الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ألغام «التاريخ الكولونيالي»

ألغام «التاريخ الكولونيالي»
6 ديسمبر 2017 20:05
ترجمة: أحمد عثمان في الجزائر، حقق هذا الكشف شيئاً من القلق والانزعاج: في نفس العام نقل جثمان عبد القادر الذي كان يوارى الثرى في دمشق إلى مقبرة الشهداء بالجزائر. نشر كزافييه ياكونو (1912 ـ 1990)، مؤرخ أكاديمي جاد للغاية، مقالاً يبيّن في متنه أن الأمير عبد القادر كان ماسونياً (1). بهذا الكشف يتصادم التاريخ مع الميثولوجيا القومية، ولا يمكن نفي الحدث برفع لافتة «التاريخ الكولونيالي» الشائنة. بما أن المقاوم الرئيسي للتدخل الفرنسي، الذي تم النظر إليه بصورة أساسية باعتباره البطل/‏ المؤسس للجمهورية الجزائرية، انضم إلى جمعية مشبوهة مثل الماسونية، يتبدى أن الأمر سبب الكثير من البلبلة، وأيضاً ألقى شيئاً من الضباب على «حصن» تاريخه الذي بنته الجزائر: تحديد تاريخ الأمير من خلال السنوات 1832 ـ 1847 فقط، أي الخمسة عشر عاماً التي خاضها عبد القادر في مواجهة التدخل العسكري الفرنسي في الجزائر، وسعى عصر ذاك إلى تنظيم، في الغرب الجزائري، نواة دولة تمثل دولة الاستقلال. هذا الابتسار يشمل أن الأمير كان، خلفاً لوالده، شيخ الطريقة القادرية القوية، وكذلك خمسة وثلاثين عاماً من عمله المشرقي الثري للغاية، التي تمكن خلالها من مضاعفة إعلانات الولاء في مواجهة فرنسا، والأوسمة التي حاز عليها من القوى الأوروبية بخصوص تدخله الشجاع لصالح المسيحيين العرب في دمشق في عام 1860: أخيراً، نسيان الكتب الصوفية التي خطها قلمه في دمشق، ورغبته الرسمية في الدفن بقرب معلمه بن عربي. اليوم، من الممكن القول، علاوة على ذلك، أنه كان ماسونياً! أي تلغيم مكانة الزعيم التي نصبتها الجزائر لشخصه. هذا النقاش المعقد والمتذبذب، أسعى إلى تحليله تحت زاويتين. في البداية، التركيز على الأحداث المؤرشفة التي أشارت (أو انتقدت) إلى هذا الانضمام، ورؤية كيف يمكنني التعامل مع هذه الوثائق، ثم البحث عن فهم أسباب الرفض الراديكالي من جانب الجزائر، فيما يخص الانضمام إلى الماسونية، في وقت لم تكن فيه عملاً فاضحاً أو مقيتاً. سوء فهم كبير الهجوم المضاد الأكثر صرامة تأتي من قبل محمد شريف ساحلي، وهو مؤرخ منتمي إلى «جبهة التحرير الجزائرية»، ويعتبر المؤرخ الرسمي لبلاده (2). في الواقع، كان نصه متماسكاً للغاية ولم يترك أي نقطة تناولها نص ياكونو. بعض الباحثين الجزائريين اقتفى أثره، وعلى وجه التحديد د. بنعيسى، التي كانت إضافته مشوّشة للغاية. كان لديهما اقتناع كبير، اقتناع راديكالي يصل إلى حد الشك باستحالة ـ وذلك من خلال نقد متطرف للغاية ـ الانضمام الشكلي للأمير إلى الماسونية. لنبيّن الأحداث موضوع النزاع، أياً كان الوضع في متن النقاش: 1 ـ بعد أحداث دمشق 1860، بعث محفل هنري الرابع التابع لمحفل الشرق الأكبر الفرنسي برسالة حماسية تحثه على الانضمام إلى جمعيتهم. رد عليها، كعادته، بطريقة مجاملة، شاكراً كاتبيه على إهدائه جوهرة صغيرة ماسونية وقبوله لهديتهم، وعلّقها على مشجب الأوسمة والنياشين التي تلقاها من كبرى العواصم الأوروبية، تحديداً وسام جوقة الشرف. 2 ـ بعد عودته من إقامته الطويلة بمكة في عامي 1863 ـ 1864، استقبل عبد القادر بحفاوة، في 18 يونيو من عام 1864 من قبل أعضاء محفل «أهرام مصر»، بالإسكندرية، المفوض رسمياً من قبل محفل هنري الرابع بإتمام إجراءات انضمامه. 3 ـ خلال إقامته الحافلة بفرنسا، صيف 1865، قام الأمير عبد القادر باحتكاكين مهمين مع الماسونية: في الأول من يوليو، استقبل وفداً من محفل الشرق الأكبر (الفرنسي)، لكي يقرر اتحاداً شكلياً، بيد أن التزاماته المهمة للغاية منعته من دون شك من الذهاب إلى اجتماع منعقد على شرفه في 26 أغسطس. أتاحت هذه المقاربات الشكلية الفرصة للاطلاع على الكثير من الوثائق ونشر عدد من الوثائق (أعاد نشرها ياكونو وبرونو أتيين (3) التي اختبرت بعناية وإتقان من قبل مختلف المتدخلين في هذا النقاش. من تحليل النصوص في نسختها العربية والفرنسية، رأى برونو أتيين أن هناك سوء تفاهم كبيراً، ومتبادلاً فضلاً عن ذلك، جرى بين الأمير و«إخوانه» من الماسونيين. هؤلاء المتحمسون بأسطورة الأمير البطولية يجهلون مكانته الروحية. بالنسبة له، لم يكن هذا التبادل سوى جزء من شبكة علاقاته الكبيرة التي كان يقيمها من دون أي قيد أو شرط بدءاً من عام 1848 مع الكثير من الشخصيات المتنفذة، ومن ضمنها بعض العسكريين المتهمين بارتكاب جرائم حرب في الجزائر، بالإضافة إلى أنه لم ينفر من الأسرار الكثيرة لجمعية أخوية، غربية، تشبه إلى حد كبير الجماعات الصوفية. متى قرر الأمير الابتعاد عن الماسونية؟ اختزل ساحلي بالتأكيد هذه العلاقة السيئة، ورأى وجود قطيعة في اللقاء الذي كان مقرراً عقده في 1865. بيد أنه أكد وجود علاقات شخصية، وهناك افتراض آخر، يدعمه برونو أتيين تحديداً، هو أن الأمير مكث في منطقة النفوذ تلك على الأقل حتى الانعطاف العلماني للتنظيم في عام 1977. اتفق جميع المؤوّلين مع ذلك على نقطة واحدة: خلال سنوات «انضمامه» لم يكن للأمير أي نشاط نضالي في الإطار الماسوني. شيطان المفارقة التاريخية لنرجع إلى ما يثير الضيق: أنكر ساحلي، ومن خلفه بقية المحللين الجزائريين، بشدة أن عبد القادر ماسوني. ما وراء النقاط غير المؤكدة التي تعتبر اليوم أدلة مضادة، ركزت الوثائق على التقارب الواقعي الذي من الممكن دحضه. وفي نهاية المطاف، طرح دليلاً تصورياً: صورة مناقضة لصورة الأمير في الجزائر، بعض النصوص التي تنسب إليه «عبثية ولا يمكن تعقلها» (ساحلي ص. 36). لم يستطع الأمير الانضمام إلى أي جمعية ملحدة بالقوة: يتعلق الأمر إذن «بالإيمان الأخلاقي» (ص. 39). بالنسبة لساحلي، ذلك استغلال سياسي من قبل نابوليون الثالث، وبالنسبة لآخرين، هو عملية احتيال مارستها القوى الماسونية في تزييف أو تعديل بعض الوثائق المشبوهة. كيف يمكن إعادة النظر إلى كل هذا بنظرة عقلانية؟ في هذه المسألة، النقاش ملغم بشياطين المفارقة التاريخية. في البداية، صورة عبد القادر، بالتأكيد، أكثر تعقيداً من تناول الخيال الوطني المكون بعد عام 1966. ثم ماسونية ثمانينيات القرن التاسع عشر غير تلك التي تبلورت تحت الجمهورية الثالثة، في دفاعها عن العلمانية، وهو الذي أبتعد بها عن الإنسانية الدهرية، المصبوغة بالروحانية متعددة الأشكال، الوريثة في الشرق لعقائد السان سيمونية (4). أخيراً وعلى وجه الخصوص، إذا كان المثقفون العضويون للدولة (جبهة التحرير الوطنية) أصيبوا بحالة من الهلع من هذه الجمعية، فهذا يرجع إلى أنهم يستقون أفكارهم من الأفكار النمطية التي طورتها الأوساط الكاثوليكية المتزمتة واليمين الفرنسي ما بين الحربين العالميين، عن المؤامرات «اليهودية - الماسونية». عن هذه النقطة أيضاً، ورث النظام الجزائري في مرحلة الاستقلال الأذواق المحلية والاستيهام. ومع ذلك، كما يجري دوماً، هناك من يريد توقيف التاريخ ببعض الصياغات النهائية. الأعمال الصارمة لكوكبة من الباحثين الأوروبيين ذوي النوعة الصوفية (شودكيفيتس، أتيين، لاغارد، جوفروى، بويردين) أضاءت وأثرت كل ما يمس البعد الروحي للأمير، بدءاً من عام 1852. من الصعب، بالنسبة لمسألة الإصلاح المناهضة لتعظيم الأولياء، حصرها فقط في البعد الجهادي والسياسي إزاء الحملة الفرنسية، ولا سيما أن دخول الإسلام إلى البلاد استدعى السياسيين أنفسهم إلى البحث عن التلويح ـ ضد الأيديولوجيات المتطرفة «القادمة من الخارج» ـ بفكرة الإسلام الجزائري الخالص. مختلف جمعيات الأمير عبد القادر تعمل على تعريفه «كبطل الضفتين»، الذي وحد بين الشرق والغرب، بين الإسلام والحداثة، وهذا يؤدي بنا إلى الإقرار أخيراً والتصديق على تحوله عن الماسونية. فتنة 1860 فتنة العام 1860 في لبنان وسوريا، جرت بين الموارنة من جهة والدروز والمسلمين من جهة أخرى. بدأ الصراع بعد سلسلة من الاضطرابات توجت بثورة الفلاحين الموارنة على الإقطاعيين وملاّك الأراضي من الدروز، وسرعان ما امتد إلى جنوب البلاد حيث تغير طابع النزاع، فبادر الدروز بالهجوم على الموارنة. وامتدت الأحداث إلى دمشق وزحلة وجبل عامل وغيرها. وتكمن أسباب الفتنة في سنة 1839، عندما أصدر السلطان محمود الثاني حزمة من القوانين الجديدة وسميت (التنظيمات)، حيث ساوى بين مواطني السلطنة بالحقوق والواجبات بصرف النظر عن دينهم أو عرقهم أو قوميتهم. وعليه نشأت علاقات تجارية متميزة بين الأوروبيين من جهة ومسيحيي ويهود سوريا من جهة أخرى. واعتمدت الدول الأوروبية على المسيحيين واليهود من سكان دمشق لمساعدتها كمترجمين ووكلاء تجاريين، فأصبح هؤلاء من الأغنياء واكتسب العديد منهم حصانة دبلوماسية بحصولهم على جنسيات أوروبية. وفي عام 1858 وضعت السلطنة قانوناً يسمح للأوروبيين وأعوانهم في سوريا بشراء الأراضي من نبلاء دمشق المسلمين ليخفف عنهم عبء الديون، كل هذه التغيرات الاقتصادية لعبت دوراً في زيادة غنى الأغنياء (خصوصاً من المسيحيين واليهود) وفقر الفقراء (بشكل خاص من المسلمين)، وهو ما أسهم في تسعير التوترات التي أدت إلى نشوء اضطرابات دموية طائفية الطابع. ...................................................... الهوامش: (*) فرانسوا بويون، آنثروبولوجي، مدير وحدة الأبحاث بمدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية. (**) François Pouillon, “L’émir Abdelkader, franc-maçon ?!”, Qantara, 99, avril 2016. [1] Xavier Yacono, «Abd el-Kader franc-maçon», Humanisme, 57, 1966, p. 5-35. [2] Mohamed-Cherif Sahli, «L’Emir Abdelkader, la franc-maçonnerie et Napoléon III» in L’Emir Abdelkader. Mythes français et réalités algériennes, Alger, Enap, 1988, p 15-40. [3] Abdelkader et la franc-maçonnerie, Paris, Dervy, 2008 (4) السان سيمونية، حركة سياسية اجتماعية فرنسية بدأت مع بداية النصف الأول من القرن التاسع عشر، ألهمت بأفكار الفيلسوف السياسي الفرنسي هينري سان سيمون (1760 – 1825). قام أتباعها بدور كبير في تحديث مصر خلال حكم محمد علي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©