الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

على جناح طائرة.. ورقية

على جناح طائرة.. ورقية
3 نوفمبر 2010 21:22
في بقعة من الأرض جوادة بالخير والبركات، حيث تتمتم شِفاه السماء بالرحمة، وتشعّ عيونها الزرقاء بالسلام.. وحيث العصافير متكئة على أذرع الأشجار، تُرسِلُ زغاريدها وترانيمها وبهجتها للحياة.. وقفت الأم ترقب ابنها وهو يلهو حولها بطائرته الورقية الملونة.. رمقته بعينين تفيضان أملاً أن يكون غد الأمة به أجمل، وأن يمتد نمو غرستها في الاتجاه الصحيح، تماماً نحو الشمس.. تريده مهندسا للروح، طبيبا للقلب، وبطلا عظيما في دنيا الأخلاق.. وبينما تنسكب الآمال الوردية على قلب الأمومة التوّاق، تدفقت نسمة ناعسة مشبّعة بأنفاس الزهر على وجهها الحالم، فتنفست بعمق حتى لكأنها تحتسي الهواء وهي تنكّس عينيها استرواحا.. وما أفاقت من شرودها إلا على صوت بكاء مفاجئ لفتاة صغيرة تعدو باندفاع غاضب صوب أفراد أسرتها وهي تتوعد فتى الطائرة الورقية وتهدده بأن تشكوه لوالدها.. سارت أم الفتى توّا إلى ابنها لتستفسر منه عن سرّ بكاء الطفلة، فأخبرها بأنها طلبت منه أن يعطيها طائرته الورقية لتلعب بها، لكنه رفض منحها الطائرة دون مقابل.. أنصتت الأم لحديث ابنها باهتمام.. التفتت إليه بعينين طافحتين رقة وحنوّا، وقالت والابتسامة الوديعة تكسو محيّاها: إيهٍ بُنيّ، يا أملي الأخضر.. هات يدك وتعال نتمشّى يدا بيد وجنبا إلى جنب، كم أشتاق أن نحلق معا على بساط التأمل السحري.. نتتلمذ سويّة في مدرسة أمّنا الطبيعة.. هيا.. تعال.. راقب معي هذي الأزهار وخبّرني بِمَ توشوش لآذان قلبك الصغير؟!.. “لا شيء يمكنني سماعه يا أمي!” أجاب الفتى ببراءة، فباغتته الأم بردّها: أما أنا فأسمعها تقول بأنها تحبنا كثيرا، ولذلك تقدّم لنا قلوبها العطرة مجانا ودون مقابل عربونا لمحبتها.. إيهٍ يا ملاكي البريء، هلمّ بنا نتعلم من حكيم الدروس الزرقاء.. ذاك الكريم المُسمّى بالبحر.. لله ما أسخاه!.. يعيش في أحشائه الدولفين والقرش، فيتسع رحمه للإثنين على السواء.. يمخر أفلاكه المؤمن والكافر، فلا ينحني مرحبا بهذا ولا يعبس بوجه ذاك.. يحمل سلاطين الناس كعبيدهم، وأحيائهم كأمواتهم، ويأكل من راحتيه الزرقاء الإنسان والحيوان والنبات بلا فرق ولا حساب.. أفلا سألته يا صغيري عن دستوره في الحب والعطاء؟!.. تابعت الأم الحكيمة حديثها العذب وهي تحدّق في محبوبها بعينين محمومتين وتشدّ على كلتا يديه هامسة: أوّاه يا طائري الصغير.. ما بال هذي الأرض تؤرجح بلطف وحنان جميع عيالها بين ذراعيها دون انتظار مقابل؟!.. لِمَ تعتني بكل أبنائها دون تمييز بين أخ وأخ؟!.. إنها ترضع الذئب والخروف، والنحلة والذبابة، والنخلة والحنظلة، والطود والحصاة، والغني والفقير، والأبيض والأسود، والعالم والجاهل دون تذمّر ولا تقصير.. كان الابن يحتضن وجه أمه بعينيه حرصاً على أن لا يفوته شيء من تعابير وجهها المُلهِم وتفاصيل حديثها المترع بالشهد، إن لكلماتها سلطانا عظيما على فطرته السليمة، وقد لاحظت الأم الذكية بفطنتها خشوع بطلها الواعد، فراحت تسترسل في العزف على قيثارة الفكر والتأمل وهي تغذّ السير باتجاه بائع العصير لشراء بعض المرطبات، وما إن جلسا على مقعد الحديقة وارتشفا بضع قطرات من عصير الفراولة، حتى أسدلت الأم أجفانها وبابتسامة ناعسة وعاطفة متدفقة تابعت البوح الجميل: لله ما أعذبه من شعور!!.. أحسستُ يا روحي وأنا أشرب هذه القطرات بأني أدخلت الحياة بأسرها إلى جوفي!!.. فكل ما في مصنع الحياة قد تعاون لإعداد هذا الكوب الصغير من عصير الفراولة.. الأيادي التي بذرت، والتربة التي احتضنت، والسحب التي أمطرت فأنبتت، والريح التي ساقت السحاب لسُقيا الأرض، بل إن هذا الغمام المحمّل بالطهر والبركة والعذوبة ما هو في الحقيقة إلا ثمرة قران أشعّة الشمس اللافحة بمياه البحر المالحة!.. إنه الابن الشرعي للشمس والبحر، لذا كان سخيا كريما معطاء كوالديه.. لعمري مدرسة عظيمة، وعائلة كريمة، وشركة عجيبة هذه الحياة المغلفة بالأسرار والمعجزات!!.. إنما أنا وأنت يا ضيائي نشرب الآن عرق المسكونة بأكملها.. سواعد بشرية زرعت وحصدت وعصرت، وسواعد حشرات ساهمت في تلقيح النبات، وسواعد تربة وسواعد سحب وسواعد ريح وسواعد شمس و.. و.. ويا الله ما أسخى جودك وأجزل نعمائك!!.. كيف عسانا نشكرك يا ربّاه على هذا الجمال الذي من فوقنا ومن تحتنا وعن يميننا وعن شمالنا وفي أعمق أعماقنا.. في الروح.. تِلكم النفخة الإلهية.. سرّ سعادتنا وخلودنا.. لك الحمد يا ربّنا ولك السجود ولك العهد: بأن نتأسّى ما استطعنا بأستاذتنا الطبيعة التي يتنافس عيالها في تدليلنا وترفيهنا وأكثريتنا في غفلة عن اليد التي تجود وترعى وتحتضن وتمنح!!.. ارتعشت شفتا الفتى واخضلّت عيناه من شدة التأثر فصاح منفعلا: أمّاه.. رويدكِ يا أمّاه، رفقا بقلبي الصغير، فلقد تنفستُ هذا اليوم حتى تشبّعتْ رئتاي جمالا وعطرا!!.. بوركتِ من أم مؤمنة حكيمة في كلماتها الشفاء والعافية.. كم صالحتِني مع نفسي ومع الطبيعة.. أثريْتِ روحي يا أمي.. فداكِ روحي.. تهللت أسارير الأم من تفجّر الرجولة المبكرة في كلمات بطلها الصغير، فقبلته بين عينيه بحنان وهي تردد: “بل فداك أمّك يا روحها”.. أمّا هو فما تمالك نفسه بعد درس الجمال.. لقد حمل طائرته الورقية وانطلق مسرعا صوب الطفلة الحزينة يقدم لها الطائرة بسخاء نفس وطيب خاطر.. شكرته الطفلة وعائلتها ووعدوه أن يعيدوا له طائرته قبل ما يغادروا المكان، إلا أنه أصرّ على أن تحتفظ الصغيرة بها وتعتبرها هدية من صديق يحلم بأن يصير من عظماء الغد.. تماما كأستاذته الطبيعة وعائلتها الكونية البديعة..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©