقية وانتهت غربية
5 أغسطس 2011 22:23
رغم أنه لا يوجد دليل تاريخي على أن الإنسان توصل لابتكار صناعة المرايا استجابة لرغبة المرأة في التزيين، فإن المرايا صارت أكثر الأدوات التي عرفتها الإنسانية ارتباطاً بالنساء ربما من قبل أسطورة “نرسيس” الإغريقية الشهيرة. وطبقاً لتلك الأسطورة التي تفسر مصطلح “النرجسية” أو عبادة الذات، فإن الإنسان الأول كانت مرآته الأولى هي صفحة الماء التي يرى فيها انعكاس صورة وجهه، وهو ما كان مصدر الإلهام للبشرية لابتكار المرآة. من المعروف أن بعض الحيوانات تشارك الإنسان في معرفة استخدام صفحة الماء كمرآة ترى فيها انعكاس صورها، بينما هناك حيوانات مثل القطط تتعامل بشكل عدواني مع صورها المنعكسة على صفحة الماء. ولصناعة المرايا تاريخ طويل ارتبط دوما بالنساء ففي أدبيات الحضارة المصرية القديمة كان ينظر للرجل الذي يوفر لزوجته المرآة وزيت الشعر باعتباره زوجاً محترماً لم يخل بواجباته تجاه شريكة حياته. وقد عرفت الشعوب القديمة المرآة، ولكنها لم تكن على الهيئة التي نعرفها اليوم، فقد كانت من معادن لامعة براقة كالبرونز يتم صقل أحد وجهيها ليكون براقاً صافياً يمكن أن ترى فيه الوجوه وكان الحفاظ على هذا الوجه الصقيل يستوجب عناية خاصة من قبل المستخدمين سواء عند الاستخدام أو التخزين. “ماء حر” اللافت أن المصري القديم أطلق على المرآة اسم “ماو حر” أي رؤية الوجه أو “ماء حر” بمعنى تأمل الوجه ومع قرب تلك الألفاظ الظاهر من “مرآة” العربية فليس بخاف أيضاً صلتها “بالماء” الذي منحت صفحته الإنسان إلهاماً خاصاً للوصول لابتكار المرايا المعدنية. واحتلت المرايا المعدنية موقعاً محورياً بين منتجات الفنون الإسلامية التطبيقية التي أنتجت لتلبية حاجات المرأة وتظهر الأمثلة المحدودة التي وصلتنا منها أن الفنان اهتم اهتماماً بالغاً بإكساب ظهر المرآة المعدنية طابعاً من الجمال، وكذا مقبضها ليليق بالغرض الذي تستخدم فيه وهو التزين. وأبدع الفنان المسلم في تشكيل المقبض على هيئات زخرفية متنوعة تتسم كلها بالرشاقة ومراعاة النسب الجمالية فيما بين المرآة المستديرة ومقبضها فضلاً عن سهولة الإمساك بها وقت الاستخدام. ولكن الميدان الرئيسي الذي برزت فيه إبداعات الفنان كان ظهر المرآة حسبما نرى في عدد من مرايا برونزية تعرضها بعض المتاحف العالمية. ومن أقدم المرايا واحدة من البرونز المصبوب أنتجت في إيران إبان عصر السلاجقة في القرن الخامس الهجري “11م.” ويحتوي ظهرها على زخرفة قوامها رسم لفارس على ظهر جواد ويبدو واضحاً من مرافقة أحد كلاب الصيد له أن المقصود هو التعبير عن منظر صيد وقنص وربما أراد صانع المرآة أن ترى صاحبتها وجهها على الوجه الصقيل للمرآة، بينما ترى على الظهر صورة “لفارس الأحلام” في عصر كانت فيه رياضة الصيد من أهم الرياضات التي تمارسها النخبة العسكرية الحاكمة. ويحيط بالنقش البارز لمنظر الصيد كتابة كوفية تتضمن أدعية لصاحبة المرآة بالسعادة الكاملة والعز الدائم والسلامة. عصر البرونز وثمة مرآة ثانية من إيران يعود تاريخها للقرن السادس الهجري “12م.” وهي من البرونز المصبوب أيضاً وقد نقش على ظهرها رسوم ورود وأوراق نباتية تحيط بها كتابة كوفية تحمل أدعية لصاحب المرآة. ومن نفس الفترة مرآة يزدان ظهرها بكتابات بخط النسخ تحتوي في حوافها إشارات لنعمة الإسلام مع دعوات بالحفظ من مكر الماكرين وهو ما يشبه “الأحجبة” التي كانت تستخدم لدفع الحسد وهو أمر يتماشى مع الاعتقاد السائد منذ القدم بارتباط المرايا بأعمال السحر وبالحسد الذي قد يعطي امرأة دميمة من جمال محيا واحدة أخرى، وبوسط ظهر المرآة قام الصانع بكتابة سورة الفاتحة كاملة مع تكرارها بطريقة تجعل كل كلمة فيها تنحصر في مربعات داخل أشرطة كتابية متقاطعة وهو ما يعبر عن براعة هندسية وموهبة فنية كبيرة. وهناك أيضاً من نفس الفترة التاريخية مرآة من البرونز المصبوب اتخذت هيئة دائرة مفصصة، وقد زينت حوافها بكتابات بخط النسخ تضم داخلها دائرة من كتابات كوفية تحمل عبارات دعائية أما وسط الظهر ففيه رسم لكائن خرافي له جسد أسد ووجه آدمي وقد رسم مكرراً في وضع التدابر ومن المعروف أن لمثل تلك الكائنات الملفقة معاني سحرية في التراث الثقافي للأقاليم الآسيوية، وهو ما يعيدنا مرة أخرى للمعتقدات الشعبية في الشرق والغرب حول السحر والمرايا. صناع البندقية استخدام هذه الكائنات السحرية لم يقتصر على المرايا المنتجة في إيران، بل نراه أيضاً في واحدة من المرايا البرونزية المصنوعة في الأناضول التركية خلال عصر سلاجقة الروم، وهي تعود للقرن السابع الهجري “13م” وإن تميز رسم الكائنات السحرية هنا بالميل الشديد نحو التجسيد والتعبير بواقعية عن القوة وشدة البأس في رسم عضلات جسد الأسد مع إضافة رسوم لأوراق نباتية. أما الكتابات الكوفية التي تحيط بظهر المرآة فقد احتوت على عبارات دعائية يمكن أن يستفاد منها أن المرآة صنعت للبلاط الملكي، حيث تتضمن إشارات لدوام الدولة. ثم حمل القرن العاشر الهجري “16م” مفاجأة سارة للنساء عندما نجح صناع بمدينة البندقية في صناعة أول مرآة من الزجاج الذي غطي ظهره برقائق من الفضة وهو ما أتاح لمستخدمي المرايا الزجاجية فرصة الحصول على منتج خفيف الحمل قليل الكلفة وفي ذات الوقت عالي الجودة من ناحية الصورة الرائقة الواضحة التي تعكسها المرايا الزجاجية مقارنة بمثيلاتها المعدنية. كان هذا الابتكار الذي عد في حينه أعجوبة العصر سبباً في شهرة النساء بحب إطالة النظر للمرايا وفي القضاء نهائياً وبصورة مفاجئة على منتجات المرايا المعدنية، ولكن الفن الإسلامي لم يستسلم لهذا التطور الذي كان كفيلاً بإخراجه من ميدان فنون المرايا إذ سرعان ما توجهت جهود الفنانين لإنتاج علب فاخرة ذات أشكال فنية رائقة لحفظ المرايا الزجاجية. ومن تلك العلب الأولى واحدة تؤرخ بالقرن الثاني عشر الهجري “18م.”، وهي إيرانية الصنع، وقد استخدم الورق المعجون في عملها، بينما رسم عليها باللاكية منظر لجارية تعزف على آلة موسيقية ربما كانت “البزق” وإلى جوارها شاب يضرب الدف، وهو تكرار لمناظر الطرب المعروفة في الفن الإسلامي، ولكن المنظر هنا رسم بروح أوروبية خالصة ولا سيما من ناحية رسوم الأشخاص بنسب تشريحية سليمة ومراعاة الظل والنور والتجسيم فضلاً عن الواقعية في رسم المنظر النباتي لحديقة في خلفية التصويرة. الغزو الأوروبي يزيح المرايا المعدنية سرعان ما وجدت علب المرايا الإيرانية طريقها للأسواق الأوروبية في القرن التاسع عشر، حيث لقيت إقبالاً هائلاً من النساء هناك، بفضل ألوانها ورسومها. ومن أشهر الفنانين الذين برعوا في هذا المضمار “محمد إسماعيل نقاشي باشي”، ومن آخر أعماله علبة مرآة من ورق معجون مرسوم بمادة اللاكية تبدو فيها رسوم آدمية لشخص له لحية كثة، وقد أمسك بسيفه، بينما تحيط به صور ذات طابع أوروبي لسيدات وحوريات وربما كان لبعضها مغزى ديني مسيحي، ولعلّ هذا النوع من علب المرايا يجسد حقيقة الغزو الحضاري الأوروبي الذي أزاح المرايا المعدنية عن عرش مستلزمات زينة النساء بقدر ما أسبغ الطابع الفني الأوروبي على علب المرايا الزجاجية.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©