الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مريم المرَي.. قاصة من جيل (المفصل)

مريم المرَي.. قاصة من جيل (المفصل)
3 نوفمبر 2010 21:26
أقلام نسائية إماراتية (19) تحتل الكتابة النسوية مكانة استثنائية في المشهد الثقافي الإماراتي. فهي غنية بأقلامها واسمائها. مبادرة في موضوعاتها. غزيرة في انتاجها. متنوعة في إبداعاتها ما بين الشعر والقصة والرواية والريشة. هنا إطلالات على “نصف” المشهد الثقافي الإماراتي، لا تدعي الدقة والكمال، ولكنها ضرورية كمدخل للاسترجاع والقراءة المتجددة. يقول الفيلسوف المعتم “هيراقليطس”: “إنك لن تستطيع أن تغتسل في النهر مرتين”. ولو انتبه الدارسون جيدا إلى الدورة الخالدة للمياه، من مبدأ أمرها في السحب الثقال إلى عودتها إليها، لكان لهم نظرة مختلفة في مسألة النهر، ولأدركوا أن هيراقليطس ربما قصد في شذرته هذه أن الإنسان نفسه هو المتغير، وأنه يستحيل أن يكون هو الشخص الذي كان قد اغتسل في النهر قبل ثوان. وتفسير ذلك ربما ينطبق أيضا على تجدد المراحل في جانب الإبداع والثقافة بأشكالها، تجدد يحمل معه دماء وأصوات وأقلام جديدة لها من الممكنات والموهبة وملكة التعبير والشفافية، مما يجعل من فن الكتابة (القصة القصيرة على سبيل المثال) لاعبا أساسيا في إنقاذ الإنسان من شيئيته التي وضع فيها، باعتبار أن فن الرواية والقصة القصيرة هما من الفنون القادرة على الاختلاء بالإنسان وتغذية الروح الفردية وإعادة إحيائها من جديد لكي يسترد العالم تنوعه وأخيلته التي طمسها التلفاز والتكنولوجيا الحديثة المغلفة بأنماط غريبة من التعبير. من هذا المدخل نعبر نهر الكتابة إلى صوت جديد ومؤثر في عالم بناء القصة القصيرة، إنها القاصة الإماراتية مريم سعيد المرَي صاحبة مجموعة “الحلم التاسع” التي تأثرت في صياغتها بأجواء الموت لدى سلمى مطر سيف، وما كتبته الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي متجهة في أسلوبها وأفكارها إلى تقديم موضوعات تعبر بقوة عن الواقع، مع شفافية في تقديم سرد يتعزز بعناصر جمالية تقوم على تقنية الذاكرة الانتقائية، متأثرة في قراءاتها بكتابات نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وغابرييل غارسيا ماركيز، وعدد آخر من كتاب أميركا اللاتينية. وتقول المري إنها بالإضافة إلى ذلك اهتمت بتطور الفكر الفلسفي وتنوع مشاربه وتعددها، وكان أن حرصت على تشكيل رؤية فكرية وفنية سواء في مجموعتها القصصية الأولى “لوحة المطر”، أو في كتابها الثاني “كلما تسلقت السماء” انتهاء بمجموعتها الجديدة “الحلم التاسع”. أما حول توصيفها لما تكتبه في ضوء تعدد اهتماماتها الأدبية فترى المري أنها تميل إلى كتابة أدب اجتماعي رمزي، كما تحاول التجريب في غير مستوى من مستويات السرد القصصي، بهدف اختبار مهارات جديدة في فن القصة القصيرة وبخاصة في تقنية توظيف الصورة الفنية في بناء الأحداث ورسم الشخصيات والصراع واستخدامات اللغة في مستويات عدة. كما أنها تحاول الاستفادة بقدر كبير من التراث الثقافي في الإمارات، هذا الذي يبقى راسخا في ذاكرة الأجيال الشابة بما يتمتع به من أصالة وجذور كان لها الفضل في بناء نموذج متميز في كافة ميادين الحياة المعاصرة من نهضة تعليمية وثقافية انعكست بصورة أو بأخرى على التجارب الإبداعية للجيل الجديد. فاطمة المري تكتب في واحد من أصعب مجالات الكتابة (القصة القصيرة المكثفة)، لكنها تمثل بما أنجزته خلال سنوات قصيرة من أعمال شهد لها النقاد بالتميز بعضا من تفاؤل نحو خطاب سردي نسوي جديد، بفتح نوافذ الحلم المشرع والمباح للصوت الأنثوي المفعم بفضاءات تتقاطر مع التطور المتسارع الذي يشهده الإنسان المعاصر، وبخاصة أزمته في مواجهة جملة من التحديات والضغوط عزلته في ركن صغير من الظلمة والقلق والاستلاب. خيال جميل في سيرة مريم المري أنها تحمل درجة البكالوريوس في تخصص إدارة الأعمال والتسويق، تعمل في مجال الموارد البشرية، مهتمة بالترجمة والبحث وعلوم اللغة العربية وتدريب النحو، عضو رابطة الواحة الثقافية (تأسست في نوفمبر عام 2002 تلبية لرغبات الكثير من أهل الفكر والأدب ممن يحرصون على الحفاظ على الهوية الوطنية وترسيخ الأصالة ومحاربة التشويه والتبعية الفكرية). لها مجموعة قصصية بعنوان “كلما تسلقت السماء” ومجموعة أخرى بعنوان “لوحة المطر” عام 2003، ومجموعة من القصص من أهمها: لوحة المطر، قطرة ماء، الكائن الذي ولد، الفقاعة، اللقاء، المنحدر الشائك، وصدرت عن اتحاد الكتاب العرب عام 2002، كما فازت عن مجموعتها “لوحة المطر” بالمركز الأول في جائزة أندية الفتيات في الشارقة عام 2003 لإبداعات المرأة الإماراتية في الآداب والفنون. وتعتبر المري واحدة من أهم الأصوات القصصية النسائية في عقد التسعينات، كما سجلت بإنجازاتها الكتابية على أنها نموذج متفرد في الأسلوب والتعبير ورسم الشخصيات، وذلك الخيال الجميل من النوع العالي التركيز، بحيث نجحت في انجاز نصوص سردية صغيرة لكنها ممتلئة، وكبيرة، تماما مثل “الرصاصة” و”صرخة الولادة” و”كلمة الحق”. لأن هذا النوع من الكتابة يتطلب قدرة عالية من التكثيف وتوصيل الرسالة وتفاصيلها بالاستعانة بكافة أدوات التعبير وفي حيز محدود من الصفحات، بعكس الرواية التي تقوم على حادثة أساسية واحدة تتفرع عنها حوادث كثيرة، مما يفسح للروائي مساحة وفيرة من التعبير. لغة جريئة تمتاز مجموعة “كلما تسلقت السماء” بأنها تمتلك لغة في غاية الجرأة وصدق التعبير، كما أن بناءها خال من الزوائد والحشو الوصفي والاستطرادات، إضافة إلى تركيزها على خط قصصي واحد، كما أنها ترصد بمهارة شديدة حالات إنسانية ممتلئة بشقي الحياة المرارة والأمل، كما أن شخصياتها تطرح على الدوام تساؤلات عديدة ومهمة حول إعادة رسم الحياة أو الحزن والفرح، أما الأجواء التي لعبت فيها الشخصيات أحداثها، فقد رسمت بشكل رمزي بعيد عن نبرة الخطابية أو التقريرية، حيث يشكل استخدام (تقنية الخيال) وسيلة للتعبير عن دواخل الشخصيات، فهنا أحلام وهواجس صبي وحيد لأبوين منشغلين عنه في أمور الحياة، وقد وجد نفسه على الدوام حبيس جدران البيت الجديد الجميل ذي الأسوار العالية التي تحجب عنه إحساسه بالعالم الخارجي، فلا يجد أصدقاء أو أترابا يأنس بهم كبقية الصبيان، وفي هذا الجو الرمادي الرتيب، يتحول إلى (الوهم) أو أحلام اليقظة، ليستحضر خيال صبية جميلة يلعب معها في الحديقة في عزَ الظهيرة. هنا تناقش المري موضوعا في غاية الأهمية والخطورة معا، ممثلا في الإشارة لتدمير البنيان الاجتماعي للمجتمع، والذي يؤدي حتما إلى تدمير الأسرة من خلال كتابة تقوم على مثلث: اليقظة والوهم والأحلام. مجموعة “لوحة المطر” صدرت عن منشورات دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة عام 2007، وتتضمن تسع قصص قصيرة وهي مجموعة أهدتها القاصة “لكل الناس والأزمان والأماكن الذين تحمل لهم الروح مشاعر حب فيَاضة”. كتب الناقد إبراهيم الملا عن المري: “قصص مجموعة “لوحة المطر” مكثفة ومتعانقة من الجو السردي الذي يفيض بالأخيلة والمواضيع، ويجاهد من أجل القبض على الحالة الشخصية المتأزمة للشخوص. أما مجموعتها “كلما تسلقت السماء”، فقد أشارت في مقدمتها إلى أن هاجس المجموعة القصصية الأولى هو هاجس حاولت من خلاله أن تقدم عمق وجمالية الرؤية الإنسانية بوسيط أدبي هو فن القصة، وأنها حاولت أن تجسد هذا الحلم الشخصي في دفتي كتاب، ورغم أن البدايات دائما ما يغلب عليها الحماس على حساب النضج الفني، إلا أنها أرادت لتجربتها أن تكشف عن الرغبة في البوح، رغم تكاليف المغامرة..”. تحت عنوان: “قصَ بألوان ودلالات التشكيل” كتب الناقد الدكتور صالح هويدي حول قصة “قطرة ماء”: “القصة كما هو واضح تلتقي مع عنوان المجموعة نفسها بوشيجة الماء التي تتوحد فيما بينهما، تنتمي قصة مريم المري إلى الجو القصصي العام الذي تتمحور كثير من نصوصها حوله وأقصد به جو اللحظة الدرامية والصراع الذي يتكشف عن حالة ظلم أو خطأ يحيق بشخصياتها، وهو الجو الذي جعل تركيز القاصة على دخائل الشخصيات واستبطان مشاعرها في لحظات صراعها وتأزمها يبدو واضحا في نصوصها، ولعل ما يحسب للقاصة الشابة امتلاكها وعيا طيبا مكّنها من مغادرة موقف تصوير وقوع الظلم على المرأة من قبل الرجل، إذ عبرت عن حالتي وقوع الظلم من الرجل على المرأة تارة، ومن المرأة على الرجل تارة أخرى”. لقد استخدمت القاصة في هذه القصة تنويعات من الوسائل التعبيرية، كالوصف والسرد والحوار واستبطان مشاعر الشخصية الرئيسية التي يتم من خلالها وحدها استعراض مجريات المشاهد ونموها وانتهائها، إلى جانب التنقل بمهارة عالية بين زمني الماضي والحاضر، ومحاولة توظيف العالم الخارجي وموجوداته على نحو رمزي موح بمشاعر الشخصية ومعمق لتطور الأحداث القصصية، ومن استخدامات تقنيتي السرد والحوار ما نلمحه في هذا المقطع من القصة: “لا يزل ينتظر أن ينفرج قلب الغيوم عن أمل، إنها الرابعة بعد منتصف الليل والطريق خال وقد خرج يطلب شيئا من النسيم والعزاء، تعب، حياته غدت لا تطاق، انه يوشك أن يموت مختنقا والديون تتراكم عليه وقال لها: أحبك ولكن ما تطلبين فوق طاقتي. فردت منزعجة: لا يغلى على من نحب أي شيء. فضحك وقال: ولكن كلامك يدل على أني أرخص مما تطلبين”. الوصف والموضوع أما ضمن تقنية زاوية الرؤية فقد اختارت المري استخدام أسلوب (السرد الوصفي) أو السرد الموضوعي عند بعض النقاد، وهو الوصف من الخارج، متخذة من طريقة سرد الراوي لما يدور في أذهان الشخصيات، طريقة للوصول إلى توظيفه كمشارك في الحدث، ولعل ذلك يذكرنا بتقنية استخدام الراوي سواء في منهج الألماني برتولد بريخت أو حتى في استخدام المسرح الإغريقي للجوقة أو (الكورس) حيث كان الأخير يشارك في الحدث من خلال الوصف ونقل مشاعر الشخصيات الملتاعة لتحقيق فنية الصراع الداخلي وهو أقوى أنواع الصراعات المعروفة. وقد عرفت الجوقة عند الإغريق على أنها مجموعة من المغنين أو الراقصين أو الصامتين أو المعلقين تؤدي وظيفتها مجتمعة أو تفاريق، وتشترك في التمثيل بتعليقها على الأحداث أو بتحاورها مع الممثلين أو بصمتها المعبر أحيانا، ويقال إن الدراما اليونانية نشأت أصلا من الجوقة. في هذا السياق تتكشف لنا قيمة استخدام القاصة لعنصري السرد والحوار في أن أزمة الرجل إنما تعود إلى كونه ضحية لزوجته التي كانت تعامله كما لو أنه مشروع مالي أوآلة تنتج المال، ولم تكف طوال الوقت عن المطالبة بالمزيد، مما تسبب في تراكم ديونه، وهو ما أدى في النهاية إلى أن يراها وقد تحولت إلى كائن شائه قبيح ممتلئ بالجشع والغدر والأنانية: “وأخذت الجدران تعلو وتعلو من حوله وتتعرى من زيفها، والسوس يسخر منه ويلعق الرمال والحصى، وتشوش كل شيء فهرع باحثا عن الحمام، فليغسل وجهه بقطرات من الماء البارد، والباب، أين الباب؟ وراح يدور بين الحيطان العارية المشوهة والمصمتة تائها غائبا عن الإدراك، فاقدا القدرة على بلوغ الماء والنجاة والعطش يملآنه بحنق حاد، وروحه تجف، آه.. ما أشد العطش.. لا يجد لسانه، ولا صوته: قطرة ماء... ماء”. تصغي القاصة مريم المري لصوت موهبتها الحاضرة وتستجيب لنداء كيانها الأنثوي لتعبر عن هموم حقيقية للإنسان بشموليته وكامل هواجسه، جعلت من فضائها السردي أفقا مرآويا يعكس أحلام وتشظيات الذات تحت سلطة الآمر القامع، وفي قصصها تنعكس عبر متون البناء والأحداث مهارة المخيال الأنثوي الرقيق في تأسيس رؤية طريفة تتوق لامتلاك الزمن الخاص وتستشرف آفاقه وتضيء لغة شعرية تنفذ ترميزاتها إلى عالم المرأة بعد أن ظلت تعمل داخل الخطاب الذكوري، ومن أجواء ذلك قصتها “الفقاعة” التي تتناول موضوع خيانة الرجل لزوجته مع خادمة: “.. إنه لا يستطيع أن يصدق بأن أحمد يفعل ما اتهمته به هند، ومع ذلك لم يقل ما أن يلح في نفسه: إنه لأمر مستحيل أن يحب أحمد، أن يحب شاب كأحمد تلك الخادمة الذليلة.. إن الفكرة لتستعصي عليه، ولكن من يدري فلعل ما تؤكده هند صحيح، ولذلك تركت كل شيء وعادت إليه”. إنه على الدوام المثلث القاتل في الحياة منذ بدء الخليقة (الزوج والزوجة والعشيق) أو العكس كما في “الفقاعة” (الزوج والزوجة والعشيقة)، ولعل هذه ثيمة أثيرة وجدناها في السينما كثيرا، وهي متأصلة في المسرح، كما في مسرحية “أجامنون” للكاتب الإغريقي اسخيلوس أبو المسرح اليوناني (525 ـ 456ق.م). كما يبدو لنا من خلال هذه القصة أن المري في (عراك) يطرح قضية اجتماعية تشكل ظاهرة اسمها (الخيانة الزوجية)، وبذلك تقدم لنا شريحة موجودة في المجتمع المحلي وفي حياتنا، وقد أصاب هذه الشريحة مثل غيرها في العالم الكثير من الأمراض النفسية والاجتماعية والتي نالت منها بقوة، وأصبحت تهدد بنيان المجتمع بالتفسخ وتعرضه للسقوط بحراكها داخل منظومة وقيم المجتمع الكبير. ولقد حرصت المري في بنائها لهذه القصة على استخدام عنصر المفارقة، في إطار لغة بسيطة، أبرزت من خلالها بشاعة الواقع الآني وما يحمله من دلالات. حضور فاعل القاصة مريم المري ما زالت تؤكد حضورها على مستوى المشاركة في الأمسيات الأدبية، وعلى مستويات أخرى عديدة ذات صلة بالإبداع بوجه عام، ومن ذلك مشاركتها في أمسية قصصية نظمها لها نادي القصة باتحاد كتاب وأدباء الإمارات بقناة القصباء بإمارة الشارقة، وقرأت خلالها مجموعة من قصصها وسط حضور نقدي طيب، كما أشرفت من خلال مركز حور للفتيات في دبي على ورشة فن كتابة القصة القصيرة، بهدف إكساب الكاتبات الناشئات مهارات فن كتابة القصة، واطلاعهن على ابرز المدارس الفنية في مجال هذا النوع من الكتابة. قاصتنا من جيل المفصل، وهو الجيل الذي اطلع على تجربة المؤسسين وعايش تجربة جيل الوسط فأسس نفسه وانطلق برؤيته الفنية والفكرية نحو آفاق أكثر رحابة وفضاءات تستثمر الماضي والحاضر وتستشرف المستقبل لتحقيق معادلة الأصالة والمعاصرة، إنها من الجيل الذي يوازي حقبة التسعينات، أو العقد الثالث في عمر القصة القصيرة في الإمارات، لكن ما يميز المري هو نجاحها في توظيف أدواتها وخيالها وثقافتها للخروج من التكرار والنمطية والتقليدية في الصياغة والتعبير من خلال استخدام عناصر متوافرة في الدراما المسرحية وبخاصة ما يعرف بـ (المونولوج الدرامي) بأسلوب يذكرنا بقصيدة روبرت براوننغ الموسومة بـ “عاشق بورفيريا”، ووجه الشبه ما بين القصيدة وبعض قصص المري واضح ومتعدد ومن ذلك وجود (ضحية)، كذلك وجود مشاعر الغيرة ووجود متحدث ومخاطب، واستخدام الحلم وتكنيك الحدث الاسترجاعي (الفلاش باك) وكلها وجدت طريقها إلى قصص المري في إطار مدهش من الاستخدام المحسوب ضمن أطر إنسانية بليغة تستغل مجاز الحبكة أو (الحياكة) كما في قصتها “إلى اللقاء” حيث تكتب بطريقة جدية، وصور رمزية تحمل اهتمامات واضحة بقضايا وإشكاليات المرأة. مريم المري قاصة جديدة واعدة قادمة إلى الساحة الثقافية بخطاب سردي ممتلئ بالقوة والجرأة، تكتب بمفردات بعيدة عن التبعية، إنها تقدم من خلال مجموعاتها القصصية قراءة واعية وعميقة للمجتمع، فعرضت لنا نماذج إنسانية مركبة في معاناتها وأحلامها وحتى عذاباتها، أما الإمارات بالنسبة لها فليست مجرد وطن وحسب، انها حالة متوقدة تستلهم منها أفكارها، ورؤيتها للعالم، ومن ذلك الزخم المفتوح على الثقافة والفكر والإبداع وحوار التجارب والثقافات، عبرت إلى فضاء التعبير عن الإنسان أينما كان في صياغات شمولية، تنبئ عن كاتبة تملك قاعدة الانطلاق إلى فضاء الكتابة المقتصدة، بحيث أنك لا تستطيع أن تجتزئ مما تكتبه حرفا واحدا مهما كانت الخطوط التي تسير عليها كلماتها. «الثقب الأسود» امرأة سقطت من حسابات الزمن والعصر على الرغم من أن القاصة مريم سعيد المري تقدم في قصتها “الثقب الأسود” عالما فيه ملامح من كتابات الخيال العلمي وجانبا من رومانسية غامضة، إلا أنها عرضت وبمهارة عالية حكاية امرأة سقطت من حسابات الزمن ثم عادت إليه فعانت الضياع وآلام التأقلم. امرأة تبحث عن حنان مفقود على الأرض. ومن خلال قصتها هذه تسعى إلى دمج فكرة علمية بحتة بلحظة لا شعورية خيالية، لكي ترسم الحالة النفسية لبطلتها: فكان أمامها خياران: إما أن تكون نجمة، أو أن تكون فراغا كونيا، يستمد روعته من أجرامه، أن تصبح ثقبا اسود، وهو ما يمثل حالة الموت البطيء والفراغ المؤلم، حتى مع اشتعال النجوم والأجسام المنجذبة إليه، أو أن يمتصها ثقب أسود، ما يعني لحظة اشتعال جديدة يصرخ فيها وهجها، فيعبر زمان ومكان الكون الفسيح. كما يبدو لنا فإن القاصة استخدمت رمزية عالية في إيقاع رومانسي لتصوير حالة البطلة التي تصطدم بمظاهر التغير الحاصل على كل شيء، حتى للبشر والعاطفة الإنسانية، فكيف لها أن تعايش عالما متغيرا بمفاهيم أصبحت هي متخلفة عنها. ويلفت الانتباه في القصة تلك (البكائية) التي رسمتها القاصة، في تعبير رمزي عن الأنوثة التي ظلت حبيسة داخلها، فتبحث دوما عن الخلاص بالموت رغم ما يجتاحها من رغبة جامحة في الحياة بأقسى صورها: “أحيانا تعتقد أن تركيبة في داخلها مريضة، قد تسببت في هذه الرغبة المرعبة في الحياة، حتى لو اختارت الموت طريقا لها، فما عادت قادرة على تجنبه أكثر من ذلك.. لا بد أن سلك هذا الطريق، تحس أن نبضا في الروح يرشدها، قلبها الذي إن حاولت التخلص منه صارت ثقبا أسودا، وان أبقت عليه انقادت إلى ثقب أسود”. من ميزات قصة “الثقب الأسود” أنها تتمتع بخيال واسع خصب وبلغة شاعرية عالية المستوى وترسم الدهشة على ملامح وجوهنا، فالبطلة المأزومة تحلم على الدوام بالحب والحرية حتى وان كانت سببا في هلاكها، ولأن الهوى يدور في دم العشاق، فان أقدامهم دائمة الألم وتدور مع الأرض، فهذه النجمة الوحيدة التي تعاني، لا تخشى الفناء، فمن أجل حلمها الإنساني لا شيء يمنع أخيرا من أن تلتحم في الثقب الأسود الذي تلتحم به النجوم وتنصهر وتذوب وتصبح لا شيء: “كم كان فرحا ذلك الثقب عندما ومضت له النجمة بإشارة اقتراب.. لم تعد تبصر لكن حساسيتها المرهفة نمت، فراحت تتمتع بالاستشعار في الظلمة التي تغرق كل شيء، كم تحس بالسعادة فقد اكتشفت أن الثقب الأسود حي أكثر من الحياة، وكم هو جميل أن تحس بنبض قلب يؤنسها”. القصة كما نلاحظ عامرة بصور فنية متنوعة، يلعب فيها (الغموض) دورا مهما في تصوير ذلك الحنين الجميل لدى البطلة إلى مغامرة بحجم النجمة في السماء، انه تصوير بارع لتشابك الموت والحياة، وكيف تخر الرغبة أمام هيبة جمال الكون والسماء وسطوع النجوم، بحيث يمكن للشعور الداخلي المتدفق أن يدفع البطلة إلى حب نجمة في السماء، مستعيضة عن ذلك، أما الإيقاع الذي كانت تتحرك به البطلة فجاء في غاية من الروعة وكأنها خارجة للتو من كتاب الحوريات، ومعهن جيش الأحزان يزحف حاملا معه الأسى المرير على الدوام.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©