الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سيرة بصرية لـ «رجل الشرق»...

سيرة بصرية لـ «رجل الشرق»...
3 نوفمبر 2010 21:24
عالم غريب، معادٍ، يتحول إلى إلهام، عالم يكتنفه الغموض والأسرار والحكايات والخوف كونه مصدراً لتهديد أوروبا يتحول إلى عالم من السحر الفياض المحفز على الفضول الذي تنامى لاكتشافه من قبل الأوروبيين أنفسهم. ارتحل نحو هذا العالم رحالة من المستكشفين والتجار والسيّاح والعلماء والفنانين إلا الساسة فقد ظلوا بهواجسهم وخوفهم من هذا العالم حيث كانوا حذرين منه. شرب الرسامون والمكتشفون منه معرفته وسجلوا همساته وأيقوناته ونبضات شرايينه في سجلاتهم، تعرفوا على كتبه وثقافته ومشاهده اليومية في أضيق جزء من أجزائه، فبدا يتضح إليهم شيئاً فشيئاً. دخل الرسامون والمكتشفون الأوروبيون إلى هذا العالم الشرقي، إلى الشارع فيه وإلى بلاط قصوره وحريمه فصوروا لذائذ حياته، أسطورة وجوده، سحره المخبوء في أعماقه والذي لم يره الشرقي نفسه. في عام 1308 جاء أب الأتراك، عثمان، فغزا العالم وبنى امبراطورية سميت باسمه “الامبراطورية العثمانية” فتنامت حتى صارت تحد من المغرب حتى إيران ومن القوقاز والخليج العربي إلى بوابات فيينا في أوروبا. صعدت الدولة العثمانية، فشكلت تهديداً لأوروبا، وبدا هذا العالم الشرقي القادم بقوة مخيفاً، مرعباً، تحول بعد حين من مصدر خوف عند الأوروبيين ـ رسامين، مكتشفين، سواحاً، تجاراً ـ إلى مصدر فضول. ارتحل إليه كل هؤلاء، حتى أن بعضهم بدأ يعد عليه أنفاسه، إلى أن وصل مرحلة اطلق عليه بـ”الرجل المريض” فتيقن هؤلاء جميعاً أن موته قارب أن يقع أو قاب قوسين أو أدنى. كل ذلك قد نقرأه في إطار كتاب صدر حديثاً عن دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث تحت عنوان “صور الامبراطورية العثمانية” من تأليف تشارلز نيوتن وترجمة سامر أبو هواش. حقيقة الشرق مجموعة من صور الدولة العثمانية من مقتنيات متحف فيكتوريا والبرت، أنجزها فنانون أوروبيون وتنوعت في موضوعات عدة هي “السفارة والرحالة والفنانون والعلم والفن والعمارة والحرب والتجارة والمخيلة”. صور تمثلت الدقة والوثائقية في التقاط الأشياء وتوثيق الحدث بحيث استطاعت أن تعكس حقيقة الشرق بكل تفاصيله حتى أنها أصبحت وثيقة تشهد لعصرها عن فرديتها أو رسميتها في التعامل مع حقبة من الزمن مرت على إنسان الشرق. ومن الغريب حقاً أن إنجاز الصورة الاستشراقية الغربية التي قام بتنفيذها الرسام الأوروبي كانت بأوامر السلطان العثماني، فقد كان السلطان نفسه في مناسبات معينة يكلف بإنجاز رسوم تصويرية للامبراطورية لكي يقدمها كهدايا أو كوسيلة دعائية للسفراء، كما كانت للسفراء ذائقة أدبية وفنية حيث رغب الكثير منهم في أن يأخذوا معهم لدى عودتهم إلى بلادهم صوراً تلتقط بدقة أكبر الطبيعة الخاصة للثقافة التي خبروها عن كثب. مقابل كل هذا كان بعض السفراء يصدرون فرامين “أذوناً” من السلطان كي يذهب رساموهم إلى أماكن لا يدخلها الإنسان العادي حتى الرسام نفسه لا يستطيع دخولها بدون فرمان السلطان. حصل هذا للضابط الانكليزي ستراتفورد كانينج حين رأى الفناء الداخلي للمسجد الملكي آيا صوفيا، حيث أرسل رسامه اليوناني لكي يرسمه وأن يدبر للشاعر بايرون زيارة مسجد آيا صوفيا. كانت الموضوعات، البلاط التركي، اسطنبول والناس فيها وآثارها وعادات أهلها وتقاليدهم. ولكن لنتساءل: هل غلب البورتريه على موضوعات الطبيعة؟ أو لنقل هل كان هذا الفن هو الأكثر تمثلاً لفن الذات السياسية التي تمجد الأنا؟ مأدبة عشاء تطالعنا صورة السلطان سليم الثالث 1908 وهي من الحفر التنقيطي بالأسود والبني والأحمر والأزرق وهي تؤرخ لهذا الحاكم العثماني الذي كان خطاطاً وموسيقياً بارعاً ومهتماً بالثقافة الغربية، لاسيما بفن الرسم وقد رسمها له فنان البلاط اليوناني قنسطنطين قبيدغلي. في لوحة أخرى لمأدبة عشاء تجمع بين ستراتفورد كانينج ومسؤول عثماني وهي من رسم فنان مجهول وجاءت ضمن مجموعة قنسطنطين قبيدغلي وهي منفذة بالألوان المائية وجواش للدبلوماسي الإنجليزي والمسؤول التركي يجلسان على الأرائك الموشاة، الحريرية وبينهما طاولة من الساج وثلاثة خدام يقفون في خدمتهما. يضع الشخصيتان شالين على فخذيهما حذراً من تلوث ثيابهما.. ارستقراطية عثمانية، والترجمان واقف بينهما والفرو يغطي جبته الحمراء الأنيقة. فنان مجهول نقل بألوان مائية شفافة ساطعة وقوية وجواش التقاليد العثمانية ونسق الحياة الراقية فيها. يعتقد مؤلف الكتاب أن الفنان الذي نفذ هذه اللوحة من دائرة قنسطنطين قبيدغلي حيث يجمعه واياه ذات الأسلوب. في لوحة السلطان محمد الثاني وهو في طريقه إلى أداء صلاة الجمعة 1809 رسم فنان مجهول هذه الطقوس، وكما يبدو أن هذا الرسام هو أيضاً من دائرة قنسطنطين قبيدغلي.. حيث صور اجتياز موكب السلطان المهيب شوارع اسطنبول إلى المسجد لحضور صلاة وخطبة الجمعة يحيط به حراسه الراجلون. تعليق 1 هنا يبدو السلطان محمد الثاني (ولد 1784 فترة الحكم 1808 ـ 1839) وهو يخرج من بوابة “توب كابي” أو الباب العالي وهو مركز الحكم في العاصمة العثمانية اسطنبول من 1465 حتى 1853 وكان السلطان نفسه يكنى في أرجاء الامبراطورية باسم الباب العالي نسبة إلى هذا القصر وقد اختفى السلطان تقريباً خلف حراسة الشخصين (سولاق) الذين يرتدون قبعات عالية. تعليق 2 هنا في هذه اللوحة للسلطان محمد الثاني لم يحاول الفنان أن يصور السلطان إنما صور موكبه إذ اقتصر تصوير السلطان على البورتريه لما فيه من تجسيد لكامل شخصيته وملامحه وكينونته المفردة وأناه الأعلى، وعندما يلتقط موكب السلطان إلى الصلاة فإنما يريد الموكب وليس السلطان، إذ الغياب هنا حضور هناك والكينونة المخفية ظاهرة في الموكب، والعظمة المختفية واضحة في المعنى. الصورة لا تشي بجسد السلطان بل بوجهه البعيد الظاهر بين قبعات الموكب وهو الأعلى صورة بدلالة الأطول قامة، لا يبين منه سوى وجهه وعمامته وشارة السلطان “ريشته” تلك هي صورة البورتريه التي توضع في أعلى الموكب. الرسام مجهول المكان آيا صوفيا والرسام مجهول أيضاً وهي من ضمن مجموعة قنسطنطين قبيدغلي من الألوان المائية والجواش. آيا صوفيا بأقواسها وعمارتها المخيفة وأعمدتها المتراصة وهيبتها الباذخة بآلاف الأقواس والعقد، كلها تطل على ساحة المسجد وبشبابيكها الموزعة على الجدران بتناسق مذهل وبساطة ممتدة حتى عمق اللوحة، بألوان مائية شفيفة كنيسة حجية صوفيا “الحكمة المقدسة” سميت بآيا صوفيا، لا يسمح لغير المسلمين الدخول إليه. مشهد من الشرفة حيث تجلس النسوة وهن ينظرن إلى الساحة التي كان فيها مذبح الكنيسة سابقاً في عصر الامبراطورية البيزنطية. في لوحة مباراة مصارعة بالشحم في حدائق القصر لفنان مجهول وبالألوان المائية 1809، شابان متصارعان بسروالين قصيرين من الجلد وقد اصطبغا بالزيت الذي دهنا به، ونساء يجلسن محجبات جمهور نسوي يتابع المباراة وكوسك السلطان وهو منزل صيفي على تلة في زاوية اللوحة. في لوحة “الصوفية الرفاعية” حيث التكية الرفاعية لفنان مجهول ومن الألوان المائية، يصور فيها الفنان مدارس أو طرقاً عدة من الصوفيين الدراويش وبخاصة أولئك الصوفيين الذين يتبعون الطريقة الرفاعية. طقوس دائرية وغلبه الأحمر الدموي والأخضر الإسلامي على ثياب الحضور والأعمال السحرية القاسية التي تدل على الاحتمال، ابتلاع الأسياخ المحماة بالنار والدبلوماسي الإنجليزي ستراتفورد كانينج في زاوية بعيدة ينظر من فتحة باب قاعة الطقوس، وشخص في الزاوية الأخرى في حالة انهيار ولاتزال الطقوس مستمرة في اللوحة. رسم الفنان المجهول السير عسكر (قائد الجند) بكامل ملابسه وبمشيته المنظمة الرتيبة، بكامل رتبه وأوسمته وأغطية الرأس البيضاء وجبته المحملة بالرموز العسكرية. في لوحة انكشاريان يحملان خلقين للمساء وثالث يحمل الملعقة العسكرية الضخمة لفنان مجهول أيضاً. وأخرى لعائلة مترجم البلاد يشبه رسمها رسم رافائيل الأرمني وهو رسام البلاط عند السلاطين محمد الأول وعثمان الثاني ومصطفى الثالث. جدران الغرفة مبطنة بالحرير الفرنسي والنضد على طراز “روكو” الذي ساد في ذلك الزمن، وبلاط من الرخام.. الأخضر الفاتح متناسق مع لون الخشب الساجي والحرير يتناسب والجدران والمعاطف من الفرو الأحمر والأخضر، سيادة لهذين اللونين على مجمل معاطف ذاك الزمان. مشهد للقاهرة الكبرى من فوق هرم الجيزة، لوحة مائية وجواش، أفق ممتد وحجارة الهرم ومصريون وأتراك يبصرون الأفق وهذا العمل من أعمال لويجي ماير النموذجية، تعلم ماير في روما ولا يعرف أصله، ألمانياً كان أو سويسرياً أو إيطالياً، توفي في 1803. الرحالة والفنانون في بداية القرن 18 بدأ السواح يتدفقون على تركيا وكان الغزو الفرنسي لمصر 1798 دافعاً قوياً لاكتشاف الشرق العثماني، في هذه الفترة قام فنانون مهمون يبحثون عن موضوعات جديدة باختيار الشرق، حين أصبح اللامألوف هاجسهم حيث الجدة في الموضوع كان يعتبر مصدر جذب لجمهور مقتني الأعمال الفنية. أما المتعة الشخصية فظلت عند الكثيرين باعثاً عن الترحال، ومع ظهور المدرسة الرومانسية صارت الرغبة الشخصية عنصراً فاعلاً في الفن الأوروبي. بحلول منتصف القرن الثامن عشر كان هناك رسامون وفنانون فوتغرافيون محترفون يقومون بتزويد الأعداد المتزايدة من السيّاح الراغبين بصور تذكارية لرحلاتهم. في مصر مركب خنجة بجانب الضفة الشرقية للنيل في الأقصر 1840 من رسم اشيل كونستامت ثيودور اميل بريس دافين 1807 - 1879 بالألوان المائية وهو فنان وكاتب والسينما وعالم آثار، وظفه حاكم مصر محمد علي باشا لكي يساعد على تحديث الجيش والأنظمة الزراعية. نسخ دافين النقوش ومن أعماله نقل قائمة الملوك (قائمة الكرنك) وتضم أسماء 61 فرعوناً وهي موجودة في متحف اللوفر في فرنسا، نقلها من معبد آمون في الكرنك، وقد احبط حملة روسية أراد الحصول عليها. رسم عالم مصر القديمة والجديدة وسحر بالنيل وباللون الصحراوي. شاطئ الأقصر عبر النيل إلى جبل قرنة على الضفة الغربية حيث القارب بطوله الفارع وبشارته الحمراء التي ترمز إلى الرحالة البريطاني. المسكن العربي في صحراء السويس 1859 طباعة حجرية (ليثوغراف) ملونة بالزيتوني في كامل أجوائها، أرضها، عرباتها، سماؤها، وهي صورة من الطبعة الألمانية. من جمال وخيمة عربية وعربة تجر أربعة خيول. باب متولي تشتغل المخيلة في هذه اللوحة كثيراً، وحين تخطئ تتساءل لماذا يستعين فنان مثل الكونت ماتو اندراسي بالمخيلة بدلاً من الواقع إلا إذا كان بعيداً عن الشرق حين نفذ هذه اللوحة - وهو احتمال قريب - حيث لا توجد العربات التي تجرها خيول أربعة وهي ليست خيمة عربية بدقة، إنها صحراء المخيلة. منظر لحصني موراني وجلالي عند مدخل ميناء مسقط للفنان وليام دانيال (1769 ـ 1837) ولوحة أخرى لأمير أرمني وزوجته للويس دوبريه (1789 ـ 1838) وهي طباعة حجرية، وثالثة لمسابقة ألبانية للفنان الكسندر غابرييل ديكامب (1803 ـ 1860) وهي من ألوان مائية وجواش مع لون أبيض مقوى بالغراء. وتأتي لوحة “باب متولي” في القاهرة 1843 رسمها دافيد روبرتس (1796 ـ 1864) من الألوان الزيتية على الخشب لتجسد الشوارع المصرية الحية، إنها بوابة المتولي “باب زميله” حيث كان “متولي” يجلس عند باب القاهرة لتحصيل ضريبة الدخول إليها. هذه البوابة هي إحدى البوابات الثلاث للمدينة، منارتان توأمان فوق البوابة وهي جزء من مسجد السلطان المؤيد، لون الجوز يطغى على الشناشيل الخشبية الساجية والجدران الحجرية والمنارتان في قمتهما يتناغمان مع لون السماء والمزرقة ببياض شفيف. في لوحة مقهى تركي، اسطنبول للفنان اماديو (1816 ـ 1882) وهو رسم بالرصاص والألوان المائية مع لون أبيض مقوى بالغراء، ذلك الفنان الذي احترف الفن استطاع أن ينقل لنا كل دقائق المقهى التركي حيث الحياة بدقتها، بتفاصيلها المنمقة اسطنبول في القرن التاسع عشر تعيش بكل شخصياتها الكوزموبوليتية. مجموعة من العازفين ويوناني بغليون طويل وآخر أفريقي يقدم الجمر وهو يحمل نرجيلة أيضاً تلك هي الالتقاطات الجزئية التي تكتنز حركتها. مجتمع ذكوري في مقهى إلا من متسولة تقف عند الباب سافرة الوجه.. يحاول الفنان الاستشراقي أن يلقط الغرابة.. الضابط الإنجليزي الذي لم يدخل حلبة الرفاعية يقف عند الباب والفتاة السافرة هي كذلك. يظل جان اتيان ليوتار (1702 ـ 1789) مسحوراً بالبورتريه، حيث رسم “السيد ليفيت” بزي تركي ورسم ليفيت نفسه وميل هلين غالفاني وكلتا الصورتين في عام 1740. في لوحة بورتريه لمحمد علي باشا “حاكم مصر” لجون فردريك لويس (1804 ـ 1876) نرى الرسم بالرصاص والألوان المائية لمحمد علي وهو يحدق بالرسام. العلم والفن والعمارة تجسدت العمارة بشكل دقيق في رسومات الاستشراق وهي ترجمة لما أنشأه المعماريون والمصممون والمهندسون. خيمة تركية “رصاص وحبر صيني وألوان مائية” وبين اللون واللون مسحة خفيفة من الخيال والمزخرفات باهظة الجمال، وهي لوحة هنري كين (1726 ـ 1776). منظر صحن آيا صوفيا من جهة الشرق آية في الجمال لجاسبار قوسياتي (1809-1883) والخان الكبير في دمشق لريتشارد فيني سبابر (1838 ـ 1916) هي دروس أكاديمية في الرسم. في لوحة “داخل بيت المغني الشيخ محمد مهدي” في القاهرة 1869 لفرانك ديلون (1823 ـ 1909) نرى الجواشي على الورق حيث الجزئيات تسرد حكاية اللون وانحناءة الرسمة والظل وانحناءة الحجارة. كذلك ضريح في ليشيا وقاعة في معبد آشوري، وهي مرممة من بقايا فعلية ومن أجزاء اكتشفت في الخرايت 1849 للسير اوستن هنري لايارد (1817 ـ 1894) من الحبر الصيني والألوان المائية. تلك هي صورة الدولة العثمانية وما خلفته لنا ريشة الفنان الاستشراقي وفناني البلاط نفسه ونترك مجال المخيلة إلى القارئ ليطلع على الكتاب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©