الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سداد الدين

سداد الدين
24 سبتمبر 2006 01:48
سعاد جواد: لكل شيء ثمن··· هكذا علمتني الحياة، فلا تستغربوا إذا عرفتم أنني أم لخمسة رجال أفنيت عمري من أجلهم منذ أن كانوا صغارا حتى كبروا وتعلموا فنون الحياة والاعتماد على النفس، ثم فانسحب كل واحد منهم ليستقل بحياته الأسرية حتى خلا البيت منهم جميعا، ثم تركني والدهم ورحل هو الآخر إلى جوار ربه، وبقيت وحيدة ومنسية· فقد انفض الجمع ولم يعد أحد منهم محتاجا إلي· قد تسمون ما يفعله أولادي عقوقا··· بالتأكيد هو عقوق· ولكن لماذا يعقني جميع أولادي الخمسة بلا استثناء؟ لماذا لم يجعل الله الرحمة في قلب واحد منهم على الأقل؟ أتعرفون لماذا؟ الجواب لدي··· إنه دين، نعم هو دين عليّ أداؤه، قبل أن أترك الدنيا وأرحل عنها· أعتقد أن الله سبحانه وتعالى يحبني لذلك عجل لي العقوبة في الدنيا على كل ما اقترفته في حياتي· أنا راضية كل الرضا لما يحدث· لست مجنونة ولم أخرف بعد على الرغم من وصولي إلى سن الستين· أنا بكامل قواي العقلية، أؤكد لكم أنني راضية وسعيدة لأن أولادي لا يسألون عني ولا يكترثون لي· صحيح أنا أتأذى من ذلك لأنني أشتاق إليهم كثيراً، ولأنني لم أقصر يوما في الاهتمام بهم ورعايتهم وتلبية كافة احتياجاتهم حتى آخر لحظة، ولكن كما قلت لكم··· فأنا أعتبر جحود أبنائي هو عقاب عادل لي على كل ما فعلته في حياتي الزوجية تجاه أهل زوجي· الأمر دقيق ومعقد ولكنه واضح ومفهوم· معظم الزوجات يكررن نفس الخطأ تجاه أهل أزواجهن··· ولهؤلاء النسوة أروي حكايتي لعلها تكون لهن نبراسا وضوءا يكشف لهن الحقائق التي ربما تغيب عن أذهانهن· اسمحوا لي أن أروي حكايتي التي تتكرر باستمرار دون أن ينتبه إليها أحد· أول الحكاية كنت فتاة جميلة ومدللـة· لم أتعلم من أسرتي الكثير قبل الزواج· فقد تزوجت في سن مبكر لم أستطع فيه فهم الحياة الزوجية بشكلها الصحيح· كان زوجي وحيد أمه وله ثلاث أخوات بنات أكبر منه· والده متوفى، وقد تزوجت أخواته وبقيت أمه تحت رعايته ومسؤوليته· منذ بداية زواجنا لمست حب زوجي لي وتعلقه بي وانصياعه الكامل لإرادتي، ذلك كله جعلني أتصرف معه بدلال شديد· كنت أتصنع الغضب وأسعد كثيراً عندما أجده يحاول إرضائي بأي شكل· خططت في أول الأمر لإخراج أمه من حياتنا، واصطنعت الحيل الماكرة المتعددة حتى تم لي ما أردت، وذهبت المسكينة لتعيش في بيت إحدى بناتها· والله إني أتألم عندما أتذكر يوم رحيلها من عندنا· كانت تبكي وهي منهارة ومحطمة، ليس لأنها ستفارق بيتها الذي سيطرت عليه ولا لأنني انتزعتها من المكان الذي سطرت فيه ذكريات حياتها مع زوجها وأولادها، ولكن لأنها ببساطة كانت متعلقة جداً بولدها، ولا تطيق مفارقته· توسلت إلي أن أعقل وأن أبقيها في البيت لتراه ولو من بعيد وهو رائح وغاد، ولكنني رفضت ذلك بإصرار· منظرها الكئيب كان يستفزني وإن لم تؤذني، وإن لم تجرح مشاعري بكلمة واحدة··· أردت أن تغادر هي البيت لأكون فيه السيدة الوحيدة··· يا له من تفكير· كم ألوم نفسي على كل ما فعلته··· كم أتمنى أن تسامحني تلك المرأة الطيبة رحمها الله· للأسف فإن الزمن لا يعود إلى الوراء أبداً· كم تمنيت لو عاد الى الوراء فأحتضنها وأحبها من كل قلبي وأعاملها كما أعامل أمي تماما، إنها تستحق كل الخير، فلماذا تصرفت معها على ذلك الوجه القبيح؟ والله لا أدري· إصرار عجيب لم أكتف بما فعلته بها بعد أن طردتها من بيتها وتركتها تعيش في منزل زوج ابنتها بدلا من أن تعيش معززة مكرمة في منزل ولدها· لم أكتف بذلك وإنما صرت أمنعه من زيارتها والسؤال عنها، إلا في أوقات متباعدة جداً· كنت أحس به وهو يتعذب ويشتاق إليها ولكنني كنت أشغله باستمرار حتى لا يفكر إلا بي وبأولادنا وبمسؤوليات أسرتنا· أصبح لدينا خمسة أولاد· لم أسمح له بأخذهم إلى جدتهم وعماتهم ليتعرفوا عليهن··· وكنت آخذهم باستمرار إلى منزل أهلي ليكونوا قريبين من أخوالهم وخالاتهم وليتربوا مع أبنائهم··· والويل لهم إن فكروا بالسؤال عن أهل والدهم أو رغبوا في رؤيتهم· كان ذلك من الممنوعات أو من المستحيلات· كان زوجي باستمرار المحب المجنون والعاشق المطيع الذي لا يفكر أبداً برفض أوامري أو بالخروج عن إرادتي· شغلته بي وبأولادنا بشكل مستمر· أدخلته في تفصيلات كثيرة في شؤوننا الصغيرة والكبيرة· أدرت رأسه كي لا يفكر بغيرنا· أوحيت له بأن رضا الله من رضا الزوجة··· وأن الرجل إذا قصر مع زوجته وأولاده فسيكون من أصحاب النار، وأنه مخلوق ومسخر لعائلته وبيته فقط وليس للآخرين حقوق عليه، حتى لو كانوا أهله··· أمه وأخواته· كنت أختلق المشاكل وألهيه بالتفكير الدائم لإيجاد حلول لها· وكنت أتشاجر معه وأفتعل الخصام كي يبقى إحساسه بالتقصير نحوي ونحو أولاده مستمرا· أنا المظلومة المسكينة دائما وهو الظالم الذي تتكرر أخطاؤه بحق زوجته وأولاده، فيضطر للاعتذار وطلب السماح وهو كسير الخاطر· إذا مرضت أمي أتهمه بأنه لا يكترث لأمرها فيركض المسكين ويقف عندها في المستشفى ولا يبرحه حتى تشفى· كان يبرها أكثر من أولادها في حين أن أمه تمرض وتتوسل كي تراه فأسمح له بالذهاب لرؤيتها لدقائق ثم أتصل به وأستعجله حتى يعود بسرعة· وكذلك كان يفعل مع إخواني وأخواتي··· فهو شقيقهم الأكبر الذي يساعدهم جميعا في حل أزماتهم· لا ينسى مناسباتهم ويقدم لهم الهدايا والهبات، وما أكثر الهدايا وما أغلاها تلك التي تقدم لأهلي لإرضائهم وكسب محبتهم··· كل ذلك بالطبع على حساب أهله الذين لم يعد يسأل عنهم ولا يؤدي أي واجب من واجباتهم على الإطلاق· حتى صديقاتي كان زوجي لا يتأخر عن أداء واجبه في الاطمئنان على أزواجهن وتقديم باقات الزهور والهدايا في المناسبات وأداء جميع ما يتوجب عليه تجاههن· الجانب الآخر كان أحيانا يستأذنني لمجاملة عائلته· فمثلا عندما تزوج ابن أخته سمحت له بالذهاب إلى العرس شرط عدم المكوث طويلاً· وبالطبع فقد أقنعته بأن زوج أخته رجل ثري ولا داعي للهدايا، فنحن وأولادنا أولى بذلك المال· اتصلت به أمه يوما وطلبت منه الحضور بسرعة· جن جنوني وبقيت متوترة طوال الوقت··· ماذا تريد منه؟ إن لديه أسرة ومسؤوليات··· ألا ترحمه؟ ذهب إليها وعرف بأن خلافا كبيرا قد حصل بين أخته وزوجها وأنها تريده ان يتدخل لإيجاد حل للمشكلة· اتصل بي ليستشيرني- فهو لا يخطو خطوة واحدة دون استشارتي- قلت له لا تتدخل أبداً، فلربما جاء تدخلك في غير محله فتتعقد الأمور بين اختك وزوجها وتلقى المسؤولية عليك· استمع لنصيحتي ولم يتدخل وبقيت المشاكل متأججة بين الطرفين حتى تم الطلاق فتزوج الرجل من أخرى وترك شقيقة زوجي مع أولادها في وضع مادي حرج· كان زوجي متضايقاً لأنه لم يتدخل لحل مشكلة أخته فأخبرته بأن طلاقها كان أمراً محتوماً ومقدراً عليها، وحتى لو تدخل فهو ما كان سيستطيع أن يغير من مشيئة القدر· عندما مرت أخته في ضائقة مادية طلبت منه المساعدة، فأقنعته بأن وضعنا المادي لا يسمح لنا بمد يد المساعدة لها، وأن الأفضل لها أن تطلب المساعدة من أختيها قبل أن تتوجه إلينا وهي تعلم حجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا· اتصلت به أمه يوما وطلبت منه أن يساعدها في إحضار خادمة لها لأنها مريضة ولم تعد قادرة على خدمة نفسها، وهي تساهم براتبها الضئيل في سد نفقات أسرة ابنتها المطلقة· بالطبع لم يستطع زوجي اتخاذ قراره قبل أن يتصل بي، وما أن اتصل بي وعرض علي الأمر حتى رحت أعدد له مضار الخادمة للمرأة المسنة وأقنعته أنه من الأفضل لابنتها المطلقة أن تعتني بأمها ما دامت تنفق عليها وتساعدها بما تحصل عليه من المال· كنت أقنع زوجي دائما بأنني متأثرة كثيرا لما يحدث لأمه وأخته وأمثل عليه تمثيلية التعاطف الإنساني، فيقول لي في حنان: كم أنت طيبة يا حبيبتي··· ليت كل النساء مثلك· كان آخر ما فعلته في تلك التمثيلية هو عندما مرضت أم زوجي ورقدت في المستشفى· ذهب إليها فأخبره الأطباء بأنها تحتاج لعملية جراحية، والأفضل أن تجرى تلك العملية خارج الدولة في مستشفى متخصص وبأسرع وقت· اتصل بي ليخبرني بأن شقيقاته قد جمعن المبلغ الذي تحتاجه العملية واقترحن أن ترافقه إحداهن في السفر مع الوالدة لأن الإجراءات تحتاج لوجود رجل، وهو الابن الوحيد··· وهو أحق من غيره بتلك المسؤولية· طلب مشورتي فأخبرته بأن الأطباء يبالغون والأفضل عدم نقلها إلى مستشفى آخر وعدم تسفيرها خارج الدولة لأن صحتها لن تحتمل كل ذلك، والأفضل أن تجرى لها العملية بنفس المستشفى وبأسرع وقت ممكن· استمع إلى نصيحتي وطلب إجراء العملية بنفس المستشفى فصدمت أخواته عندما قام بتوقيع الأوراق لإجراء تلك العملية، وبكين بحرقة وحسرة· بعد إجراء العملية توفيت العجوز، فعاد زوجي وهو متألم يبكي موت أمه، متأثراً بلوم أخواته له· فصرت أواسيه وأؤكد له بأن عمرها قد انتهى وأنه من الأفضل لها أن تموت في بلدها وسط أولادها بدلا من أن تموت في ديار غريبة· لم يعد زوجي كما كان وظل حزينا كئيبا لا يتكلم ولا يضحك كما كان يفعل سابقا· اتجه إلى التدين وصار يجلس منعزلا يبكي ويصلي طوال الوقت· أصبح شخصا آخر غير زوجي الذي عشت معه· مرت السنوات وكبر الأولاد وتزوجوا ورحلوا كل إلى حياته· وبالطبع فإنهم في بداية زواجهم كانوا يزورونني ويسألون عني ثم تباعدت تلك الزيارات وانقطعت الاتصالات حتى لم أعد أعرف عنهم شيئا· وكما قلت لكم فإنني أعرف جيداً بأن ما يفعله أولادي بي هو عقاب من الله سبحانه وتعالى لي على كل ما فعلته في أيام قوتي وشبابي· أصبحت أنظر إلى عيني زوجي الحزينتين وأقرأ ما بهما··· فيتقطع قلبي· كم وددت لو أنني امتلكت الجرأة لمصارحته بالحقيقة، وهي أنني نادمة من شعر رأسي حتى أسفل قدمي· كنت أتمنى ان أستسمحته قبل أن يرحل· حاولت أن أستجمع شجاعتي وأقول له بأنني أخطأت بحقه وبحق والدته وأخواته· حين قررت ذلك كان الوقت قد فات ورحل زوجي دون أن يسمع كلمة واحدة من اعتذاراتي وأسفي· رحل وهو حزين وكئيب، ولا أدري إن كان قد سامحني أم لا· هاأنذا أقضي سنوات عمري وحيدة، حزينة وكئيبة· أجد الناس من حولي يتحدثون عن عقوق أبنائي، ويتأسفون لهم، وأنا ساكتة لا أستطيع أن أشرح لهم السبب الحقيقي الذي يقف وراء ذلك العقوق· سأكون سعيدة لو أن الكثير من نسائنا اتعظن من حكايتي، ولو أن بعض الرجال أوقفوا زوجاتهم عند حدهن، وحاولوا إمساك العصا من الوسط، فلا يجعلوا حقوق الزوجة تطغى على حقوق الأهل أو حقوق الأهل تطغى على حقوق الزوجة··· ففي كلا الحالتين ظلم عظي
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©