الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تفكير الوداع

تفكير الوداع
3 نوفمبر 2010 21:25
واضعاً إزاري المخطَّط بالأبيض والأخضر على كتفي وذاهباً إلى السفينة كي نغادر هذا الميناء... وما حدث معي في الميناء أمر لا ينسى، ولكن ينبغي أن يُنسى، فالنسيان وليس الذاكرة هو مزرعة الروح، والمياه التي تحتفظ بها آبار الأشخاص. وما الذاكرة إلا ما نستعمله من تلك المزرعة. نحبُ طماطمها فنتذكر الطماطم ونحب الباذنجان فنتذكره، ونحب العرق المدفون، أو الذي نسي طويلاً تحت سدرة المنتهى، وحين نشربه تتسع الحياة في العقول، وتطير الروح في سماء الجسد كما تطير الغيوم. وما حدث معي في الميناء أمر لا يُنسى... لن أنسى ـ مثلاً ـ تلك الغانية التي وجدتني ضائعاً فأخذتني كاليتيم إلى إحدى غرف حياتها وأجلستني بالقرب من قلبها، نتحدث أنا وهي عن صروف الحياة. ولن أنسى بالطبع أولئك الأوغاد الذين جلسوا معي على الطاولة في الحانة يتحدثون عن الثورة، وحين انتهت السهرة وجدت محفظتي قد اختفت ولا أعرف ماذا سأفعل، فالخارج لا يعاش بلا نقود، وأنا غريب هنا، والغريب بلا حلول، ولكن العالم لم يكن سيئاً على الإطلاق، فإذا بنادل عجوز يخرج من تحت الأرض، ويحنو علَّي... ولا أعرف كيف تصرف ليدفع فاتورتي الضخمة، إلا انه وبعدما أغلقت الحانة أبوابها، أخذني إلى بيته البسيط، وأعدت لي زوجته طبقاً من البيض لم آكل مثله في حياتي، وجلس يروي لي سيرته الغنية بالعذاب والحب... وأنا الذي لم يلق في طفولته ولا صباه ولا شبابه أية ابتسامة، وتركتني الموجة العرجاء كما يُترك المصابين بالجدري، وجدتني ابنة أحد جيران ذلك العجوز، وأحبتني بشكل أصابني بالدهشة، أحبتني إلى الدرجة التي صرت فيها أفكر بأنني لا استحق كل هذا الحب. أحبتني إلى الدرجة التي اكتشفت فيها أن هذا العالم، كل هذا العالم، لا يسوى نكلة بلا حب... وعندما اكتشف العجوز ذلك فرح كما لم يفرح والدي بوجودي، وكانت زوجته تستقبل حبيبتي من عند الباب كما تستقبل الملكات، وحين تدخلها علَّي تضحك.. وهنا اكتشفت بأن الضحك هو العمود الفقري للحب. والكلام.. تدفق الكلام، فإذا ما كان الذي بين جسد وجسد صحراء ويابسة ووهاد وجبال وسهول وأودية، فإن الكلام هو الأنهار التي تجري كي تصب في بحر الوجود. ولن أنسى أنهاري التي جرت مع تلك الفتاة. لن أنسى الغرفة الصغيرة التي استضافني فيها ذلك النادل العجوز والذي اقتطعها لي من بيته كما يقطع المرء جزءا من لحمه ويقدمه قربانا للإلهة. ولن أنسى الآلهة التي رعتني وأنا ضائع في السوق، أو التي كانت تبعث الغيوم كي تقف على رأسي بينما أنا ملتهب من شمس السماء، ومن فورانات النفس الجامحة. ولن أنسى تلك الفورانات، فالحكاية يا أصدقائي تبدأ عند الخروج، أو عند الدخول... وحين دخلتُ أنا هذا الميناء دخلته غريباً، بل أكثر من ذلك، فلقد أحسست بأن خشب السفينة قطعة من روحي تركتها هناك تطفو على ساحل الميناء الضحل، والسوق الذي أبهرني أضاعني. فاللهفة ضد الحكمة على الدوام، وأنا ملهوف، ويركض الاشتهاء في دمي كما تركض الخيول في البساتين، ولكني الآن وأنا خارج تودَّعني زوجة النادل العجوز وهي تدفع عربة أطفال بتوأمين، وزوجها ضخم الجثة تجهش عيناه كما تجهش الغيوم السوداء، أما حبيبتي فمنذ الأمس وهي تبكي، وها أنا أرى عينيها حمراوتين وكأنهما نامتا مع البصل. ولكني لا أستطيع أن أقدم لكل هذه المودة شيئا، فالسفينة تنتظرني وأنا بحار مأمور ومستعمل، كلما رُفِع شراع كنت تحته، وكلما شقَّت سفينة حيزوم الماء، كنت في أعلى السارية أراقب ما يستجد من رياح.. وعّليّ أن أنسى ما الذي حدث لحبيبتي بعدما غادرت السفينة. فهي ـ بتقديري ـ ظلت تبكي لأيام أو لأسابيع ولربما شهور، ولكنها بعد ذلك ستجد بالتأكيد بحارا غريبا مثلي فتحبه، أو لن تجد، أما النادل احمد راشد ثاني العجوز فسيعود إلى الحانة، وسيظل دوماً يحنو على الغرباء من أمثالي، ولعَّل حنوه ذاك هو ما يجعل من حوله يحبونه ويفكرون به كما يفكر البدو بالماء. وزوجته اللطيفة سيكبر أطفالها على ذلك الساحل ويتفرعون إلى عائلات، كل عائلة تركب سفينة في بحر الحياة، ولكل سفينة مجرى... تماماً كما أنا الآن راكبٌ في هذه السفينة ولا أعرف إلى أين سيقودني هذا البحر، هل سيقودني إلى ما يُسمَّى بالوطن، وهناك وبعد هذه الرحلة الطويلة سأكون غريباً بين أبناء جلدتي، ولربما أكثر وأشد من غربتي بين من لا أعرفهم ولا يعرفونني، أم أنه سيقودني إلى موانئ وجزر جديدة. أرى فيها أسواقا وحانات وبيوتا، وأرى ما لم أره من قبل، ما لم أره حتى الآن. البحارة قليلو الاندهاش وأنا واحد منهم، ولهذا يراودني أحياناً أن أعود لكي أكون طفلاً، فالأطفال يتمتعون بتفكير الدهشة أكثر من سواهم، ولكني بصراحة لست مستعدا، أو ليست مستعدة روحي لحساب ما خسرتْ وما كسبتْ... أنا إذا ما أردتم كسبت روحي هذه الجالسة في مؤخرة السفينة تفكر بالنادل العجوز وزوجته وحبيبتي وهم عائدون من توديعي، وخسرتْ... خسرتْ كثيراً حتى أن خساراتي لا يمكن أن تُعد ولا تحصى... خسرتُ كل شيء، ولكني بالمقابل كسبت كل شيء. كيف حدث هذا لا أدري. والآن فلتذهب بي السفينة أي مذهب، ولتعلو الأمواج، وتمزق الرياح الأشرعة، ويتحول خشب السفينة إلى طوف يحاول فيها البحارة وركاب السفينة النجاة من الغرق بلا جدوى. ففي الأخير أنا بحّار. والكتاب الذي يُسجل فيها اسماء البحارة لايقرؤه إلا القلة. وحين أغرق ـ لا سمح الله ـ سيُكتب تحت اسمي إنه غرق، أو لن يكتب... * مقطع من قصيدة بعنوان : “... كما تنام الكؤوس”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©